(( الوهاب )) تبارك وتعالى
( الوهاب ) تبارك وتعالى
قال ابن القيم رحمه اللَّه:
المعنى اللغوي:
الواهب: الكثير الهبة والعطية، والوهَّاب على وزن الفعَّال للمبالغة، فالله عز وجل هو الوهَّابُ يَهَبُ لعباده واحدٍ بعد واحدٍ ويعطيهم فجاءت الصفة على وزن فعَّال لكثرة ذلك وتردَّده.
والهبة: الإعطاء تفضلاً وابتداءً من غير استحقاق ولا مكافأة، وقيل: الهبة أن تجعل ملكك لغيرك بغير عِوضٍ ولا غَرَضٍ وبغير قدرة من الموهوب على كسبها ولا تكون هبة إلا بهذين الركنين:
1- التملك.
2- بلا عوض([1]).
الدليل الشرعي:
ورد اسم ( الوهاب ) تبارك وتعالى في كتاب اللَّه سبحانه وتعالى ثلاث مرات وهي:
الأولى: قال تعالى: { رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ } [ آل عمران: 8 ].
الثانية: قال جل جلاله: { قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لاَ يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ } [ ص: 35 ].
معنى الاسم في حق الله جل جلاله:
قيل: ( الوهَّاب ) هو الذي يهب العطاء دون عِوَض ويمنحُ الفضلَ بغير غرض.
قال الخطابي: ( الوهَّاب ) هو الذي يجود بالعطاء عن ظهر يدٍ من غير استثابة ؛ أي من غير طلب للثواب من أحد.
قال تعالى: { الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ } [ البقرة: 22 ].
وقال جل جلاله: { اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الأَنْهَارَ (32) وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ (33) وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ } [ إبراهيم: 34 ].
فانظر إلى هباته - سبحانه وبحمده - تتابعت نعمه وفاض كرمه وزاد بره وكثر خيره.
( يغفِرُ ذنبًا، ويُفرِّج كربًا، ويَجْبُر كسيرًا، ويُغني فقيرًا، ويشفي سقيمًا ويُخْصِبُ عقيمًا، ويعلِّم جاهلاً، ويهدي ضالاً، ويرشد حيرانًا، ويغيث لهفانًا، ويفك عانيًا، ويكسو عاريًا، ويُسلِّي صابرًا، ويزيد شاكرًا، ويقبل تائبًا، ويجزي محسنًا، ويعطي محرومًا، وينصر مظلومًا، ويقصم ظالمًا، ويُقِيلُ عثرةً، ويسترُ عورةً، ويؤمِّن روعة، ويزيل لوعة ).
وكل ذلك في غير استحقاقٍ من عباده ولا حقَّ لهم عليه.
ولله درُّ القائل:
لذلك قيل: ( الوهاب ) هو المتفضل بالعطايا الذي ينعم بها لا عن استحقاق عليه، بل هي محض تفضل منه، وما دفع أحدٌ من خلقه ثمنًا لها ولا كافأه عليها تبارك وتعالى، وقيل أيضًا: ( الوهاب ) هو الذي يجود بجزيل العطاء والنوال كثير المنِّ والإفضال واللطف والإقبال، يعطي من غير سؤال، ولا يقطع فيما يحبه الآمال، وصدق من قال:
فانظر إلى هباته جل جلاله تحدثك عن خالقها، وواهبها بأفصح لغة، فتنطق بلسان حالها ( قائلةً ): أن اللَّه عز وجل هو الذي وهبها في حالها ومآلها ولا وهَّاب لها غيره ولا رازق لها سواه.
قال تعالى: { أَمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (60) أَمْ مَنْ جَعَلَ الأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلاَلَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ (61) أَمْ مَنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ (62) أَمْ مَنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (63) أَمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } [ النمل: 60 - 64 ].
ولو استقصينا الأدلة التي تتحدث عن هبات اللَّه جل جلاله في القرآن والسنة لا نكاد نحصيها كثرة وتعددًا وتنوعًا واختلافًا من كثرتها وتعددها واختلافها، فما من مخلوق أُعطي رزقًا إلا والله هو الذي أعطاه، وما من عبدٍ وُهِبَ نعمة إلا والله هو الذي وهبه.
كما في قوله تعالى حين سُئل موسى عليه السلام عن اللَّه: { قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى } [ طه: 50 ].
فالولد الصالح أيضًا هبة:
قال تعالى عن نبيه إبراهيم عليه السلام: { وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً } [ الأنبياء: 76 ]. وقال عز وجل عن نبيه داود عليه السلام: { وَوَهَبْنَا لِدَاوُدَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ } [ ص: 30 ].
وقال جل وعلا عن نبيه زكريا: { وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى }[ الأنبياء: 90 ]. وقد يجمع اللَّه عز وجل لعبد من عباده كلا الهبتين من الذكور والإناث، كما في قوله تعالى: { يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ } [ الشورى: 49، 50 ].
والزوجة الصالحة هبة:
قال تعالى: { وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا } [ الفرقان: 74 ].
وقال تعالى عن نبيه زكريا عليه السلام: { فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ } [ الأنبياء: 90 ].
الأهل هبة:
قال تعالى في نبيه أيوب عليه السلام: { وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا } [ ص 32 ]، الأخ الصالح هبة، قال تعالى عن نبيه موسى حين أرسل معه أخاه هارون: { وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا } [ مريم: 53 ].
النبوة هبة:
قال جل وعلا عن نبيه موسى عليه السلام: { فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ } [ الشعراء: 21 ].
وأخبر عن نبيه إسحاق ويعقوب عليهما السلام فقال: { وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلاًّ جَعَلْنَا نَبِيًّا } [ مريم: 49 ].
الأخلاق الطيبة هبة:
فقد كان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: ( اهدني لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، وأصرف عني سيئها لا يصرف عني سيئها إلا أنت )([2]).
وقال عز وجل عن هباته لبعض الأنبياء والرسل: { وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا } [ مريم: 50 ].
من آثار الإيمان باسم اللَّه ( الوهاب ) تبارك وتعالى:
أولاً: أن ( الوهاب ) على الحقيقة هو اللَّه وحده.
فإن كل من يهب شيئًا من الخلق إنما يهب من هبات اللَّه له، فلا بد أن يهبه اللَّه ليَهَب، وأن يُعطيَه اللَّه ليُعطي، وأن يَرْزُقه اللَّه ليَرْزُق، أما اللَّه فإنه يُطِعِم ولا يُطعم وهو يجير ولا يُجار عليه. وقال تعالى: { وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ } [ النحل: 53 ].
ثانيًا: دعاء اللَّه باسمه الوهاب:
وهذه ثمرة معرفة اللَّه بهذا الاسم الطيب رجاؤه وسؤاله من هباته وواسع فضله سبحانه وبحمده، فمن نظر إلى واسع كرمه وجليل نعمه طمع في رحمته، وخير من عرف اللَّهَ هم الأنبياءُ الكرام عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام.
فانظر إلى نبي اللَّه إبراهيم عليه السلام وهو يسأل الله عز وجل الحكم والصلاح، فيقول: { رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ } [ الشعراء: 83 ].
وتأمل نبي الله سليمان عليه السلام وهو يسأل المُلك فيقول: { رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لاَ يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي } [ ص: 35 ].
وانتبه إلى دعاء نبي الله زكريا عليه السلام وهو يسأل الولد فيقول: { رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً } [ آل عمران: 38 ].
وقد سار الصالحون على درب الأنبياء والمرسلين عليهم السلام فتراهم يقولون: { وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ } [ آل عمران: 8 ].
ثالثًا: العلم بأن الهبة ليست مجرد عطاء:
فإن العطاء لا يكون هبة حتى يكون مقرونًا بطاعة وخير وبركة في الدنيا والآخرة. قال القاضي أبو بكر العربي: ( ولا تكون الهبة منه سبحانه والعطاء إلا أن يتعلق بنوع ما يكون به منعمًا محسنًا وذلك بما لا أَلَم فيه ولا ضرر فإذا كان ما يخلق ضررًا وألمًا لم تكن هبة ).
وهذا معنى قوله تعالى: { وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ } [ آل عمران: 8 ].
فقد علَّم اللَّه أولياءه كيف يسألونه الإنعام والإحسان على وجه لا يكون فيه مكر ولا استدراج، كما فعل بالكفار حين خلق لهم ومكنَّهم مما فيه ضررهم وهلكتهم ( كالذي يُرْزَق فَيَطْغَى ) فالمرجو منه سبحانه هبة يكون مآلها كحالها، لا تنفصل ولا تتغير ولا يقترن بها ضررٌ ولا ألم.
وقد كان الأنبياء عليهم السلام يسألون ربهم تبارك وتعالى الهبات المقرونة بالمغفرة، كما قال تعالى عن نبيه سليمان عليه السلام: { رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا } [ ص: 35 ].
ونبي اللَّه زكريا عليه السلام لم يسأل مجرد الولد والذرية ولكنه سأل وليًا للَّه صالحًا ؛ إذ قال: { فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا } [ مريم: 5 ]، وسمعنا أن نبي اللَّه يحيى كان كثير البكاء، فقال أبوه (نبيُ اللَّه زكريا): يا رب، إن ابني كثير البكاء، فأُوحى إليه أن هذا ما سألتَهَ. قال: سألتُ وليًّا، فقيل له: كذلك الأولياء لا يجف دمعهم.
وقد وصف اللَّه عباد الرحمن فكان من دعائهم: { رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا } [ الفرقان: 74 ].
قال ابن عباس رضي الله عنهما: يَعْنُونَ من يعمل بطاعة اللَّه فتقرَّ به أعينهم في الدنيا والآخرة([3]).
فهم لا يسألون مجرد زوجة، بل يسألون الصالحة منهن وهذا ما يسعدهم، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( فاظفر بذات الدين تربت يداك )([4]).
ولا يسألون مجرد الولد والذرية، ولكنهم يسألون أولادًا عُبَّادًا زُهَّادًا، صالحين قانتين، من الأبرار ليسوا من الفجار، علماء ليسوا من الجهلاء.
رابعًا: شكر اللَّه على هباته:
من رأى هبات اللَّه لا يسعه إلا أن يسبح بحمده تبارك وتعالى، كما قال خليل الرحمن عليه السلام حين وهبه اللَّه ولديه إسماعيل وإسحاق: { الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ } [ إبراهيم: 39 ].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( من لم يشكر الناس، لم يشكر الله )([5]).
خامسًا الزهد:
أيها الأحبة في اللَّه، هل رأيتم هبة من هبات الدنيا قد بقيت لصاحبها ؟ فليعلم كل من وهبه اللَّه شيئًا من الدنيا أنه زائل عنه ولا بد، فكما أخذه لابد أن يذهب عنه، فلا ينشغل بالخلق عن خالقه، ولا بالرزق عن رازقه، ولا ينشغل بالهبة عن واهبها تبارك وتعالى، ولا يشغله الفاني عن الباقي. قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ }. وقال تعالى: { كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ } [ الرحمن: 26، 27 ].
سادسًا: الرضا:
الرضا إذا أُعطِي والرضا إذا مُنع. إن أُعِطيَ علم أن اللَّه عزَّ وجلَّ قد أعطاه برحمته، وإن مُنِع علم أنّ الله تبارك وتعالى قد منعه بحكمته، ولا يكون كعبد الدينار والدرهم، فإنه لا يرضى إلا للدنيا ولا يسخط إلا لها، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( تعس عبد الدينار والدرهم والقطيفة والخميصة إن أُعطي رَضِيَ، وإن لم يُعْطَ لم يَرْضَ )([6]).
سابعًا: الصبر:
الصبر عند المصيبة بضياع النعم والهبات:
فقد يكون المنع هو عين العطاء، فإن ابتلاك اللهُ بالحرمان من نعمة بأن صرفها عنك أو أخذها بعد أن وَهَبَك إياها فلا بد وأن هناك حكمة من ذلك، فاصبر لحكم ربك، وذلك لعدة أمور منها:
1- أن اللَّه يحب الصابرين. قال تعالى: { وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ } [ آل عمران: 146 ]. وقرب اللَّه أجمل من كل قريب، وحب اللَّه أحلى من كل حبيب.
ولله در القائل:
2- لأن اللَّه عز وجل هو صاحب النعم، ولا يُسأل عما يفعل وهم يسألون، فعن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: أرْسَلَتْ بنتُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم إن ابني قد احْتُضِر فاشهدنا، فأرسل يقرئ السلام ويقول: ( إن لله ما أخذ وله ما أعطى، وكل شيءٍ عنده بأجلٍ مُسَمَّى فلتصبر ولتحتسب )([7]). وقال تعالى: { قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [ آل عمران: 6 ].
فمن أعظم ما يُسلي العبد ويُصبِّره إرجاعه الأمر لصاحبه وتسليمه المُلك لمالكه ويعلم أنه لا حق له في النعم، ولله أن يعطي ويمنع ويقبض ويبسط ولا معقب لحكمه ولا راد لقضائه. فعن أبي ذرٍ رضي الله عنه أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال له: ( أرأيت لو كان لك ولد فأدرك ورجوت خيره فمات أكنت تحتسب به ؟ ) قلت: نعم. قال: ( فأنت خلقته ؟ ) قال: بل اللَّهُ خلقه. قال: ( فأنت هديته؟ ) قال: بل اللَّه هداه. قال: ( فأنت ترزقه؟ ) قال: بل اللَّه كان يرزقه، قال: ( كذلك فضعه في حلال وجنِّبه حرامه، فإن شاء اللَّه أحياه وإن شاء أماته ولك أجر )([8]).
3- أن اللَّه يجزي الصابر على مصيبته، والمحتسب الأجر عليها بخيرٍ مما فقد منه في الدنيا والآخرة، كما قال تعالى في الحديث القدسي: ( إذا ابتليتُ عبدي بحبيبتيه فصبر عوَّضته منهما الجنة ) يريد عينيه([9]).
ومن الأمثلة المُشْرِقَة بالصبر، والناطقة بالرضى والاحتساب وقت المصيبة ما فعلته أم سُلَيْم رضي اللَّه عنها حين مات ولدها فغسَّلته وكفنته وتزينت لزوجها حتى جامعها، فماذا كان جزاء هذا الصبر الجميل ؟ هذا ما يجيبنا عليه أنس بن مالك رضي الله عنه فيما اتفق عليه الشيخان ؛ فعن أنس رضي اللَّه عنه قال: كان ابنٌ لأبي طلحة رضي الله عنه يشتكي، فخرج أبو طلحة فقُبِض الصبيُ، فلما رجع أبو طلحة، قال: ما فعل ابني ؟ قالت أم سليم وهي أم الصبي: هو أسكن ما كان، فقرَّبَتْ له العشاء فتعشى، ثم أصاب منها، فلما فرغ قالت: واروا الصبي، فلما أصبح أبو طلحة أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره. فقال: ( أعرستم الليلة ؟ ) قال: نعم. قال: ( اللهم بارك لهما )، فولدت غلامًا، فقال لي أبو طلحة: احمله حتى تأتي النبي صلى الله عليه وسلم، وبعث معه بتمرات، فقال: ( أمعه شيء ؟ ) قال: نعم تمرات. فأخذها النبي صلى الله عليه وسلم فمضغها، ثم أخذها من فِيه فجعلها في فِيِّ الصبي، ثم حنَّكه وسماه عبد اللَّه.
وفي رواية للبخاري: قال ابن عيينة: فقال رجل من الأنصار: فرأيت تسعة أولاد قد قرأوا القرآن - يعني أولاد من عبد اللَّه المولود.
وفي رواية لمسلم: مات ابنٌ لأبي طلحة من أم سليم، فقالت لأهلها: لا تحدثوا أبا طلحة بابنه حتى أكون أنا أحدثه، فجاء فقربت إليه عشاء فأكل وشرب، ثم تصنَّعت له أحسن ما كانت تصنع قبل ذلك، فوقع بها، فلما أن رأت أنه قد شبع وأصاب منها، قالت: يا أبا طلحة، أرأيت لو أن قومًا أعاروا عاريتهم أهل بيت فطلبوا عاريتهم، ألهم أن يمنعوهم ؟ قال: لا. فقالت: فاحتسب ابنك.
الثالث: أن اللَّه وإن ابتلي عبدًا بمصيبة فإنما يبتليه بشيء من المصائب، ولكنه يُعافيه في كثير من النعم ويُنزل عليه أيضًا كثيرًا من الأرزاق، فإذا تذكر العبدُ ما أنعم اللَّه به عليه هان عليه ما أصابه من البلاء وأعانه ذلك على الصبر والرضى عن اللَّه، ولقد كان هذا هو حال السلف الصالح، وسنذكر منها مثلاً ينطق بالحب وينبض بالرضى عن اللَّه في قضائه وقدره:
عروة بن الزبير بن العوام:
قطعت ساقُه ومات ولدُه في يومٍ واحد، فلما جاءه الناس ليخفِّفوا عنه ويواسوه، قال: إني واللَّه لراضٍ عن ربي، فقد أعطاني اللَّهُ أربعة من الولد فأخذ واحدًا وأبقى ثلاثة فالحمد لله، وأعطاني أربعة أطراف فأخذ واحدًا وأبقى ثلاثة، فالحمد للَّه.
ثامنا: ليس كمثله شيءٌ في هباته:
إن اللَّه عزَّ وجلَّ هو ( الوهَّاب )، فلا يشبهه أحدٌ من مخلوقاته في هباته، وذلك من وجوه:
أولاً: لأنه خالق الهبات:
فما من أحد من خلق اللَّه يهب هبةً إلا وهو محتاج إلى شيءٍ موجود مخلوق ليهبه، وما خلق هذه الهبات وغيرها إلا اللَّه تبارك وتعالى، فالناس يهبون من هبات اللَّه، واللَّه يعطي من هباته هو ومن صُنع يده. قال تعالى: { اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ }.
ثانيًا: يهب بغير عوض ولا غرض:
فكل من يهب شيئًا لغيره من الخلق فإنما يهبه لغرض في نفسه، ومقابل يرجوه، ولو لم يوجد هذا الغرض وذلك المقابل للهبات لم يُتصور حدوث الهبة. فالرجل يعطي الهبة لولدٍ أنجبه أو امرأة يتزوجها أو صديق يحبه، ولو تصورنا أن هذه الروابط قد انفصلت أو انعدمت لم يُتصور معها الهبات، فلو أن الولد عقَّ والده وهجره، أو أن المرأة طُلِّقت من زوجها وتزوجت بآخر، أو أن الصديق نقض عهده وخان ودَّه، لم يُتصور وجود الهبات، حتى العطاء للفقراء والمساكين الذين لا يُرجى منهم عطاءٌ ولا يتوقع منهم جزاءٌ فإنما يعطيهم من أجل غرضٍ آخر ؛ وهو النجاة يوم القيامة، كما قال تعالى: { إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لاَ نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلاَ شُكُورًا } [ الإنسان: 9 ].
أما اللَّه عزَّ وجلَّ فيهب بغير غرض ولا عوض، يهب تفضلاً منه وإحسانًا ولطفًا منه وبرًا، فكل المصلحة عائدة على العبد من هبات اللَّه في الدنيا والآخرة، فمن ذلك أن اللَّه عز وجل أنزل المال لخلقه ليعينهم به على عبادته ثم يجزيهم على تلك العبادة الجنة في الآخرة. فعن أبي واقد الليثي رضي الله عنه قال: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( إن اللَّه عز وجل قال: إنا أنزلنا المال لإقام الصلاة وإيتاء الزكاة )([10]).
ثالثًا: كثرة هباته وعظمتها:
فإن الناس وإن وهبوا فتكون هباتهم قاصرة ضعيفة، فقد يهب الرجل مالاً أو نوالاً، ولكن هل يستطيع أن يهب شفاءً لسقيم، أو ولدًا لعقيم ؟ لا يقدر على ذلك وغيره إلا اللَّه وحده. قال تعالى: { وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ }.
رابعًا: اللَّه عز وجلَّ هو الوهاب على الحقيقة:
وكل الناس واهبين على المجاز أي لا يملكون العطاء إلا لمن أراد اللَّه، فالوهَّاب في حقيقة الأمر وأصله هو اللَّه، ولكن يجعل لذلك أسبابًا، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيءٍ لم ينفعوك إلا بشيءٍ قد كتبه اللَّه لك )([11]).
وحين جاء جبريل عليه السلام إلى مريم عليه السلام قال لها: { إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاَمًا زَكِيًّا }، وفي قراءة أُخرى: ( ليَهب لَكِ غُلاَمًا زَكِيًّا ) أي: أن الوهاب على الحقيقة هو اللَّه، ولكن جبريل هو الذي تجري الهبة على يديه فيكون واهبًا على المجاز.
خامسًا: عموم هباته وشمولها للخلق جميعًا:
فإن العبد إن وهب غيره فإن هباته تكون خاصة بشخص دون آخر أو بجماعة دون غيرهم، ولكن اللَّه عز وجل وهب خلقه جميعًا البر منهم والفاجر، المؤمن والكافر، فما من أحد إلا وهو يتقلب في نعمه وينعم في هباته. قال تعالى: { قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى }.
سادسًا: الحكمة في الهبة:
فإن الناس قد يهبوا من لا يستحق أو من تضره الهبة، فيضروه من حيث أرادوا نفعه، أمَّا اللَّه عزَّ وجلَّ فإنه حكيم فيما يهب ولمن يهب عليم بمن يستحق خبير بمن تصلحه الهبات ممن تفسده، ولذلك فإنه لا يملك الهبة والنفع بها إلا الله وحده، ولذلك فإنه { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ }.
* * *
([1]) الأسنى للقرطبي.
([2]) أخرجه مسلم (771) من حديث علي، رضي الله عنه، في حديث طويل.
([3]) تفسير ابن كثير (3/313).
([4]) متفق عليه.
([5]) أخرجه أحمد (2/258)، والبخاري في الأدب المفرد (218)، وأبو داود (4811)، والترمذي (1954) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وانظر صحيح سنن أبي داود (4026).
([6]) رواه البخاري.
([7]) متفق عليه. احْتُضِر، أي: حضرته مقدمات الموت.
([8]) إسناده صحيح، رجاله رجال الصحيح، وأخرجه النسائي في الكبرى (9027)، والبيهقي في الشعب (11171) من طريق أبي عامر عبد الملك بن عمرو بهذا الإسناد.
([9]) صحيح: أخرجه البخاري (10/5653)، والبيهقي (3/375).
([10]) صحيح. أخرجه أحمد (ج 5 ص 218)، وصححه العراقي في تخريج الإحياء والألباني في صحيحه.
([11]) رواه الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح.
مختارات