اسم الله المقيت 1
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم ، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات .
من أسماء الله الحسنى : ( المقيت ) :
أيها الأخوة الأكارم ، مع اسم جديد من أسماء الله الحسنى ، والاسم اليوم " المقيت " .
ورود اسم المقيت في القرآن الكريم في موقع واحد :
سمىّ الله جلّ جلاله ذاته العلية في القرآن الكريم باسم " المقيت " فقد ورد في موقع واحد في القرآن الكريم ، وهو قوله تعالى : " وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً " [النساء:85] .
كما تعلمون في آية الكرسي " مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ " [البقرة:255] يعني لا تتم شفاعة في الكون بين جهتين إلا بإذن الله ، فإذا كنت سبباً في عمل صالح فلك من هذا العمل الصالح نصيب ، مثلاً أعنت إنساناً على نفسه فتاب إلى الله ، كل أعمال الخير التي فعلها هذا الإنسان لك منها نصيب ، وإذا دللت إنساناً على عمل سيئ أو على معصية ، كل هذه المعاصي التي يفعلها عليك منها وزر ، شيء خطير " وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا " فأنت أي عمل تكون وسيطاً به ، إن كان خيراً فلك منه نصيب ، وإن كان شراً عليك منه وزر " وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً " .
قبل أن تدل إنساناً ، قبل أن تكون وسيطاً ، قبل أن تكون سبباً ، قبل أن تقنع إنساناً على معصية ، أو بعمل ، أو بسفر ، أو باختلاط ، أو بتأسيس تجارة أساسها محرم ، قبل أن تدل إنساناً ، قبل أن تروج ، قبل أن تحبب ، قبل أن تمدح ، انتبه ، هذا العمل الذي نتج عن توجيهك ، وتبيينك ، إن كان خيراً لك منه نصيب ، وإن شريراً عليك منه وزر .
فالله عز وجل من فوق عرشه مقيت ، له الكمال المطلق في إقاتة خلقه ، ورزقهم ، فإذا أضيف إلى الإطلاق اجتماع معاني العلو فكان هذا كمال الكمال .
المقيت في اللغة :
أما في اللغة " المقيت " اسم فاعل ، للموصوف بالإقاتة ، فعله أقات ، هذا الرباعي ، اسم الفعل قات ، يقوت ، قوتاً ، والقوت هو ما يمسك الرمق من الرزق ، الحد الأدنى من الطعام والشراب ، قوت ، قات الرجل وأقاته أي أعطاه قوتاً ، والمصدر هو القوت المحفوظ الذي يقتات به حين الحاجة .
يعني امرأة قالت لزوجها : ما عندنا شيء ، هذا الزوج بكى ، سبب بكائه تذكر أنواع القوت التي في بيته ، أنواع منوعة ، وكثيرة ، وكافية ، كلمة ما عندنا شيء كلمة ما فيها أدب مع الله عز وجل ، عندك كل شيء .
كفى بالمرء إِثما أن يُضَيِّع مَن يقوتُ :
لذلك المدخر المحفوظ الذي يُقتات به حين الحاجة ، هذا هو القوت .
" كفى بالمرء إِثما أن يُضَيِّع مَن يقوتُ " [أبو داود] .
من يقوت ، من يطعم ، أي أولاده ، أطعمهم ، سقاهم ، ألبسهم ، كساهم ، لكن ما أدبهم ، ما علمهم ، ما عرفهم بربهم .
" كفى بالمرء إِثما أن يُضَيِّع مَن يقوتُ " [أبو داود] .
لذلك أي أب في الأرض يرتاح إذا شبع أولاده ، ولبسوا ، وكانوا في بحبوحة ، لكن الأب المؤمن يتميز على بقية الآباء أنه يقلق لحال ابنه الإيماني ، يتمنى أن يكون ابنه مؤمناً ، يدعوه إلى الصلاة .
" وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا " [طه:132] .
إذا جاء الأب مساء لا يكتفي أن يسأل زوجته أأكل الأولاد ، يقول لها : أأكلوا ؟ هل صلوا العشاء ؟ .
سيدنا عمر لما طُعن رضي الله عنه ، وكان على وشك مفارقة الحياة ، الشيء الذي أقلقه أنه قال : هل صلى المسلمون الفجر ؟ .
فأنت كأب ما الذي يقلقك على أولادك ؟ يا ترى صحتهم ؟ كسوتهم ؟ تفوقهم الدراسي ؟ أما يقلقك دينهم ؟ وصلاتهم ؟ واستقامتهم ؟ .
" كفى بالمرء إِثما أن يُضَيِّع مَن يقوتُ " [أبو داود] .
هناك آباء يعتنون بحاجات أولادهم المادية ، لكنهم يغفلون عن حاجاتهم الروحية .
الله عز وجل خلق الأقوات وتكفل بإيصالها إلى الخلق :
الله عز وجل هو " المقيت " ماذا يعني أن الله جلّ جلاله هو " المقيت " بكلمة مختصرة ؟ " المقيت " هو المقتدر " وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً " أي مقتدراً ، الذي خلق الأكوان .
أنت تصور بيوم واحد كم دابة تُذبح في العالم ، في الخمس قارات ؟ كم طن قمح يحتاج البشر يومياً ؟ كم طن شعير ؟ كم طن قمح ؟ كم طن ؟ كم طن ؟ تجد أياماً ، شخص أحياناً يذهب إلى السوق ، سوق الخضر يرى جبالاً من الفواكه ، جبالاً من الخضراوات ، من صنع هذا ؟ المقتدر .
نهر الأمازون بالثانية الواحدة كثافته ، وغزارته ثلاثمئة ألف متر مكعب ، بالثانية الواحدة ، هذا الماء من أين ؟ بالثانية الواحدة يهطل من ماء السماء 16 مليار طن بكل ثانية ، مجموع التهطال في الأرض 16 مليار طن بكل ثانية ، رزق من ؟ رزق " المقيت " المقتدر الذي خلق الأقوات ، وتكفل بإيصالها إلى الخلق .
حفيظ عليها ، بآسيا يوجد جبال هملايا ، في قمم هذه الجبال يعيش الوعول ، والوعل يحتاج إلى ماء ، يوجد ينابيع ماء في القمم ، معنى ذلك أن مستودعات هذه الينابيع في قمم أعلى ، بإندونيسيا هناك 13 ألف جزيرة ، كل جزيرة لها نبع ماء ، ونبع الماء لابدّ من تمديدات تحت الأرض إلى اليابسة ، أحياناً يكون نبع ماء بجزيرة ، كل أمطار الجزيرة لا تكفي لهذا النبع ، فلابدّ من أن هذا النبع موصول بمستودع إلى جبل خارج هذه الجزيرة .
قال : هناك سحابة بالفضاء الخارجي ، يمكن أن تملأ محيطات الأرض ستين ألف مرة في اليوم بالمياه العذبة .
" وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ " [الحجر:21] .
تقنين الله عز وجل تقنين تأديب لا تقنين عجز :
لذلك أيها الأخوة ، تقنين الله عز وجل إذا قنن تقنين تأديب لا تقنين عجز .
" وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ " [الشورى:27] .
إذاً الله عز وجل هو " المقيت " هو المقتدر ، الذي خلق الأقوات وساقها إلى العباد وتكفل بإيصالها إلى العباد ، هو حفيظ عليها .
مثلاً لماذا بعض الحبوب تصاب بالسوس ؟ من أجل ألا تخزنها ، لو لم تصب بأي آفة ، يكون احتكاراً لا يحتمل ، فكل مادة غذائية لها خصائص .
فالله عز وجل معنى " المقيت " أنه يعطي كل مخلوق قوته ورزقه ، على ما حدده سبحانه وتعالى من زمان ، أو مكان ، أو كم ، أو كلمة ، بمقتضى المشيئة والحكمة ، فربما يعطي المخلوق قوتاً يكفيه لأمد طويل ، أو قصير كيوم ، أو شهر ، أو سنة ، وربما يبتليه لحكمة أرادها ، فلا يحصل عليه إلا بمشقة وكلفة ، هناك أرزاق سهلة ، هناك أرزاق صعبة .
أحياناً إنسان يعمل عشرين ساعة وهو يصيح ليحصّل رزق يومه ، وهناك إنسان يعمل عملاً بسيطاً ، يأتيه رزق وفير ، هذا من فضل الله على الإنسان .
لذلك يقولوا : الإمام أبو حنيفة رضي الله عنه ، أحد أسباب اتجاهه إلى طلب العلم أنه قرأ حديثاً : " من طلب العلم تكفل الله له برزقه " [الخطيب والديلمى وابن عساكر عن زياد بن الحارث الصدائى] .
ليس معنى هذا أن يجد تحت الوسادة ليرة ذهبية كل يوم ، لا ، معنى ذلك أن الله يسر له عملاً مريحاً وله دخل معقول .
على الإنسان أن يؤدي زكاة ماله عن الأشجار المثمرة بعد قطف الثمار وإجراء الحساب : الله عز وجل خلق الأقوات على مختلف الأنواع والألوان ، ويسر أسباب نفعها للإنسان ، والحيوان .
" وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآَتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ " [الأنعام:141] بالزكاة .
" وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ " [الأنعام:141] دقق " كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ " لا تأكل فاكهة فجة ، إنها تؤذي " كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ " إذا أينعت الفاكهة كُلْها ، لا تأكلها قبل أن تكون يانعة .
" وَآَتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ " [الأنعام:141] لو كان الله عز وجل كلف بأداء الزكاة عن هذا الإنتاج الزراعي بشكل مطلق هناك عبء كبير جداً " وَآَتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ " أما كل شيء أُكل قبل هذا الوقت ليس فيه زكاة ، يوم قطف الثمار تجري الحساب الدقيق ، تدفع العشر ، أو نصف العشر ، كزكاة هذا المحصول الزراعي .
الله عز وجل مقيت يوفي كامل الرزق للناس :
بعض العلماء قالوا : " المقيت " هو المقتدر ، فيرجع معناه إلى صفة القدرة .
و " المقيت " هو الذي يوفي كامل الرزق للناس ، أنا للتوضيح أضرب هذا المثل : يوجد بستان في منطقة معينة ، نحن في الشام هنا عندنا الزبداني ، في الزبداني يوجد بستان ، الشجرة السابعة ، الغصن الثالث ، التفاحة السادسة ، هذه لفلان ، فلان يمكن أن يأكلها وقد اشتراها بماله شراء ، يمكن أن يأكل هذه التفاحة وقد قدمت له هدية ، يمكن أن يأكلها وقد قدمت له ضيافة ، يمكن أن يتسولها ، يمكن أن يسرقها ، سرقها ، أو تسولها ، أو أكلها ضيافة ، أو قُدمت له هدية ، أو اشتراها بماله ، هي في الأصل له ، لكن طريقة وصولها إليه باختياره ، هي في الأصل له ، لكن طريقة وصولها إليه باختياره ، لذلك : " نفث روح القدس في روعي أن نفساً لن تخرج من الدنيا حتى تستكمل أجلها وتستوعب رزقها فأجملوا في الطلب ، واستجملوا مهنكم " [الطبراني] .
أخطر شيء في حياة الإنسان اختيار حرفته وزوجته :
ألصق شيء بالإنسان حرفته وزوجته ، فإذا كان اختار حرفة فيها نفع للناس ، لا تختار حرفة تبث الرعب في قلوب الآخرين ، إياك أن تختار هذه الحرفة ، لا تختار حرفة فيها ابتزاز لأموال الناس ، لا تختار حرفة فيها إفساد لأخلاقهم ، لا تختار حرفة فيها تشتيت لجمعهم ، إياك ، اختر حرفة فيها عطاء ، بث الأمن في قلوب الآخرين .
لذلك حجمك عند الله من نوع حرفتك ، أخطر شيء في حياة الإنسان اختيار حرفته ، أحياناً إنسان في وظيفة يقتضي أن يفتح مسجداً ، وأن يعين خطيباً ، هذه وظيفة ، هناك وظيفة أخرى تقتضي أن يفتتح ملهى ، وأن يعين راقصة ، فرق كبير ، يوجد إنسان عنده مدرسة ، وإنسان عنده ملهى ، فالبطولة أن تحسن اختيار حرفتك ، لأنها ألصق شيء بك ، وأن تحسن اختيار زوجتك ، لأنها أم أولادك .
الكسب و الرزق :
" المقيت " هو المقتدر ، فيرجع معنى هذا الاسم إلى صفة القدرة ، وقيل " المقيت " الحفيظ ، وهو معطي القوت ، فيكون من صفات الفعل ، إما اسم ذات أو اسم فعل .
أما في صحيح مسلم حديث دقيق جداً دعائي ، يقول عليه الصلاة والسلام : " اللَّهمَّ اجعَل رِزقَ آلِ محمدٍ قُوتا " [البخاري ومسلم] وفي رواية كفافاً .
ليس معنى هذا أنه فقير ، أبداً ، لكن معنى هذا أن رزقه يغطي كل حاجاته ، من دون أموال طائلة يحار في إدارتها ، تشغله عن الله عز وجل ، يعني ما قلّ وكفى ، خير مما كثر وألهى .
هذا مكان مناسب للتوضيح أن هناك فرق بين الرزق وبين الكسب ، الرزق من انتفعت به ، هذه من الرزق ، هذه الطاولة ، هذه الوجبة التي أكلتها ، هذا السرير الذي تنام عليه ، هذه المركبة التي تركبها ، هذه الثياب التي ترتديها ، هذا رزق ، ما انتفعت به مباشرة أما الكسب حجمك المالي ، الرصيد ، الأموال المنقولة ، والغير منقولة ، هذه لم تنتفع بها أبداً لكنك محاسب عليها ، فرق كبير بين الرزق وبين الكسب .
محاسبة الإنسان على الكسب مع عدم انتفاعه به :
لذلك في الحياة الدنيا الرزق له سقف ، لو معك مئة مليار ماذا تأكل ؟ وجبة طعام ، كم ثوباً ترتدي ؟ ثوب واحدة ، على كم سرير تنام ؟ على سرير واحد ، كم مركبة تركب في وقت واحد ؟ مركبة واحدة ، هذا هو الرزق ، ما تنتفع به مباشرة ، لكن الكسب ما حصلته في عمر مديد ، وجعل لك حجماً مالياً كبيراً ، هذا الكسب محاسباً عليه كيف اكتسبته ؟ وكيف أنفقته ؟ مع أنك لم تنتفع به .
لذلك إذا شخص سألته ، وقال لي : الحمد لله ، الله كافيني ، حاجتي مؤمنة ، رزقي يغطي حاجاتي ، أقول له مداعباً : إذاً أصابتك دعوة رسول الله .
" اللهم من أحبني فاجعل رزقه قوتاً ـ كفافاً " [البخاري ومسلم] لا أقول فقيراً ، ولا أقول معه أموالاً طائلة لا تأكلها النيران ، لا ، أقول هذا الذي آتاه الله رزقاً ، يغطي كل حاجاته ، من دون أن يجعله هذا الرزق غارقاً في الدنيا ، بعيداً عن الله ، غارقاً في إدارة أمواله .
" اللهم من أحبني فاجعل رزقه قوتاً ـ كفافاً " [البخاري ومسلم] .
والدعاء في صحيح مسلم : " اللَّهمَّ اجعَل رِزقَ آلِ محمدٍ قُوتا " [البخاري ومسلم] .
مشتقات الألبان من أعظم الأرزاق الإلهية :
وروى ابن ماجة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " مَن أَطْعَمَهُ الله طعاماً فَلْيَقُلْ : اللَّهمَّ بارِك لنا فيه ، وأطعِمنا خيراً منه ، ومن سَقاهُ الله لبنا ، فليقل : اللَّهمَّ بارك لنا فيه وزِدْنَا منه ، فإنه ليس شيءٌ يُجْزئ من الطعام والشراب إلا اللبنُ " [ابن ماجه] هذه مشتقات الألبان من أعظم الأرزاق الإلهية .
" وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ " [النحل:5] هل تملون مشتقات الألبان ؟ يومياً ، يومياً تأكلها ولا تملها ، بخلاف أي طعام آخر ، أي طعام آخر تمله ، لأن النبي عليه الصلاة والسلام إذا شرب اللبن قال : " اللهم زدنا منه " و : " أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فبعث إلى نسائه فقلن: ما معنا إلا الماء " [البخاري] .
الحكمة من فقر النبي عليه الصلاة والسلام :
هناك سؤال : لماذا شاءت حكمة الله أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم فقيراً ؟ هو هو ، لو كان غنياً لقالوا هذه الثروة الطائلة هي هدفه من هذه الدعوة ، لكن أراد الله سبحانه وتعالى أن يبين أن هذه المتاعب ، وهذه الجهود ، وهذا الجهاد ، ودنياه خشنة محدودة ، محدودة جداً ، لما سأله سيدنا جبريل .
" يا محمد إن الله يخيرك بين أن تكون نبياً عبداً أو نبياً ملكاً ؟ فتلفت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جبريل عليه السلام كالمستشير ، فأومأ إليه : أن تواضع . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : بل نبياً عبداً " [الطبراني] .
أجوع يوماً فأذكره ، وأشبع يوماً فاشكره ، فقالت نساؤه : " ما معنا إلا الماء " فقال عليه الصلاة والسلام : " من يضيف هذا ؟ " الآن الصحابة فقراء ، فقال أنصاري : أنا يا رسول الله ، فانطلق به إلى امرأته ففال أهلاً بضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قالت : والله ما عندنا إلا قوت صبياني ، فقال : هيئي طعامك ، وأصلحي سراجك ، ونومي صبيانك ، إذا أرادوا عشاء ، نوميهم ودعي عشاءهم لهذا الضيف ، والعشاء لا يكفي الأنصاري وزوجته والضيف ، يكفي الأولاد فقط فهيأت طعامها ، وأصلحت سراجها ، ونومت صبيانها ، وقامت كأنها تصلح سراجها فأطفأته ، فجعلا يريانه أنهما يأكلان ، فباتا طاويين ، وضعت لهذا الضيف طعام أولادها ، وأطفأت السراج ، وأوهمت الضيف أنهما يأكلان معه ، هما في الحقيقة لا يأكلان شيئاً .
فلما أصبح غدا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ضحك الله أو عجب من فعلهما ، فأنزل الله قوله تعالى : " وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ " [الحشر:9] .
الشح مرض خبيث يصيب النفس الإنسانية :
إخواننا الكرام ، كيف الإنسان لا سمح الله ولا قدر يصاب بورم خبيث ، مرض عضال ، مرض مميت ، مرض قاتل ، والشح مرض خبيث يصيب النفس الإنسانية ، الشح مرض ، هذا الشحيح يعيش فقيراً ليموت غنياً ، لذلك قال تعالى : " وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً " [الإسراء:29] .
يقول عليه الصلاة والسلام : " ما ملأ آدمي وعاء شراً من بطنه ، حسب ابن آدم ثلاث أكلات يقمن صلبه فإن كان لا محالة فثلث طعام وثلث شراب وثلث لنفسه " [الحاكم] .
وقالوا : عشر ما نأكله يكفي لبقائنا أحياء ، وتسعة أعشار ما نأكله يكفي لبقاء الأطباء أحياء ، نحن أكثر متاعب الناس من طعام يزيد عن حاجتهم .
فلذلك أيها الأخوة ، موضوع الرزق موضوع دقيق جداً ، أهم شيء أن تفرق بين الرزق الذي تنتفع به مباشرة ، وبين الكسب الذي تحاسب عليه ولم تنتفع به .