اسم الله المسعر
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات.
من أسماء الله الحسنى: (المسعِّر):
أيها الإخوة الكرام، مع اسم جديد من أسماء الله الحسنى، وهو اسم (المسعر).
1 – ورود اسم (المسعِّر) في السنة النبوية:
لم يرد هذا الاسم في القرآن الكريم، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم سمى به ربه جل جلاله، ففي حديث صحيح في سنن الترمذي عَنْ أَنَسٍ قَالَ: " غَلَا السِّعْرُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، سَعِّرْ لَنَا، فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمُسَعِّرُ الْقَابِضُ الْبَاسِطُ الرَّزَّاقُ، وَإِنِّي لَأَرْجُو أَنْ أَلْقَى رَبِّي وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنْكُمْ يَطْلُبُنِي بِمَظْلِمَةٍ فِي دَمٍ وَلَا مَالٍ " [الترمذي، أبو داود، ابن ماجه، أحمد].
ما هو العلم؟
هذا الحديث الشريف الصحيح له أبعاد كثيرة، نبدأ بحقيقة ثابتة وهي: أن تعريف العلم ما أفضى بك إلى قانون، والقانون هو العلاقة الثابتة بين متغيرين، مقطوع بصحتها، تطابق الواقع عليها دليل، فإن لم تطابق الواقع كان الجهل، وإن لم يكن عليها دليل كان التقليد، وإن لم يكن مقطوعاً بصحتها كان الوهم والشك والظن.
فالعلم يقيني، العلم شمولي، العلم مطّرد، علاقة ثابتة بين متغيرين، تفضي إلى قانون، هذه العلاقة مقطوع بصحتها، ليست شكاً، ولا وهماً، ولا ظناً، ولكنها يقين، مقطوع بصحتها، تطابق الواقع، لو لم تكن كذلك لكانت جهلاً عليها دليل، ولو لم يكن الدليل لكان التقليد.
في الكون في قوانين:
إذاً: في الكون في قوانين.
النقطة الأولى أيها الإخوة، أن هذه القوانين التي تصل إلى المليارات ثبتها الله عز وجل، ثبتها كي تستقر حياتنا، مليارات القوانين، الفيزيائية، والكيميائية، والفلكية، ودوران الفلك، وخصائص المواد، أية علاقة ثابتة بين شيئين هي قانون، مليارات القوانين ثابتة من آدم إلى يوم القيامة.
مثلاً: يمكن أن تقول: في عام 2700 ـ يوم 28 شباط الشمس تشرق 5 و3 دقائق، لأن دورة الأفلاك ثابتة، بالثواني، خصائص المواد، الحديد له خصائص، أنشأنا بناء من مئة طابق، لو أن الحديد يغير خصائصه لانهار البناء، تشتري سبيكة ذهبية بمبلغ كبير جداً، لو أن الذهب يغير خصائصه لفقدت هذه السبيكة قيمتها.
هناك نِعم لا تعد ولا تحصى، قوانين ثابتة، تزرع فاكهة معينة، ثم تأتي الثمرة من هذه الفاكهة، لأن قوانين الإنبات ثابتة، وقوانين الأفلاك ثابتة، وقوانين الدوران ثابتة، وقوانين الليل والنهار ثابتة، وخصائص المواد ثابتة، وقوانين الزراعة ثابتة، هذه نعمة لا تعدلها نعمة، فكل هذه القوانين ثابتة مطّردة، شاملة، لا تتغير، ولا تتبدل، وهي محل اتفاق في العالم كله، فقانون التمدد لا علاقة له بالسياسة، في الشرق، والغرب، والشمال، والجنوب، وقديماً وحديثاً، في بلد متخلف، وفي بلد متقدم، القانون هو القانون، هناك نِعم لا تعد ولا تحصى منها ثبات القوانين لتكون حياتنا مستقرة، والتعامل مستمرا.
الحكمة الربانية اقتضت تحريك قانون الرزق والصحة:
ولكن لحكمة بالغة بالغةٍ بالغة حرك الله بعض القوانين، من هذه القوانين الرزق، هذا قانون متبدل، والصحة، والإنسان حريص على صحته حرصاً لا حدود له، وحريص على رزقه حرصاً لا حدود له، ولعل الحكمة من ذلك أن الله عز وجل يريد أن يكون الرزق والصحة وسيلتين من وسائل التربية.
هذه الطاولة مثلا صنعت لاستخدام لا يزيد على بضع مئات من الغرامات، لكن يمكن أن يقف عليها ستة أشخاص، معنى ذلك أن فيها احتياط ألف ضعف عن استعمالها، إذاً يمكن أن تعيش مئات السنين كما هي، لأنه فيها احتياطًا على مهماتها ألف ضعف.
كان من الممكن أن يكون لكل جهاز في جسمنا ولكل عضو احتياط ألف ضعف، فلا مرض، والإنسان بالتعبير المعاصر سريع العطب، أحيانا خثرة في الدماغ تنهي حياته، أو سكتة قلبية فجأة، فكان من الممكن لإنسان أن يعيش مليون سنة كما هو شاب تماماً، لكن شاءت حكمة الله أن يكون المرض، والصحة متبدلة.
الرزق متبدل، فنحن في بلدنا الطيب يمكن في عام مجموع إنتاج القمح 650 ألف طن، في أعوام ستة ملايين، الإنتاج متبدل.
2 – معنى (المسعَِّر):
ما معنى الله (المسعر)؟ بالتعبير الاقتصادي الكم له علاقة بالسعر، فأحيانا تكون كميات المحاصيل فلكية، السعر ينخفض، وأحيانا يكون الكم قليلا، فيرتفع السعر.
أول ملاحظة أن الله عز وجل ثبت الأشياء، وحرك أشياء، الذي حركه من أجل أن يربينا، لأن الإنسان في الأصل خلق هلوعاً، هذا ضعف في أصل خلقه، وهو ضعف لصالحه، من أجل تربيته، لو لم يكن الإنسان هلوعاً لما تاب بعد شدة، ولا ما اصطلح مع الله بعد عسر، لأن العسر يقلقه، والشدة تقلقه، والخوف يقلقه.
الإنسان هلوعٌ جزوعٌ ضعيف:
" إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً " [المعارج:19].
هكذا خلق.
" إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً (21) إِلَّا الْمُصَلِّينَ " [المعارج:20-22].
بل الذي أراه والله أعلم إن دخلت إلى مسجد، ورأيت فيه آلافاً مؤلفة فاعتقد يقيناً أن تسعة أعشار هؤلاء جاؤوا إلى الله عقب تدبير حكيم، لاح له شبح مرض، ليس له إلا الله فأقبل عليه، وتاب إليه، لاح له شبح فقر، فاعتصم بالله، ودعا الله عز وجل، فهناك شريحة من البشر كبيرة جداً لا تستجيب إلا عقب الشدة، فالله سبحانه وتعالى بدّل قوانين الرزق، وقوانين الصحة.
الإنسان أحياناً يسعد بصحته، فإذا لاح له شبح مرض لجأ إلى الله، وهذا من فضل الله علينا.
" إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً " [المعارج:19].
وخلق ضعيفاً.
" وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفاً " [النساء:28].
لأنه إذا كان ضعيفاً افتقر في ضعفه، فسعد بافتقاره، ولو خلقه الله قوياً لاستغنى بقوته فشقي باستغنائه.
أحياناً يكون الإنسان قويًا، وغنيا، يتوهم أنه مستغنٍ عن الله، وكل إنسان يعتدّ بحجمه المالي، أو بصحته، أو بمكانته، أو بقوته، أو بمنصبه، لحكمة بالغةٍ بالغة يؤتى الحذر من مأمَنه، من جهة أمنه، من جهة ثقته، من جهة قوته، قد يصاب، لذلك عرفت الله من نقض العزائم.
أحيانًا إنسان عنده اختصاص نادر، يتوهم أنه لن يصيبه مكروه باختصاصه، يفاجأ أنه في اختصاصه أصابه مكروه، يؤتى الحذر من مأمنه.
فكلمة (المسعِّر) تعني أن الله عز وجل بيده الرزق، الأمطار بيده، لو أن الله سبحانه وتعالى أصاب بلاداً بالجفاف، هؤلاء القادة الذين في البلاد، والزعماء، ليجتمعوا، وليتخذوا قرارا بإنزال المطر.
زرت بلدا في إفريقيا فوجدت أن ما يهطل من أمطار في الليلة الواحدة يساوي أمطار دمشق في عامين، 400 مم، وفي أماكن أخرى الأمطار فيضانات مهلكة، وفي أماكن الريح مدمرة.
بالتعبير المستخدم حديثاً الخيارات التي عند الله لا تعد ولا تحصى، الشيء الثمين جداً الذي هو قوام الحياة كالهواء يغدو مدمراً، والماء مدمر، فقلّته مدمرة، وكثرته مدمرة، بحكمة حكيم، وقدرة قدير، وعلم عليم.
فلذلك الحديث مرة ثانية: " غَلَا السِّعْرُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، سَعِّرْ لَنَا، فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمُسَعِّرُ الْقَابِضُ الْبَاسِطُ الرَّزَّاقُ ".
هذا أمر تكويني، وأنتم تعلمون أيها الإخوة، أن هناك أمراً تكوينياً هو فعل الله، وأن هناك أمراً تكليفياً هو أمره، الله عز وجل أمر العباد في بيعهم وشرائهم ألاّ يظلموا.
الإسلام حريص على السعر المعتدل:
بالمناسبة، ما من نشاط يمارسه الإنسان أوسع من نشاط البيع والشراء، فالبيع والشراء أوسع نشاط بشري، أنت مضطر أن تشتري طعامك وشرابك، وأن تشتري لباسك، وحاجاتك، وأجهزتك، فالبيع والشراء عمل مستمر يومي، وأخطر ما في البيع والشراء السعر.
لذلك كان سيدنا عمر رضي الله عنه إذا سأل الولاة يسألهم: " كيف الأسعار عندكم؟ لأن رحمة الله تتجلى في الأسعار، وقد تجد كل شيء متوفرا، لكن الأسعار فوق طاقة المشتري، كيف الأسعار عندكم؟
" يا رسول الله: غَلا السِّعْرُ، فَسَعِّرْ لنا "
لما يضع الإنسان السعر يظلم به البائع، وأحيانا يكون السعر أقلَّ من الكلفة، فإذا باع الحاجة بسعر أعلى من الكلفة قليلاً فلأنه تحت سيف القانون، وأحيانا التسعير ظالم، وأحياناً يكون الاستيراد ممنوعا، فيغلو العيش، يغلو، ولو سمح باستيراده عاد إلى السعر الطبيعي، إلى القانون الذي يسمونه قانون العرض والطلب.
في الإسلام مثلاً مئات الأحاديث التي تمنع الغش، والاحتكار، والإيهام، والتدليس، ومعاصي البيع والشراء لا تعد ولا تحصى، لو أننا تلافيناها جميعاً، واستقمنا على أمر الله جميعاً لفوجئنا أن السعر أصبح معتدلاً في كل شيء، لأن السعر بيد الله، بحسب الكم وبحسب الحاجة، الكم والحاجة يتداخلان، ويتفاعلان فيشكلان السعر، وهناك مواد كثيرة كان ممنوعا استيرادها فبلغت سعرا خياليا، فلما سُمح باستيرادها أخذت سعراً طبيعياً جداً، وهو سعر السوق كما يسمونه، والآن هو نظام السوق، وتجارة السوق، ففي في السوق عرض وطلب، أما إذا منعت شيئاً، أو احتكرته، أو أوهمت الناس بشيء، أو دلست عليهم السعر يغلو عندئذٍ.
لذلك الإسلام من عظمته حرص حرصاً شديداً على أن يبتعد المسلم عن كل المعاصي في البيع والشراء، فإذا ابتعد كان السعر طبيعياً، ولا يحتاج إلى تسعير.
3 – إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمُسَعِّرُ:
التسعير في حالات الأزمة والشدة لا ينافي أن الله هو المسعر:
إن الدراسة المطولة حول هذا الموضوع تؤكد أن ولي أمر المسلمين في مناسبات معينة، في أيام الشدة، في أيام الحروب، من حقه أن يسعر، حفاظاً على مصالح المسلمين، هذا الاستثناء لا يلغي القانون، القانون أن الله هو (المسعر) لكن أحياناً تكون أزمات اقتصادية طاحنة، وهناك مخزون كبير جداً من هذه البضاعة، لكنه رهن الاحتكار وعدم البيع، وهذه معصية كبيرة.
حقائق مستنبطة من اسم الله (المسعِّر):
1– التسعير القسري قد يمنع الخير:
فلذلك الحقيقة أن الله جل جلاله هو (المسعِّر) أما أن يكون الناس في رخاء وفي بحبوحة، والمواد موفورة، والناس في غنى، وتأتي أنت ولي الأمر لتضع أسعارا هابطة فتعيق الناس عن أرباحهم، فهذا ظلم، من هنا تبين أن النبي عليه الصلاة والسلام رفض أن يسعِّر لما قيل له: " يَا رَسُولَ اللَّهِ، سَعِّرْ لَنَا، فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمُسَعِّرُ " لذلك إذا كان الناس في رخاء، وفي بحبوحة، والمواد متوافرة، والناس في غنى، فالتسعير القسري قد يمنع الخير عن معظم الناس، فالنبي عليه الصلاة والسلام أبى أن يسعر، لأنه بيّن أن التسعير أحياناً يقع في حالة من الظلم لا يرضاها النبي لنفسه.
2 – جواز التسعير في حالات الجشع وغلاء الأسعار تحقيقًا للمصلحة العامة:
ولكن هناك حالة ثانية أقرها الفقهاء، حينما يكون البائع جشعاً، ويريد أن يربح أرباحاً طائلة، ويحتكر المواد، ويقنن على الناس بغية ارتفاع الأسعار، ومضاعفة الأرباح، حينئذٍ يتدخل ولي الأمر لرحمة الناس، ولتوفير المواد فيسعر.
إذاً: عندنا تسعير ظالم، و تسعير يعدّ حكيماً من قِبل ولي الأمر.
دائماً الشريعة كما قال بعض العلماء: " عدل كلها، رحمة كلها، حكمة كلها مصلحة كلها، فأية قضية خرجت من المصلحة إلى المفسدة، من العدل إلى الجور، ومن الحكمة إلى خلافها، فليست من الشريعة، ولو أدخلت عليها بألف تأويلٍ وتأويل.
فالحقيقة الأولى في هذا اللقاء: أن التسعير إذا كان مؤدياً إذا ظلم عميم فالنبي حرمه، أما إذا تدخل ولي الأمر بإنقاذ الفقراء من جشع الأغنياء، ومن رفع الأسعار رفعاً مفتعلاً عن طريق الاحتكار، ومنع بيع البضاعة، أو الإيهام، أو التدليس، عندئذٍ أقر الفقهاء لولي الأمر في حالات يقع فيها ظلم شديد أن يسعر.
إذاً: التسعير الذي يؤدي إلى الظلم حرمه النبي عليه الصلاة والسلام، أما التدبير الحكيم الذي يؤدي إلى إيصال المواد إلى المستهلك الفقير بغية أن تقوم حياته على شكل معقول فقد أقره الفقهاء استثناء من هذا الحديث.
3 – معنى (المسعِّر):
على كلٍ (المسعِّر) اسم فاعل، من فعل رباعي، كلكم يعلم الفعل الثلاثي وزن اسم فاعله فاعل، كتب كاتب، أما الفعل الرباعي سعر يسعر مسعر، فالمسعر هو الله عز وجل.
وقد بينت كثيراً أن المواسم الزراعية قد تتفاوت من عام لآخر، أحياناً تتضاعف المواد أضعافاً كثيرة، عندئذٍ ترخص الأسعار.
إذاً: التسعير أن يكون فعلاً إلهياً تكوينياً، أو أن يكون فعلاً بشرياً تنظيمياً، من أجل أن يكون فعلاً إلهياً تكوينياً لقضية الإنتاج والخصب والغلة، أو يكون فعلاً بشرياً تنظيماً بيد ولي أمر المسلمين، وله ولولي الأمر أن يسعر بعض المواد الأساسية.
لكن من معاني هذا الفعل سعّر يسعر تسعيراً وتسعيرة، يعني وضع سعراً محدداً لهذا السلعة، وقولك: سعّر النار ؛ أي أشعلها، والآية الكريمة: " كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيراً " [الإسراء:97].
" وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ " [التكوير:12].
و(المسعر) هو سبحانه وتعالى، لأنه يزيد الشيء، ويرفع من قيمته، أو من تأثيره، أو من مكانته، أو يخفض من قيمته أو تأثيره أو مكانته، يقول الله عز وجل: " وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيراً " [الفتح:13].
نحن في معاني كلمة المسعر والسعير:
" وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيراً "
لذلك علماء المسلمين قاطبة رأوا أن الإيمان باليوم الآخر هو إيمان إخباري، أن النبي عليه الصلاة والسلام في أحاديثه، وأن القرآن في أخباره أخبرنا عن يوم آخر تسوى فيه الحسابات، ولكن الحقيقة التي ينبغي أن تكون واضحة أن بعض العلماء وعلى رأسهم ابن القيم ـ رحمه الله تعالى ـ يرى أن الإيمان باليوم الآخر إيمان عقلي، لأنه لا يعقل أن يكون في الأرض غني وفقير، وقوي وضعيف، وظالم ومظلوم، وتنتهي الحياة هكذا من دون تسوية حسابات.
إذاً: لا بد من يوم تسوى فيه الحسابات، جاءت الآية الكريمة: " وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيراً ".
اسم (المسعر) يدل على ذات الله، وعلى صفة التسعير، إذا كان يوم القيامة ينزل إلى العباد ليقضي بينهم، وكل أمة جاثية، إلى أن قال: " يا أَبا هُريرة، أُولئك الثلاثة أَوَّلُ خَلقِ اللهِ تُسَعَّرُ بهم النار يوم القيامة " [أخرجه مسلم والترمذي والنسائي عن أبي هريرة].
هؤلاء الذين استغلوا، وظلموا، وأخذوا ما ليس لهم.
4 – الدعاء باسم (المسعِّر):
أيضاً أيها الإخوة، يمكن أن ندعو باسم (المسعر) لأن الله عز وجل يقول: " وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا " [الأعراف:180].
وحينما قال الصحابة الكرام: " يا رسول الله سعر لنا، فقال: بل الله يرفع ويخفض، وإني لأرجو أن ألقى الله وليست لأحد عندي مظلمة " [أخرجه الطبراني عن أبي هريرة].
فقال آخر: " سَعِّرْ لنا، فقال: بلْ أدْعُو عز وجل " [أخرجه أبو داود عن أبي هريرة].
إذاً: يتضح من التسعير أنه فعل كوني من قِبل الله عز وجل متعلق بالغلات، والإنتاج و التسعير كفعل بشري يتعلق بولي الأمر حينما يضع حداً بجشع التجار.
كان الرجل إذا أسلم علمه النبي الصلاة، ثم أمره أن يدعو بهؤلاء الكلمات: " اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي وَارْحَمْنِي وَاهْدِنِي وَعَافِنِي وَارْزُقْنِي " [مسلم عن أبي مالك الأشجعي عن أبيه].
ومن أدعية النبي عليه الصلاة والسلام: " اللهم ارزقني طيباً، واستعملني صالحاً " [الجامع الصغير عن حنظلة بسند فيه ضعف].
ولأدعية النبي عليه الصلاة والسلام معان دقيقة جداً، من أدعيته: " اللهم أنا بك وإليك، أنا بك، قائم بك، وأنت قصدي " [ورد في الأثر].
" اللهم ارزقني طيباً، واستعملني صالحاً " [الجامع الصغير عن حنظلة بسند فيه ضعف].
" وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا "
فكل دعاء يقول: اللهم ارزقني هو دعاء باسم (المسعِّر) اللهم ارزقني.
" وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا "
" اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي وَارْحَمْنِي وَاهْدِنِي وَعَافِنِي وَارْزُقْنِي "
وبينت أيضاً أن الإنسان النعمة الأولى في حياته هي نعمة الهداية وقد قالوا: تمام النعمة الهدى والنعمة الثانية الصحة لذلك كان عليه الصلاة والسلام يكثر من دعائه الشريف: " اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْمُعَافَاةَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ " [ابن ماجه].
والنبي عليه الصلاة والسلام أيضاً كان يدعو فيقول: " اللَّهُمَّ ارْزُقْنِي حُبَّكَ وَحُبَّ مَنْ يَنْفَعُنِي حُبُّهُ عِنْدَكَ، اللَّهُمَّ مَا رَزَقْتَنِي مِمَّا أُحِبُّ ـ دققوا في هذا المعنى ـ فَاجْعَلْهُ قُوَّةً لِي فِيمَا تُحِبُّ اللَّهُمَّ، وَمَا زَوَيْتَ عَنِّي مِمَّا أُحِبُّ فَاجْعَلْهُ فَرَاغًا لِي فِيمَا تُحِبُّ ".
في كل الحالات الشيء الذي تحبه إذا أكرمك الله به ليكن في سبيل الله، والامتحان الذي أبينه لكم دائماً أنك ممتحن فيما أعطاك الله، وممتحن فيما زوى عنك، أي شيء منحك الله إياه أنت ممتحن به.
لأن الدنيا في الأصل دار ابتلاء، إن هذه الدنيا دار التواء لا دار استواء، ومنزل ترح لا منزل فرح، فمن عرفها لم يفرح لرخاء، ولم يحزن لشقاء، قد جعلها الله دار بلوى، وجعل دار الآخرة دار عقبة، فجعل بلاء الدنيا لعطاء الآخرة سببا، وجعل عطاء الآخرة من بلوى الدنيا عوضا، فيأخذ ليعطي، ويبتلي ليجزي.
إذاً: حينما تقول: اللهم ارزقني فقد دعوت الله عز وجل (المسعر) بمعنى هذا الاسم، وهو الرزق، والإنسان حريص على صحته، وحريص على رزقه، والله عز وجل هو الرزاق.
وكنت أقول دائماً: تفاحة على غصن في شجرة في بستان، هذه لك، ولكن طريقة انتقالها إليك باختيارك، يمكن أن تأكلها ضيافة، ويمكن أن تأكلها هدية، ويمكن أن تأكلها شراء، أو تهدى إليك، أو أن تأكلها ضيافة، ويمكن ـ لا سمح الله ولا قدر ـ أن يأكلها بعض الناس سرقة، ويمكن أن يأكلها بعض الناس تسولاً، فهي إما تسول، أو سرقة، أو شراء، أو ضيافة، وهكذا.
إذاً: طريقة انتقال الرزق إليك باختيارك، أما هو فلك، لذلك:
" إنَّ رُوح القُدسِ نَفَثَ في رُوعي إِنَّ نَفْساً لَنْ تَمُوتَ حَتَّى تَسْتَوْفِيَ رِزْقَهَا، وَإِنْ أَبْطَأَ عَنْهَا فَاتَّقُوا اللَّهَ، وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ " [أخرجه ابن ماجه عن جابر بن عبد الله].
وفي زيادة: " واستجملوا مهنكم ".
بين الكسب والرزق:
اختر مهنة شريفة، الرزق هو هُو، ودائماً ولا زلنا في موضوع الرزق، فقد فرق العلماء بين الكسب وبين الرزق، الرزق ما انتفعت به فقط، فالثوب الذي تلبسه، والطعام الذي تأكله، والسرير الذي تنام عليه، والثياب التي تلبسها هي رزقك، أما حجمك المالي فهو كسبك، الكسب مال جمعته، ولم تنتفع به، بل سئُلت عنه يوم القيامة، من أين اكتسبته؟ وفيمَ أنفقته؟.
فالفرق واضح جداً بين الرزق وبين الكسب، الذي ينتفع به فقط هو رزقه، والذي جمعه هو كسبه، الذي جمعه هو محاسب عليه، من أين اكتسبه؟ وفيمَ أنفقه؟ من هنا ورد في بعض الآثار: " أن روح الميت ترفرف فوق النعش، تقول يا أهلي يا ولدي، لا تلعبن بكم الدنيا كما لعبت بي، جمعت المال مما حرم، فأنفقته في حله وفي غير حله، فالهناء لكم والتبعة علي " [ورد في الأثر].
إذاً: أيها الإخوة، قضية المال قضية خطيرة، تُسأل عن المال مرتين: مرة من أين اكتسبته؟ ومرة فيمَ أنفقته؟
" فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ " [الحجر:92-93].
وقد قال بعض العلماء: " ترك دانق من حرام خير من ثمانين حجة بعد حجة الإسلام ".
لا زلنا في الدعاء باسم (المسعر) باسمه نصاً، أو بمعناه الواسع.
أيها الإخوة الكرام، حينما يصح دخلك يستقيم الطريق إلى الله عز وجل، لأن تسعة أعشار المعاصي في كسب الأموال والعلاقة بالنساء، ولو جمعنا الأحكام لوجدنا أن تسعة أعشارها متعلقة في موضوعين: موضوع كسب المال، وموضوع العلاقة بالنساء، لذلك أحكام الشريعة واسعة جداً في هذين الموضوعين.
إذاً: الدعاء بالرزق مشروع " اللهم ارزقني طيباً، واستعملني صالحاً " [الجامع الصغير عن حنظلة بسند فيه ضعف].
الحلال صعب، والحرام سهل:
ولا بد من تنويه إلى قضية دقيقة، وهي: أن الشيء اللطيف والحكيم أن الرزق الحلال صعب، وأن الرزق الحرام سهل، لو عكست الآية، لو أن الكسب الحلال سهل جداً، وأن الكسب الحرام صعب جداً لأقبل جميع الناس على الحلال، لا طاعة لله، ولا حباً له، ولا ابتغاء مرضاته، ولكن طلباً للأسهل، لذلك شاءت حكمة الله أن يكون الرزق الحلال صعبا، والرزق الحرام سهلا.
أحياناً يعمل إنسان عاماً بأكمله، يشتري بضاعة، يعرضها، يوزعها، يبيعها، بعضها نقداً، وبعضها ديناً، يجمع ثمنها، يدفع مصاريفها، يعين موظفين، في النهاية قد يربح وربما لا يربح، وأحياناً يغض الإنسان بصره عن مخالفة تؤذي المسلمين، يأخذ الملايين فالحرام سهل، بغض بصر، أو بتواطؤ، أو بإغراء، أما الحلال صعب، لذلك البطولة أن تكسب المال الحلال، ولو كان صعباً، وقد ورد في بعض الآثار: " من بات كالاً مِن طلب الحلال بات مغفوراً له " [الجامع الصغير عن أنس بسند ضعيف].
لا تضجر من كسب الحلال فهو صعب.
هناك امرأة تعمل طوال النهار لتأخذ 500 ليرة، وامرأة أخرى تأخذها في دقائق، فالكسب الحرام سهل، والحلال صعب، هذه حكمة بالغة في الدنيا، فهذا الذي يبحث عن الحلال مؤمن ورب الكعبة، هذا الذي يقول: معاذ الله يعتقد أن الله هو الغني.
" ما ترك عبد شيء لله إلا عوضه الله خيراً منه في دينه ودنياه " [الجامع الصغير عن ابن عمر بسند فيه مقال].
الدنيا مفعمة بالامتحانات، فقد يعرض على إنسان عمل بدخل كبير، لكن هذا العمل لا يرضي الله، قد يبنى على مضرة الآخرين، قد يبنى على أخذ أموالهم بالباطل، فأي عمل قادك إلى معصية الله فهو خسارة ما تعدلها خسارة، وأي عمل مهما كان دخله قليلاً إذا كان في مرضاة الله كان ربحاً كثيراً، لذلك كان الرجل إذا أسلم علّمه النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة، ثم أمره أن يدعو بهؤلاء الكلمات: " اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي وَارْحَمْنِي وَاهْدِنِي وَعَافِنِي وَارْزُقْنِي " [مسلم عن أبي مالك الأشجعي عن أبيه].
رَحِمَ اللهُ رجلاً سَمْحاً إذا باع، وإذا اشترى:
في كسب الرزق يقول عليه الصلاة والسلام: " رَحِمَ اللهُ رجلاً سَمْحاً إذا باع، وإذا اشترى، وإذا اقْتَضَى " [أخرجه البخاري عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما].
هناك تعنت في كسب الرزق، هناك قسوة في كسب الرزق، هناك شدة في كسب الرزق، النبي عليه الصلاة والسلام يقول: " رَحِمَ اللهُ رجلاً سَمْحاً إذا باع، وإذا اشترى وإذا اقْتَضَى " وفي رواية: " وإذا اقتضى " والمؤمن من علامات إيمانه السهولة، واليسر، والتسامح في علاقاته المادية والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: " التَّاجِرُ الأمينُ الصَّدُوقُ: مع النَّبيِّينَ والصِّدِّيقين والشُّهداء " [أخرجه الترمذي عن أبو سعيد الخدري رضي الله].
لذلك ورد في بعض الآثار:
" إن أطيب الكسب كسب التجار، إذا حدثوا لم يكذبوا، وإذا وعدوا لم يخلفوا وإذا ائتمنوا لم يخونوا، وإذا اشتروا لم يذموا، وإذا باعوا لم يطروا، وإذا كان لهم لم يعسروا، وإذا كان عليهم لم يمطلوا " [الجامع الصغير عن معاذ بسند ضعيف].
سبعة صفات وردت في بعض الآثار تجعل أطيب الكسب كسب التجار، لذلك:
" التَّاجِرُ الأمينُ الصَّدُوقُ: مع النَّبيِّينَ والصِّدِّيقين والشُّهداء " لأن التاجر يحقق لك أكبر حاجة في حياتك موادك الأولية، طعامك، شرابك، ثيابك، وأنت إنسان تحتاج مليون حاجة، فهذا الذي يقدمها لك بنوعية جيدة، وبسعر معتدل هو داعية إلى الله دون أن يشعر، لذلك أكبر قطر إسلامي في العالم إندونيسيا يعد 250 مليونًا فتح عن طريق التجار، لا سلاح، ولا حرب، ولا جيوش، تاجر صدوق أمين، فلا تستهن بهذه الحرفة، يمكن أن تلبي حاجات الناس، لذلك الناس أحياناً يدعون من أعماق قلوبهم لتاجر صدوق باعهم سلعة جيدة، سعرها معتدل، وجيدة، وقدمت لهم خدمات كثيرة.
النبي عليه الصلاة والسلام فيما روي عنه من حديث أبي ذر قال: " قلت ومن هؤلاء الذين يشنأهم الله ؛ يبغضهم الله؟ قال: التاجر الحلاف يكثر الحلف، أو قال البائع الحلاف، والبخيل المنان، والفقير المختال " [ورد في الأثر].
وورد: " أحب ثلاثاً، وحبي لثلاث أشد، أحب الطائعين، وحبي للشاب الطائع أشد، أحب الكرماء، وحبي للفقير الكريم أشد، أحب المتواضعين، وحبي للغني المتواضع أشد، وأبغض ثلاثة، وبغضي لثلاث أشد، أبغض العصاة، وبغضي للشيخ العاصي أشد، أبغض المتكبرين، وبغضي للفقير المتكبر أشد، أبغض البخلاء، وبغضي للغني البخيل أشد ".
لذلك ورد أيضاً: " أن العدل حسن، لكن في الأمراء أحسن، فأجمل صفة في الأمير العدل، وأن الورع حسن، لكن في العلماء أحسن، وأن الحياء حسن، لكن في النساء أحسن، وأن السخاء حسن، لكن في الأغنياء أحسن، وأن الصبر حسن، لكن في الفقراء أحسن، وأن التوبة حسن، لكن في الشباب أحسن ".
خاتمة:
إذاً: أيها الإخوة، الله هو (المسعر) بفعله التكويني، وولي أمر المسلمين حينما يرى في مصلحة أمتي أن يسعر، يسعر بتدبيره الفقهي، ولأن الإنسان مطلوب أن يدعو في هذا الاسم بمعنى هذا الاسم حينما يقول: " اللهم ارزقني طيباً، واستعملني صالحاً ".
وأن الكسب شيء، وأن الرزق شيء آخر، الرزق ما انتفعت به، والكسب مال حصلته ولم تنتفع به، وسوف تحاسب عليه، وأن من أدق الحسابات يوم القيامة حساب المال، من أين اكتسبه؟ وفيمَ أنفقته؟
أيها الإخوة الكرام، نسأل الله جل جلاله أن يرزقنا طيباً، ويستعملنا صالحاً.
والحمد لله رب العالمين
مختارات