موضع نظر الله
من القلوب قلب كقبور الموتى ظاهرها الزرع والورد وباطنها الجيف والموت، أو كبيت مظلم على سطحه سراج وباطنه ظلام، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول في هذا: « إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن إنما ينظر إلى أعمالكم وقلوبكم ».
إنها حياة القلب وإن كانت البطون خاوية والثياب بالية، وقد أبان الحديث أن القلب هو موضع نظر الرب، فلا عبرة إذن بحسن الظاهر مع خبث الباطن، فاعجب ممن يعتني بمظهره وهندامه الذي هو محل نظر الخلق ؛ فيغسل ثوبه ويعطِّره، وينظِّف بدنه ويطهِّره، ويتزيَّن بما أمكن، لئلا يطَّلع مخلوق على عيب فيه، ولا يهتم بقلبه الذي هو محل نظر الخالق ؛ فيطهِّره ويزيِّنه لئلا يطلع ربه منه على دنس أو خبث أو أحد غيره.
ومعنى آخر من الحديث قاله ابن الجزري:
" النَّظَر ها هنا الاخْتِيار والرحمة والعَطْف لأنَّ النظر في الشاهد دليلُ المحبَّة، وتَرْك النظر دليل البُغْض والكراهة ".
وتأمَّل ما يلي لتعلم أهمية القلب:
إن العمل قد يكون ظاهره العصيان وصاحبه مُثاب، كأن ينطق الرجل بكلمة الكفر مُكرَها وقلبه مطمئن بالإيمان، أو يشرب مُسكِرا بغير رضاه، وفي المقابل قد يكون ظاهر العمل الإحسان وصاحبه في النار، كأن يُقتل المرء في ساحة قتال ليتغنى الناس بشجاعته، ويُنفق ماله في طرق الخير ليُثني الناس على كرمه، ويقرأ القرآن ليلفت إليه أعناق الغير، والقلب في كل هذه الأحوال واقف وحده في قفص الاتهام أو مُسجَّل بأزهى الحروف في لوحة الشرف.
مذنب وبرئ!!
وتأمل قول النبي صلى الله عليه وسلم: « إذا عُمِلَت الخطيئة في الأرض كان من شهِدها ؛ فكرِهها كمن غاب عنها، ومن غاب عنها فرضيها كان كمن شهدها ».
سبحان الله! غائبٌ عن ساحة الجريمة لكنه أول المتهمين واسمه في سجل المذنبين، وآخر حضر الجريمة بنفسه ورآها بعينه ومع ذلك يأتي الحكم له بالبراءة!! والسبب في ذلك كله القلب الذي أنكر فسلِم أو رضي فأثم.
وفي الحديث بشارة ونذارة ؛ بشارة لمن اضطر إلى حضور مجلس يُعصى الله فيه ولم يستطع أن ينكره بيده أو بلسانه بل ولم يقدر حتى على مغادرة المكان ؛ فيقوم القلب بالواجب وينبري للإنكار، ونذارة لرجل أراد الله له الخير فأبى لنفسه إلا الشر، وعصمه من المنكرات فأبى إلا التلطخ بها، وصرف جسده عن مكان الإثم فسافر إليه بقلبه وروحه فعوقب بمساواته مع مرتكب الجرم.
إنه القلب حين يزني!! نعم يزني، ومع شدة وقع هذه الكلمة على النفس إلا أن الذي أطلقها هو من وصفه ربه أنه بالمؤمنين رؤوف رحيم، ومن رحمته ورأفته بأمّته تحذيره الصريح لها بقوله: « وزنا القلب: التمني ». قال الشيخ أحمد عبد الرحمن البنا: " زنا القلب التمني: أي يهوى وقوع ما تحبه النفس من الشهوة ".
إن للقلب كسبا كسب الجوارح وعملا كعملها، والله سبحانه أعلن أنه يؤاخذ على كسب القلب ثوابا وعقابا، فقال سبحانه: ﴿ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ ﴾ [البقرة: 225].
ويشهد لعمل القلب هذا وأن الله يحاسب العبد عليه حديث:
« إذا التقى المسلمان بسيفيهما، فقتل أحدهما صاحبه، فالقاتل والمقتول في النار ». قيل: يا رسول الله!! هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال: « إنه كان حريصا على قتل صاحبه ».
فدخل هذا المسلم النار بشيء وقر في قلبه وهلك بسبب عمل قلبي ؛ ليس غير.
الظاهر والباطن!!
نعم.. صورة القلب هي الأصل، فإن وافق الظاهر الباطن كان ما في القلب حقيقيا، وإن خالف الظاهر الباطن كان ما في القلب مزيفا، وعلى القلب أيضا يتوقف صحة الظاهر أي قبوله عند الله، أما الناس فإنهم مكلَّفون بقبول الظاهر فحسب والحكم على أساسه والله يتولى السرائر، ومن هنا كان مقصد الشهادتين هو توجيه رسالة ملموسة إلى الناس بإسلام الناطق بها، في حين أن الله وحده هو المطلع على غير الملموس من محتوى الباطن، وقد نطقت ألسنة المنافقين بالشهادتين، فعصمت دماءهم في الدنيا، لكن مستقرهم في النهاية هو الدرك الأسفل من النار بما حوت قلوبهم.
واسمعوا إلى ارتباط الظاهر بالباطن في قوله تعالى: ﴿ قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي ﴾ [آل عمران: 31]، فإن حب الله في القلب يورث اتباع الجوارح ولا بد ؛ وإلا كان ادعاء وكذبا وزورا.
مختارات