أيام الصحوة...الحلقة (1)
المقدّمة
لن أكون موضوعيّا أبداً وأنا أتحدّث عن ذكرياتي.. هذا ما أريدك أن تعيه أخي القارئ منذ البداية، سأنقل ما شاهدته، وما عايشته، وما كان معلوماً ومتيقّناً تلك الأيام.. أيام الصحوة ! ولكنّي سأنقل ذلك بخلايا المحب، ونبضات المتأثر، وذكريات الممتن..
لست محور الحديث وإن ظهر لبعض القرّاء ذلك، ما أنا إلا عدسة سأوجّهها إلى أيام عشتها أصبح من المتعارف أن يعبر عنها بالصحوة.. الصحوة منتج بشري فلا بد أن تتكلم بلسان إنسان حتى تُبين، وتنظر بعينيّ إنسان حتى تسير، وتظهر بملامح إنسان حتى تتشكّل، وتتنفّس برئة إنسان حتى تدبّ فيها الحياة..
وللأسف _ أقولها والله بصدق _ كنت أنا في هذه الأسطر: الإنسان الذي سيتحدث شيء من الصحوة: بلساني وملامحي وعينيّ ورئتي ! فأي إسهاب عن ذاتي إنما هو لتشكيل الصورة، أو تفاصيل عميقة عن حياتي فهي لإبعاد التسطيح عن تلك الأيام الجميلة..
ولأني لا أستطيع الحديث عن الصحوة بمعناها الكبير، الذي يمتد ليصل إلى الجزائر وتونس والمغرب، ويعود ليصل إلى باكستان وأفغانستان وإندونيسيا ويتشكل في اليمن وينبض في فلسطين ويتكوّن في الكويت ويحيا في السعودية.. في السعودية بكل جهاتها ومناطقها ومدنها وقراها..
ومعناها المديد المنبعث قبل أن أولد بعشر أو عشرين أو ثلاثين سنة.. والمستمر حتى اللحظة، لأنّ الصحوة في نظري لم تمت، وإنما انتقلت إلى طور آخر !
لا أنا، ولا غيري سيستطيع الحديث عن تمظهرات الصحوة في هذه الأماكن، والأزمنة.. إذن: الحديث عن بيئة صحويّة عشتها، تتشابه _ من المؤكد أنها تتشابه _ مع العديد من البيئات وتختلف اختلافات لا أظنها جوهرية مع غيرها..
ثم إن هذه البيئة لم أحط بها علماً: باختصار.. حديثي عمّا عشته أنا في بيئة محددة، بل عمّا بقي في الذاكرة مما عشته، بل عمّا يناسب ذكره مما بقي في الذاكرة مما عشته في بيئة محددة.. ومع كل هذا فأنا أزعم أن ما سأذكره سيكون فيه إضافة، وسيتراءى الكثير ذكرياتهم في ذكرياتي، وأنفسهم في نفسي، وأحلامهم في أحلامي.. لذا فقد قررت أن أكتب !
ليس المهم المـُشاهِد وإنما المـُشاهَد.. وليس المحور العائش وإنما المـُعاش، وليس التركيز على المُعاصر وإنما العصر..
ولكن ولأغراض سرديّة بحتة سأتحدّث عن شيء من خبايا روحي، وعن بعض خصوصياتي مما سيكون مثل اللون الذي يظهر تفاصيل اللوحة أكثر.. سأذكر بعض حياتي الخاصة ليكون كالأبعاد التي تتأكد بها زوايا الصورة..
سأسطر شيئا مما بقي عالقاً في ذاكرتي من ذكريات ومشاهدات وأحاسيس وأشياء نثرتها أيامي في عشر سنوات عشتها: بدأت في عام 1991م/ 1411ه وهي سنة غزو صدام حسين للكويت وما قبلها بقليل تقريباً.. وانتهت عام 2001م / 1421ه وما بعدها بقليل.. وإن شئت فقل: ذكريات ما بين غزو العراق للكويت، وغزو أمريكا للعراق، ما بين تجبّر صدّام، وانهزام صدّام ! ما بين سقوط القيم.. وسقوط المبادئ.. فلا تنتقدوا ذكريات مليئة بالوجع والحزن وهموم الأمة سطّرت بين حربين ! وكتبت عن أيام عاشها شاب بين كارثتين، وشكّلتها أنفاس ونبضات استنشقت بارود معركتين !
ما قبل وما بعد ذين التاريخين لن أتطرّق إليه إلا على سبيل تمهيد أو تمثيل أو استطراد.. أنا معنيّ بتدوين ما شاهدته في هذه العشر فقط.. وما له علاقة واضحة بظاهرة الصحوة الإسلامية في السعودية.. إضافة إلى شتات ذكريات تشكّل الصورة، وتضبط الإيقاع.. تضيف إحساساً وحركة.. من خلال عدستي أنا، واعتقاداتي أنا، وما أسمعه وأشاهده وأظنّه أنا.. فالمبالغات عائدة إليّ.. والتقصير ذنبه عليّ..
أنتم على موعد مع سيرة غير مكتملة عاشت:
حرب أفغانستان.. واحتلال الكويت.. وحرب البوسنة.. وتوهّج الانتفاضة.. عاشت المراكز الصيفية.. وحلق التحفيظ.. والرحلات الشبابية.. عاشت أشرطة المحاضرات.. والأناشيد.. والخطب.. عاشت ظهور أصحاب الثياب القصيرة.. واللحى الوضيئة.. عاشت رقي إيماني.. وتساقط إيماني أيضاً.. عاشت: ليلة خميس.. طرّز بها نور القمر شط البحر.. وعاشت أيضا: بارودتي بيدي.. وبجعبتي كفني..
خطوط عريضة
وُلدت ضحى يوم الخميس من ربيع الثاني عام 1397ه.. في بيت قديم بحي الأخوياء في مدينة تبوك، فتحت عيني على شوارع ذلك الحيّ الضيّقة وعلى ناسه البسطاء وعلى أسياب البيت المتضايقة.
كان ترتيبي السابع في العائلة، يكبرني سبعة منهم ابنتان، ويصغرني ثلاثة منهم ابن.. وكنا إخوة رجالا ونساء من أمّين وأب..
كان يسكنني حياء غريب، أو هو خجل مقيت، أو هي حالة نفسيّة أكثر تعقيداً من الحياء، إنّه انطواء ورغبة في الانعزال، أذكر من مظاهرها في أيام طفولتي الأولى في حي الأخوياء: أني كنت أقف عند باب البيت فإذا ما بزغت سيارة من طرف الشارع أدخل البيت حتى تختفي في الجهة الأخرى.. ثم أعاود الخروج وهكذا..
عشت في ذلك البيت مع أسرتي خمس سنوات تقريباً، لا أذكر منها إلا صوراً متناثرة ومواقف مبعثرة، وعلى أي حال فليس لتلك الفترة من حياتي علاقة لا من قريب ولا من بعيد بحقبة الصحوة.. لذلك سأضرب عنها الذكر صفحاً.. لأنتقل إلى بيتنا الجديد..
تسلّم والدي _ رحمه الله _ بيتاً بالمدينة العسكرية، فأبهرتنا ضخامة ذلك البيت، فتمددت ذكرياتنا هناك بعد أن كانت تتحسس أسياب البيت القديم..
أذكر الآن صباحات ذلك البيت الجميل وكيف أنّ أمي حفظها الله كانت تزيّنها بأصوات القرّاء الكبار رحمهم الله، فقد كنت أستيقظ في أيام الإجازات على صوت عبد الباسط عبد الصمد او المنشاوي أو محمد أيوب أو غيرهم.. وهم يرتلون كتاب الله عبر إذاعة القرآن الكريم.. والأجمل في خيالي الآن من تلك التلاوات كلّها صوت والدتي وهي تتهجّى القرآن بلهف، وتقرأه وهو عليها شاقّ.. فأستيقظ على تلاوتها الدافئة جدّاً.. والتي تغريني بمزيد من النوم..
ومما أذكره مما يصلح تمهيداً للتربة التي انررعت فيها نفسيتي الصحويّة أن والدتي كانت تسألني بعد أن علّمتني الصلاة: هل صليت يا عليّ؟ فأكذب وأقول لها نعم.. فلم تكن تؤنبني أو تكذّبني وإنما تقول بكل بساطة: إن الله يعلم وسوف يحاسبك..
هذه الكلمة كانت أشد سوط أُضرب به، فكنت أسهر الليل حتى تنام أمّي وتستغرق في نومها، ثم أزحف زحفاً حتى لا تستيقظ فتكتشف أن ابنها كذب عليها، فأتوضّأ وأصلي ثم أنغمس في فراشي وأنام..
مات والدي وأنا بعدُ في السادسة من عمري..
بعد موت أبي بأشهر كان موعدي مع المدرسة ذلك الشبح الكئيب الذي أتمنى أني عشته كما يعيشه أبناء اليوم، أظن أن كثيراً من الطوباوية والشاعرية _المقيتة_ كانت ستخفّ في شخصيتي لو حدث ذلك..
المحزن هو أن أول يوم في دراستي كنت فيه بدون أب.. ولكني _ شهادة أدين الله بها _ إن كنت بدون اهتمام أب فقد كنت _ وبوضوح أذكره جيداً _ برعاية رب..
بكيت في اليوم الثاني من الدراسة فنظر إليّ أحد الطلاب ونبزني بالجُبن بصيغة التأنيث ! فأحرقتني كلمته.. وفي اليوم التالي مباشرة جاء المدرسة يبكي ويهرب من والده، ثم اختفى فلم أره بعدها أبداً.. فصنع ذلك المشهد وذلك الانتقام _ أو ما ظننته انتقاماً_ في نفسي دفئاً، وبأنني سأكون في حفظ الله ورعايته.. وقد كان ذلك في جميع تفاصيل يُتمي.. وفي جميع تفاصيل يُتم وحياة جميع البشر.
في مدرستنا كان أستاذ حامد السوداني هو أول أستاذ يمر بذاكرتي، كان أباً للجميع، وأتذكر طبلته وأنشودته الشهيرة:
سعودية يا سعودية
يا أرضي الإسلامية
من أرضك.. من شعبك
تحيا الأمّة العربية..
يا بلادي يا سعودية..
يا أرضي الإسلامية..
هنا في المدرسة " السعودية " بحي المنشيّة ذكريات وطرائف تريدني أن أرقمها ولكنني أجبر قلمي على تجاوزها.. لأنتقل إلى الابتدائية الثالثة ولانتقالي هذا قصة طريفة ليس هذا موضعاً مناسباً لذكرها..
أكملت سنة ثاني ابتدائي ثم ثالث ورابع في الابتدائية الثالثة بالمدينة العسكرية، أما خامس ابتدائي فقد درست جزءا منها في ابتدائية " الخالدية " ثم انتقلت إلى ابتدائية " زيد بن حارثة " فأكملت الخامس والسادس فيها..
إذن فقد درست المرحلة الابتدائية في ابتدائيات: السعودية والثالثة والخالدية وزيد ابن حارثة !
أربع ابتدائيات كانت بداية لمشوار حياة كلّها تنقّل، سواء على مستوى المدن، أو المدارس، أو الكليات، أو الوظائف، أو القناعات، أو المشاعر !!
ماذا بقي مما يحسن أن أكتبه في الخطوط العريضة؟
أها ! كنت متوسّط أو ضعيف القوّة، لدي لين في عظام الصدر، وإن كنت مستصح البُنية فيما يظهر للناظر، انطوائياً، أترنّم بالآهات غالبية الأوقات بكلام ليس له معنى، دائما ليس عندي إلا صديق واحد، أكره العزائم، أو أي مظهر اجتماعي، أحب أمي حبّاً غريباً متعباً لدرجة أن الأيام التي كنت أذهب فيها إلى المدرسة دون أن أبكي عليها معدودة !..
وعلاوة على كل هذا كنت يتيماً.. أتذكر طفولتي الآن فأرى أن اليُتم كان خلفيّة رماديّة لكل أيامي الأولى في هذه الحياة..
أظن أن هذا يكفي كخطوط عريضة لشخصيّتي التي ستكون عدسة لأيام عشتها وتأثرت بها أسمها " الصحوة "..
استريو غازي
طفل في السادسة الابتدائية كان راكباً مع اثنين من إخوته في سيّارة زميل لهما، وكان صوت أغنية " إلى من يهمّها أمري " لمحمد عبده صادحاً من سمّاعات سيّارته، كان هذا عام 1409ه، أعجبته تلك الأغنية، فطلب من ابن عمّه بعد أيام أن يوصله إلى إحدى محلات بيع أشرطة الغناء، وبالفعل أوصله ابن عمه.. أو لأكون صريحاً: أوصلني ابن عمّي إلى " استريو غازي " في الخالدية (والذي سيكون لي معه قصّة طريفة سأدوّنها فيما بعد) اشتريت الشريط وعدت إلى البيت وأنا أشعر بسعادة غامرة، فهذا أول شريط غناء أقتنيه، أدخلت الشريط في المسجّل، ولم يمهلني ذلك المسجّل الرديء أن أكمل الوجه الأول من الشريط حتى ابتلع الشريط، أخرجته وقد انفرط، حاولت أن أنعشه، أن أصلحه، لم يحالفني الحظ، أو أن الحظ حالفني بالفعل (مع التحفّظ على العبارة) ! فرميت أول وآخر شريط غناء اشتريته، قبل أن أنهي سماعه كاملاً..
لم أكن أعلم شيئاً عن حُرمة الغناء، نعم سمعت قبل ذلك بعام أو اثنين من أخي " عبد الله " الذي يكبرني بأربعة أعوام أن الغناء مزمار الشيطان، ولكنّي لم آخذ تلك المعلومة التي سمعها بدوره من أحد معلّميه بجدّية.. وفي العموم فلم تكن قضايا الحرام والحلام في مثل هذه الشؤون مما يهمّني، كنت طفلاً أستيقظ على برامج ومسلسلات التلفزيون وسهرات الخميس ومسرحيات الجمعة، ومع ذلك فقد يكون علمي بحرمة مثل هذه الأمور سيصنع شعوراً بالذنب ويشكل عدم راحة لسماع الغناء، مهما كان يسيراً إلا أنّه يبقى أفضل من عدمه.
مهّدت بهذه الحادثة العابرة لأكشف عن ميل داخلي عندي منذ طفولتي لسماع الأصوات الحسنة، جعلني فيما بعد أدمن سماع أشرطة الأناشيد والتي وإن كان غرضي الأوّل من سماعها الاستمتاع بالأصوات الحسنة إلا أنّها ودون أن أشعر كانت تشكّل نفسيتي على ضوء كلمات تعالج قضايا الأمة الجريحة، وتدعو إلى الجهاد.. فانتقلت تلك المعاني من أذني إلى قلبي، إلى اللاوعي عندي، فصرت مؤمناً ومعتقداً بأهمية محتوى تلك الأناشيد من معاني: العزة، والأخلاق، والجهاد، والفضيلة..الخ
مع الشاشة
بعد عام كنت طالباً في الأولى متوسط أقضي جلّ أو كلّ وقتي أمام شاشة التلفاز، لا يفوتني مما يُعرض في التلفاز إلا نشرة الأخبار، والتي كافحت طويلاً لأضيفها إلى قائمة مشاهداتي دون أن أفلح !
ولي مع التلفاز قصة طويلة، فقد بدأ إدماني عليه وأنا بعدُ في الثالثة والرابعة الابتدائية، بل وقبل ذلك، ولم أكن طفلاً يُعني بمشاهدة " هايدي، وجرندايزر، والكابتن ماجد.. " وبقية البرامج الكرتونية والطفولية فقط، لا، بل كنت أشاهد المسلسلات المصرية في التاسعة مساء، والأردنية (البدوية) بعد المغرب، والكويتية صباح الخميس، والمسرحيات ظهر الجمعة، والأفلام الأجنبية مساء الأربعاء والخميس ! بل والسهرات والحفلات الغنائية، كان بيتنا كأغلب بيوت الشعب السعودي، ينصب التلفاز وسط الصالة، ثم لكل فرد حرية مشاهدة ما تبثّه القناة الأولى، إذ انّه لم يكن هناك غيرها، وكان هذا بالفعل ما تبثّه، علاوة على بعض البرامج المفيدة والدينية كالعلم والإيمان لمصطفى محمود، والطب والحياة لزهير السباعي، ونور وهداية لعلي الطنطاوي، وخواطر للشعراوي، وفتاوى المسند واللحيدان وبرنامج الراوي..الخ
كنت أتابع بمرض المسلسلات المصرية التي كنّا نتسمّر عند التلفاز وقت عرضها، بل وقبل عرضها بربع ساعة لنشاهد فقرة الإعلانات التجارية ! لم أكن أجهل اسم ممثل أو ممثلة سواء كان مصريا أو أردنيا أو سوريا أو لبنانيا أو كويتيا أو سعوديّا إلا ما ندر ! وكانت صحف الرياض وعكاظ والاقتصادية والرياضية.. ومجلات: اليقظة والنهضة والمجالس وغيرها من الصحف والمجلات تملأ فراغ بعض المعلومات عن نجوم الشاشة، فما دخلت المرحلة المتوسطة حتى صرت متخصص سينما وشاشة فضية، أستطيع أن أحدثك عن تفاصيل التفاصيل في حياة هؤلاء الحثالة..
في العزائم كان من هم في عمري ينشغلون باللعب، وكنت أنا أنشغل بالجلوس عند التلفاز منتظراً حلقة اليوم، كنت أحدّق في حركات شفاه الممثلين لأعرف ماذا يقولون لأنّ النظام العام للعزائم لا يسمح برفع صوت التلفاز !
باختصار: كنت نموذجاً متكاملاً للشخصية التافهة التي تريد وزارة الإعلام _ بلا شك_ أن تشكّل المجتمع بها.. لأن نتاج ما تبثّه يومياً كنت أتلقّاه وأتمثله.. أسماء للتافهين، وقصص حب وغرام، وكلمات للغزل والمجون، وأوجه لا ترجو لله وقاراً..
في المرحلة المتوسطة، بل في السنة الأولى منها كنت على موعد مع تغيّر خطير، جعل هذ الطفل المدمن على مشاهدة كل ما يصبّه التلفاز من برامج وأمراض ينصرف انصرافاً كاملاً تامّاً لشيء أكثر فائدة، وأعظم أثراً، أنستني حلاوته ذلك الأنس الذي كان يجذبني للشاشة الفضيّة.
مع الكاسيت
كان أخي الكبير يحيى (وهو الأول في ترتيب العائلة) طالباً في الكليّة البحرية الباكستانية، ويبدو أنّه تعرّف في أحد الأترام (الفصول) الدراسية على بعض أهل الخير هناك فعاد إلينا في إحدى الإجازات بوجه جديد، وبسلوك مغاير، وبأسلوب لم نعهده !
عاد ملتحياً، يأمر بالصلاة ويواظب عليها، ويقوم من الليل، ويلين الجانب للجميع، ويجمعنا بعد المغرب ليقرأ علينا شيئا من " حياة الصحابة " للكاندهلوي، أو " حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح " لابن قيّم الجوزيّة.. ويصلي الفجر في جماعة ويذهب بعد الصلاة يوميّا لإحضار فطور شهي، كان يتألّفنا بالحمّص والمتبل، ويتحبب إلينا بالفول والتميس.. ليشجّع الكُسالى منّا على القيام لصلاة الفجر.
عاد بكميّات كبيرة من العود الهندي، والدهن الأصلي وصار يوزّعه على رجال الجماعة، كان محبوباً من الجميع وزاد بمثل هذه الأمور حبّه في قلوبنا وقلوب الجميع..
ركبت معه سيّارته ذات يوم فسمعت شريط نشيد عن الشهيد " أحمد الزهراني ".. تمنيت أن أحوز على ذلك الشريط، ولكن لم يكن هناك مسجل في بيتنا ! أما مسجّلي الصغير الذي أتلف عليّ شريط محمد عبده فقد اختفى، ولا أدري أصلاً من أين حصلت عليه ! يبدو أنّه رجيع من أحد إخواني الكبار !
كنا أنا وأخي الأصغر عبد الرحمن نصلي في المسجد وهذا من معهودنا، ولكن غير المعهود أننا صرنا إذا عاد أخونا الكبير من باكستان نطيل التسبيح بعد الصلاة ونصلي السنّة لنلفت نظره إلينا ليكافئنا، ويكرمنا ! يبدو أن بذور الرياء كانت طريّة تلك الأيام !!
توظف أخي " موسى " وهو الثاني في ترتيب العائلة واشترى لأمّي جهاز تسجيل من نوع " SONY " ، رماديّ اللون، وأحضر معه خمسة أو عشرة أشرطة " قرآن ومحاضرات وشريط رحلة لله " لم نكن نظن أن ذلك الجهاز الصوتي الصغير الرمادي سينافس ذلك الجهاز الكبير الصُوري (التلفاز).. ولكنّه نافسه، بل وانتصر في منافسته !
استمعنا لشريط " رحلة لله "..
فكان كافياً لإحداث النقلة..
شريط " رحلة لله " كان عبارة عن مجموعة قصائد مؤدّاة بلحن هادئ حزين قريب من الترتيل، لا تصنّع فيها ولا تكلّف، كلها عن الموت والقبر والبعث والجنّة والنار..
" رحلة لله قد خطّ خطاها..
ربّنا الرحمن والمختار طه "..
" أخاف الموت والحشر العبادا
فما عرفوا التواني والرقادا "..
" مثّل لنفس أيها المغرور..
يوم القيامة والسماء تمور "..
أذكر تلك الرؤيا التي أخافتني، والتي يبدو أنّها من تأثير ذلك الشريط، فقد رأيت يوم القيامة، والناس في طابور طويل جداً لا حدّ لأوله ولا لآخره، وقد بلغ بهم العطش مبلغاً، والشمس فوقهم ولا ظل يقيهم لفح الشمس.. فجعتني تلك الرؤيا، وقد رأت أمّي رؤيا مقاربة لها عن يوم القيامة، وصرنا نتخايل الهياكل العظمية بعد سماع ذلك الشريط، ويبدو أن واقعنا البعيد عن الله، كان بحاجة إلى صدمة عنيفة حتى تحدث اليقظة !
وللأمانة، فأنا أعني بالواقع البعيد عن الله ما كنا نشاهده في التلفاز وإن كانت حياتنا لا تخلو من خير عظيم، يكفيك أن تعلم أنّي كنت وأنا في السادسة الابتدائية أذهب إلى صلاة الفجر في المسجد، فقد كانت والدتي جزاها الله خيراً توقظني أنا وأخي الأصغر وتستودعنا الله، فنسير نتهادى نوماً حتى نبلغ المسجد فنصلي ونعود، فكنّا أصغر اثنين نرتاد المسجد لصلاة الفجر، أقول هذا حتى لا يظن ظان أنّ بيتنا كان بيت مجون وضياع، ولكنّي عنيت ما كنا نشاهده في تلك الشاشة التي تغمرنا بالتوافه ليل نهار !
قررت أنا وأمي وأختي الكبرى أن نقاطع التلفاز..
لم يكن قراراً سهلاً بالنسبة لي، ولكن " رحلة لله " كان صادماً، جعلني أتغلّب على كل رغباتي..
تعرفت على: عبد الله حماد الرسّي، وأحمد القطان، وعائض القرني، وسعيد بن مسفر.. صرت صديقاً حميماً لهم، أستمع لخطبهم ومحاضراتهم آناء الليل وأطراف النهار، صار هؤلاء هم البديل لمصطفى فهمي، وعزت العلايلي، وسمير غانم، وعادل إمام..
وصارت تلاوات: خالد القحطاني وناصر الغامدي وإبراهيم السعدان المؤثرة عوضاً لأذني ولقلبي عن سخافات محمد عبده وعبد المجيد عبد الله وعلي عبد الكريم.. تلك السخافات التي يمجّها لي التلفاز بسخاء !
أخرجت من قلبي
" قلبي معك يا مشغل البال ملتاع "..
" وان لقيتم حبيبي.. سلّمولي عليه "
" وراعي العيون الناعسة رمشها فيّ "
" ويا حيّا الله أبو الوجه الصبوحي "
وأودعته:
" لا تقولوا لقد فقدنا الشهيدا *** مذ طواه الثرى وحيداً فريدا "
و " ربى حطين هيّا حدثينا كما تدرين نشتاق الإيابا..
ركبنا للمعالي سابحات لنا في ساحة الهيجا عرابا "
و " بقرآني وإيماني.. وتكبيرات إخواني
أهزّ الكافر الجاني.. بقرآني
وأحمي منه أوطاني.. بقرآني "
شكّلنا نحن الثلاثي (أمي وأختي الكبرى وأنا) موقفاً صارخاً في المنزل، فلا نشاهد التلفاز، ولا نجتمع مع الأسرة في أوقات الاجتماعات التلفازيّة، بل كنّا لا نمرّ من غرفة التلفاز إلا ونعلّق على أن مشاهدة ما فيه من منكرات حرام، أو نتجرأ ونخفض صوت المعازف الصادرة منه..
بالطبع ومع الأيام صار لدينا أتباع ! وفي المقابل كسبنا عداوات بسيطة، كانت كلّها أقرب للطفولية ولنزق الشباب، فزاد عددنا نحن الثلاثة فصرنا أربعة ثم خمسة وهكذا، وصرنا نسمع سخرية نظنّها لاذعة تلك الأيام من البعض، وكنا نجابهها بحدّة أخرى تليق بأعمارنا..
صار اضطجاعي بجوار سمّاعة المسجل لسماع محاضرة أو سورة قرآنية أو نشيد بروتوكول يومي، ومشهد مألوف في المنزل..
كنت بلا أصدقاء، لا أخرج من المنزل إلا للصلاة ثم أعود مسرعاً لأستمع مرّة أخرى لشريط سمعته خمس مرات أو عشر أو عشرين مرّة، كنت أحفظ تلك الأشرطة، وأسعد كثيراً إن أضيف إليها شريط جديد، وأعترف أن عائض القرني كان الأقرب إلى ذائقتي، وأن الكثير من محفوظاتي الشعرية إنّما استقيتها من خطبه ومحاضراته، وكم كانت نكته وطرائفه تجلب لي الضحك، ولا أدري حتى اللحظة لماذا كنت أتخيّله رجلا نحيلاً _ وهو كذلك_ يرفع شماغه من الجانبين بشخصيّة (بنت البكار) كما يقال !
كانت أمنيتي أن أرى الشيخ عائض القرني، وإذا جلست في مجلس فيه شخص رأى الشيخ عائض أتلهّف لسماع خبره، وأسأل عن شكله، وأتلذذ بسماع تأثيره وبتلك الجموع الغفيرة التي تحضر خطبه في جامع أبي بكر الصديق بأبها.. أو في بقية مساجد المملكة..
لو أحصيت عشرة أحلام وأمنيات كانت تدور في عقلي أو قلبي تلك الأيام لكانت رؤية الشيخ عائض القرني إحداها ولا شك ! لماذا كل هذا الشغف وهذه اللهفة؟ لا أدري ولكنّي أحببته وأحببت كل ما يقول، وأعجبني أسلوبه، وتسلل إلى نفسي سحر كلمته بطريقه لم أعهدها تلك الأيام..
كان الشعر والأدب ثيمة بارزة في خطب هذا الشيخ، وهذا تجديد لم يسبق له فيما أحسب، وكان إلقاؤه للشعر وللخطب بعموم مميزاً مؤثراً يملأه بعاطفة جياشة، وبساطة إلقاء تجعل الكلمة تدلف إلى القلب مباشرة..
أدمنت السماع له خاصة ولبقية الدعاة عامة.. ومكثت سنة ونصف السنة أستمع وأستمع وأستمع.. ولا أمارس شيئا غير الاستماع للمحاضرات والخطب والقرآن والنشيد.. في اليوم الواحد أمكث عند جهاز التسجيل ما يقارب الخمس ساعات ! وقد اجتمع عندي عدد وفير من الأشرطة والتي كنت أحفظها حفظا لكثرة تردادها.. وقد أفادتني أيّما إفادة، فجزى الله خيرا من أحضرها لي، ومن ألقى ما فيها من نافع القول..
لم أكن في تلك الأيام أعي أنّي واقف وجهاً لوجه مع أهم منتجات الصحوة " الشريط الإسلامي ".. والذي اكتسح في تلك الأيام البيوت والمدارس والمعاهد والجامعات.. بل وصار حديث الصحافة..
ما كنت أعلم أنّ الصحوة قد دلفت إلى قلبي، وصارت تجري في شراييني وأنا في الثالثة عشر من عمري ! وأن كثيرا من أدبيّاتها صار ثقافة لديّ، ومعلوماً عندي لا أحتاج إلى أحد ليقنعني به..
عرفت أهمية: حسن الخلق، وبر الوالدين، والإحسان إلى الجار، ورحمة اليتيم، والبر والإحسان للفقراء..
عرفت عظمة: الصلاة، والصيام، والتقوى، والصدق، والصبر، والجهاد..
فهمت شناعة: الكذب، والخيانة، والزنا، والربا، والمعازف، والخلاعة والمجون..
عرفت حرمة: حلق اللحية، وإسبال الإزار، والدخان..
وعيت قضية فلسطين وجراح الأمّة، وأهمية الأخوة الإسلامية، ومعنى أن نكون عباد الله إخوانا.. واطلعت على شيء من مكائد أعداء الأمة.
كل ذلك حدث في عقلي الصغير جراء إدماني على " الكاسيت " ذلك الشبح الذي أقضّ مضاجع الكثير من كتّاب الصحف.. والذين باتوا يحاربونه كما يحارب رجال الصحة الإيدز، ورجال التعليم الجهل، ورجال الاقتصاد الفقر، ورجال السياسة طوابير الخيانة، ورجال الحروب أعداء الوطن..أصبح الكاسيت قميص عثمان الذي لا تدري على وجه التحديد أهو المشكلة، أم محتواه، أم الرجال الذي يملؤونه بأشياء مفيدة !
المؤكد أن كاسيت الغناء والذي يبث كلمات الخلاعة والمجون لم يتلقّ أي نقد من لدن أولئك الكتّاب.. بل يبدو أن بعضهم كان مدمناً عليه كإدماني على أشرطة عائض القرني !
مختارات