اللبنة الثانية ( وعلم آدم )
كانَ خَلقه {مِن طين } من { صَلصَال }.. لكن الخلقُ كانَ بِخارطةٍ إستثنائِية وبِحياةٍ لا تُشبهُ حياةَ الملائِكة !
وكانت نَفخةُ الرُّوح في المخلوقِ الجديدِ تُعِلُن بدء أحداثِ الدّنيا كُلِّها !
وتُعِلُن أنَّ حِكاياتَ التّاريخ سَتُكتًب.. وأنَّ قُرآناً وتوراةً وزَبوراً وَكذا الإنجيل سيُقرأ..
لَم يكن هوَ سُوى حَمَأ مَسنوناً مُلقى في غَيبوبَةِ العَدَم.. في عَتمةِ {هَل أتى على الإنسانِ حينٌ من الدّهر لم يكن شيئاً مذكوراً } !
ثُم غَدا مِثلَ نُقطة نُورٍ تَثورُ حَولَها أسئلةُ الكونِ الغارق في التَّسبيحِ وفي التَّهليل..
أسئلةُ الملائكةِ المَدهوشة.. { أتجعلُ فيها من يُفسد فيها } !!
ها نحنُ { نُسبِّحُ بِحمدِكَ ونُقَدِّسُ لَك }.. كان الكونُ فِعلاً حِينها مغموراً في أهازيجِ التَّسبيح وتراتيل التَقديس..
كانت السماءُ تَئِطُّ أطّاً { فما فيها من موضعِ شبرٍ إلا وفيهِ مَلَكٌ ساجدٌ أو مَلَكٌ راكِع }..
لم تكَن تَعلُم الملائكةُ حِينها أنَّ المسافةَ بين مقامِ { ونحنُ نُسبِّحُ بِحمدِك } ومقامِ { إنّي جاعلٌ في الأرضِ خَليفة } ؛ كما هيَ المسافةُ تماماً بين مَقامِ { وعلَّمَ آدمَ } وقولُ الملائكة { لا عِلمَ لَنا } !..
وكانت تلك لحظةٌ فوقَ إيقاعِ الكونِ المُعتاد.. لحظةُ العِلمِ إذ يَتَجلّى في الإنسان.. { يـا آدم أنبِئهُم }..
لحظةٌ أدركَ فيها الخَلق السابق أنَّ ثمَّةَ مُهِمةٍ أعلى من التَّسبيحِ جِسرُها العلمُ و وظيفَتُها أن تكونَ {خليفةً في الأرض}..
وفي لحظةِ الوعيِ الجديد { سجَدَ الملائكةُ كُلُّهُم أَجمَعون}.. فقد بدا هذا الخلقُ الجديد في نسيجِهِ وَتسبيِحِه يختَلِفُ عن الملائكة.. إذ سَيَغدو التَّسبيحُ للهِ بأبعادٍ جَليلة.. بعضُ معانِيها عِمارةُ الأرض..
تسبيحٌ بِلُغَةِ العِلم.. تسبيحٌ وَتَرتِيل.. الوعيُ بَعضُ مُفرداتِه..
لم تَكن مُصادفةٌ أن يكونَ أوّلَ حِوارٍ لأِوّلِ نَبيٍّ في أوّلِ تَرتيبِ القُرآن { وعَلَّمَ آدمَ }.. وأن يكونَ أوَّلَ أَمرٍ في أَوَّلِ تَنزيلٍ لآخِرِ نَبِيٍّ {إقرأ }.. فَبينَ البِدايةَ و النِّهايةَ سِرّ.. لو تَتَنَبّه !
اليومَ نحنُ نَعكِسُ المَشهد ونُقَلِبه.. وَنَتَشبَّث بِمرتَبةِ { ونُسبّح بِحمدِك }.. كأنَّنا نَرَغبُ أن نَعودَ مَلائِكة !
نَتَشبّث اليومَ بِمسابِحِنا و نَغيبُ عن المُهمّةِ العُليا { إنّي جاعلٌ في الأرضِ خَليفة } !
يتنبّهُ الإستعمارُ الفَرنسيُّ في الجزائرِ للفارقِ الدقيقِ بينَ مقامِ التَّسبيح وبين مُهمة إعمار الأرض ؛ فيُشجّعُ زوايا التَّصوفِ ويدعَمُ طُرُقَ الصُّوفيّة وحركاتِ الإستغراق في المدائحِ والتَّراتِيل !
يَنشُر الغَربُ كُتُبَ التَّصوف ويدعَمُ طُرُقَ الدّروشةَ الغائبة، ويأذن لنا أن نَدُورَ في فُلك العِبادة و تفاصيل الشَّعائر، و يدورُ هُوَ في فُلكِ الفَضاءِ و فُلك استعمارِ الأرض.. وفَرَّقَ بين { إعمارِ الأرض } و { إستعمارِها } !
لو فَقِهنا لِماذا قال تعالى: { يا آدمُ أنبِئهُم }... فَتِلكَ هي مُهِمّتُك..
و لن تَسجُدً الحياةُ لكَ خاضِعةً إلّا إذا كنتَ في مَنزِلةِ { أَنبِئهُم }..
لو تَفَطّنت !!
مختارات