اللبنة الخامسة
{يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ* قُمْ فَأَنذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ* وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ}
كانت هذه الخماسيةُ تنحِت أولى خُطوات الطريق للهجرة... أولى الخُطُوات للحظةِ استلامِ مفاتيحِ يثرب!
إذ يختارُ اللهُ التعبيرَ عن كلِّ ذنبٍ يُعطّلُ مسيرة التغييرِ بوصفهِ بـ(الرُجز)... والرُجزُ في اللغة العربية هو كلُّ اضطرابٍ !
فانظر الى دقة تعبير القرآن، وإلى دقة اختيار الكلمة في القرآن؛ إذ يريد اللهُ أن نتصورَ كيف يُصبحُ الذنبُ؛ وكل خلل فكري أو تشوه سلوكي؛ سبباً في اضطراب خطُواتك نحو الغاية القادمة!
وكي تصلَ؛ لا بد أن تفهم؛ أن البدايةَ باتساق الخطوة وسلامة السعي، ولن تبلغ ذلك إلا بـ(والرُجز فاهجر)
كانت هذه الآية تنحت حركة المسلم الى المدينة بانهماك وتمكن عجيب.. وكانت تضبط إيقاع خطوته كي تليق يإيقاع أنشودة تنتظر في رحم الغيب أهلها.. أول مقاطعها طلع البدر علينا من ثنيات الوداع ! حيثُ ستبدأُ مع هذه الترانيمِ بذورُ نخيلٍ لا يعرف التصحر أبدا...
ثقْ يا أيها الباحث أنَّه كلما توغَّل الرجسُ في ضمائر القوم فإنك في (الجاهلية الأولى).. فقد كان القومُ قبل هذه الآياتِ مسكونين بحرائق لا تنجب إلا رماداً يزيد الصحراء سخونة و لهيباً...
كانت حينها ثَمَّة طهارةٌ متخفيةٌ في عمق الروح الإنسانية، وكان القرآن يزيح عنها (إصرَهَا والأغلال)...
كانت الآياتُ تَتخطى بهم عتبةَ الخطايا المتعبةِ تلك التي تزيد عزلتهم عن العالم..
و لقد أبدع القرآنُ في استكشاف المشكلة يوم سمى الخَطيئة رُجزاً؛ إذ قلْ لي بربك: كيف يتوازن في بلوغ القمة مضطرباً في تفكيره أو مختلاً في فهمه!
كيف يصلُ مَن تَتِيهُ خُطُواته فلا يدري المشرقَ من المغرب، ويظلُ كعاصفةٍ تدور في فراغ ثم تموت في صمت!
كيف يحمل الأمانة من يتعثر في سيره، فلا يبقى في كفه إلا البقايا!
لم تكن قصةً طارئةً أو مفاجئةً أن تنتهي مسيرة محمد عليه الصلاة السلام بالهجرة الثمينة.. فقد كان القرآن بقوله (والرجز فاهجر) يغسل عنهم كلَّ لحظات التاريخ التي امتلأت فوضى وتيهاً...
كان لا بُدَّ من قرارٍ يوقفُ تكرار السنين الممللة حتى الموت؛ يُوقفُ الضبابيةَ في الرؤية، والزيغَ في الخطوات، والتعثرَ في الطرقات...
وكانت هذه البدايةُ فاصلةً ودقيقةً وبليغةً (والرجز فاهجر)؛ هجرةً لا تذبذب فيها، ولا وقوف بعدها في منتصف القرار...
هجرةً توقف كل انطفاء أو انتهاء أو ذوبان... هجرةً لكل رجز..
فالمثقلون بأوزارهم وضجيج عاداتهم، وموروث أفكارهم الميتة لا يقدرون على السباق!
كان القرآن يصارحهم بالوجع ثم يصف لهم سبيل الخروج من النفق المظلم..
وكان القرآنُ بديعاً يوم وصف الذنب بأنه اضطراب الخطو.. فهل تراك تلمح في مصابنا اليوم غير ذلك؟!
مختارات