" الصــــدق "
" الصــــدق "
#### أهمية الصدق في المجتمع:
(تبدو لنا حاجة المجتمع الإنساني إلى خلق الصدق، حينما نلاحظ أن شطرًا كبيرًا من العلاقات الاجتماعية، والمعاملات الإنسانية، تعتمد على شرف الكلمة، فإذا لم تكن الكلمة معبرة تعبيرًا صادقًا عما في نفس قائلها، لم نجد وسيلة أخرى كافية نعرف فيها إرادات الناس، ونعرف فيها حاجاتهم ونعرف فيها حقيقة أخبارهم.
لولا الثقة بشرف الكلمة وصدقها لتفككت معظم الروابط الاجتماعية بين الناس، ويكفي أن نتصور مجتمعًا قائمًا على الكذب؛ لندرك مبلغ تفككه وانعدام صور التعاون بين أفراده.
كيف يكون لمجتمع ما كيان متماسك، وأفراده لا يتعاملون فيما بينهم بالصدق؟! وكيف يكون لمثل هذا المجتمع رصيد من ثقافة، أو تاريخ، أو حضارة؟!
كيف يوثق بنقل المعارف والعلوم إذا لم يكن الصدق أحد الأسس الحضارية التي يقوم عليها بناء المجتمع الإنساني؟!
كيف يوثق بنقل الأخبار والتواريخ إذا لم يكن الصدق أحد الأسس الحضارية التي يقوم عليها بناء المجتمع؟!
كيف يوثق بالوعود والعهود ما لم يكن الصدق أحد أسس التعامل بين الناس؟!
كيف يوثق بالدعاوى والشهادات ودلائل الإثبات القولية ما لم يكن الصدق أحد أسس التعامل بين الناس؟!) [الأخلاق الإسلامية، لعبد الرحمن الميدانى].
يقول ابن القيم في الصدق إنه: (منزلة القوم الأعظم الذي منه تنشأ جميع منازل السالكين، والطريق الأقوم الذي من لم يسر عليه فهو من المنقطعين الهالكين، وبه تميَّز أهل النفاق من أهل الإيمان، وسكان الجنان من أهل النيران، وهو سيف الله في أرضه، الذي ما وُضع على شيء إلا قطعه، ولا واجه باطلًا إلا أرداه وصرعه، من صال به لم تردَّ صولته، ومن نطق به علت على الخصوم كلمته، فهو روح الأعمال، ومحكُّ الأحوال، والحامل على اقتحام الأهوال، والباب الذي دخل منه الواصلون إلى حضرة ذي الجلال، وهو أساس بناء الدين، وعمود فسطاط اليقين، ودرجته تالية لدرجة النبوة، التي هي أرفع درجات العالمين، ومن مساكنهم في الجنات: تجري العيون والأنهار إلى مساكن الصديقين، كما كان من قلوبهم إلى قلوبهم في هذه الدار مدد متصل ومعين، وقد أمر الله سبحانه أهل الإيمان: أن يكونوا مع الصادقين، وخصَّ المنعم عليهم بالنبيين والصديقين والشهداء والصالحين، فقال تعالى: " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ " [التوبة: 119]) [مدارج السالكين].
الترغيب في الصدق:
#### أولًا: في القرآن الكريم:
- قال الله تعالى: " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ " [التوبة: 119].
(أي: اصدُقوا والزموا الصدق تكونوا مع أهله، وتنجوا من المهالك، ويجعل لكم فرجًا من أموركم ومخرجًا) [تفسير القرآن العظيم].
وعن عبد الله بن عمر: " اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ " (مع محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وقال الضحاك: مع أبي بكر وعمر وأصحابهما.
وقال الحسن البصري: إن أردت أن تكون مع الصادقين، فعليك بالزهد في الدنيا، والكفِّ عن أهل الملة)[تفسير القرآن العظيم].
- ووصف الله به نفسه فقال: " وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا " [النساء: 87] وقال: " وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا " [النساء: 122].
#### ثانيًا: في السنة النبوية:
- فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (إنَّ الصدق يهدي إلى البرِّ، وإنَّ البرَّ يهدي إلى الجنة، وإنَّ الرجل ليصدق حتى يكون صِدِّيقًا، وإنَّ الكذب يهدي إلى الفجور، وإنَّ الفجور يهدي إلى النار، وإنَّ الرجل ليكذب حتى يكتب عند الله كذَّابًا) [رواه البخارى ومسلم].
قال النووي في شرحه لهذا الحديث: (قال العلماء: هذا فيه حث على تحرِّي الصدق، وهو قصده والاعتناء به، وعلى التحذير من الكذب والتساهل فيه؛ فإنَّه إذا تساهل فيه كثر منه، فعرف به، وكتبه الله لمبالغته صِدِّيقًا إن اعتاده، أو كذَّابًا إن اعتاده، ومعنى يكتب هنا يحكم له بذلك، ويستحق الوصف بمنزلة الصديقين وثوابهم، أو صفة الكذابين وعقابهم، والمراد إظهار ذلك للمخلوقين، إما بأن يكتبه في ذلك؛ ليشتهر بحظِّه من الصفتين في الملأ الأعلى، وإما بأن يلقي ذلك في قلوب الناس وألسنتهم، وكما يوضع له القبول والبغضاء، وإلا فقدر الله تعالى وكتابه السابق بكلِّ ذلك) [شرح صحيح مسلم].
- وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أربع إذا كنَّ فيك فلا عليك ما فاتك في الدنيا: حفظ أمانة، وصدق حديث، وحسن خليقة، وعفة في طعمة) [صححه الألبانى فى صحيح الترغيب].
- وعن أبي سفيان في حديثه الطويل في قصة هرقل عظيم الروم قال هرقل: فماذا يأمركم – يعني النبي صلى الله عليه وسلم – قال أبو سفيان قلت: يقول: اعبدوا الله وحده ولا تشركوا به شيئًا، واتركوا ما يقول آباؤكم، ويأمرنا بالصلاة، والصدق، والصدقة، والعفاف، والصلة [رواه البخارى ومسلم].
#### أقوال السلف والعلماء في الصدق:
- قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه حينما بويع للخلافة: (أيها الناس، إني قد وليت عليكم، ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوِّموني، الصدق أمانة، والكذب خيانة) [رواه الطبرى فى التاريخ].
- وقال عمر: (لا يجد عبد حقيقة الإيمان حتى يدع المراء وهو محقٌّ، ويدع الكذب في المزاح، وهو يرى أنَّه لو شاء لغلب) [روضة العقلاء].
- وعن عبد الله بن عمرو قال: (ذر ما لست منه في شيء، ولا تنطق فيما لا يعنيك، واخزن لسانك كما تخزن دراهمك) [روضة العقلاء].- وقال ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: " وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ " [البقرة: 42]: (أي لا تخلطوا الصدق بالكذب) [رواه الطبرى فى تفسيره].
- وقال ميمون بن ميمون: (من عُرف بالصدق جاز كذبه، ومن عرف بالكذب لم يجز صدقه) [عيون الأخبار].
- وقال الفضيل بن عياض: (ما من مضغة أحب إلى الله من لسان صدوق، وما من مضغة أبغض إلى الله من لسان كذوب) [روضة العقلاء].
- وقالوا: (من شرف الصدق أن صاحبه يصدق على عدوه) [عيون الأخبار].
#### فوائد الصدق:
إذا تمكن الصدق من القلب سطع عليه نوره، وظهرت على الصادق آثاره، في عقيدته وعباداته، وأخلاقه وسلوكياته، ومن هذه الآثار:
1- سلامة المعتقد:
فمن أبرز آثار الصدق على صاحبه: سلامة معتقده من لوثات الشرك ما خفي منه وما ظهر.
2- البذل والتضحية لنصرة الدين:
فالصادق قد باع نفسه وماله وعمره لله، ولنصرة دين الله؛ إن كان في الحراسة كان في الحراسة، وإن كان في الساقة كان في الساقة، همه رضا مولاه.
3- الهمة العالية:
الصادقون أصحاب همة عالية، وعزيمة قوية ماضية، همهم رضا ربهم، يسيرون معها أين توجهت ركائبها، ويستقلون معها أين استقلت مضاربها؛ ترى الصادق قد عمَّر وقته بالطاعات، وشغله بالقربات، (فبينما هو في صلاة إذ رأيته في ذكر ثم في غزو، ثم في حجٍّ، ثم في إحسان للخلق بالتعليم وغيره من أنواع النفع، ثم في أمر بمعروف أو نهي عن منكر، أو في قيام بسبب فيه عمارة الدين والدنيا، ثم في عيادة مريض، أو تشييع جنازة، أو نصر مظلوم – إن أمكن – إلى غير ذلك من أنواع القرب والمنافع.
4- تلافي التقصير واستدراك التفريط:
الصادق قد تمر به فترة ولكنها إلى سنة، وقد يعتريه تقصير ولكنه سرعان ما يتلاقاه بتكميل، وقد يلم بذنب ولكنه سريع التيقظ والتذكر، فيقلع ويندم ويرجع: " إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ " [الأعراف: 201] وقد يحصل منه تفريط فيستدرك، فبالصدق يتلاقى كل تفريط، فيصلح من قلبه ما مزقته يد الغفلة والشهوة، ويعمر منه ما خربته يد البطالة، ويلم منه ما شعثته يد التفريط والإضاعة.
5- الوفاء بالعهود:
قال أبو إسماعيل الهروي: (وعلامة الصادق: ألا يتحمل داعية تدعو إلى نقض عهد).
#### صور الصدق:
الصدق يستعمل في ستة معان: صدق في القول، وصدق في النية والإرادة، وصدق في العزم، وصدق في الوفاء بالعزم، وصدق في العمل، وصدق في تحقيق مقامات الدين كلها، فمن اتصف بالصدق في جميع ذلك فهو صدِّيق.
1- صدق اللسان:
وهو أشهر أنواع الصدق وأظهرها. وصدق اللسان لا يكون إلا في الإخبار، أو فيما يتضمن الإخبار وينبه عليه، والخبر إما أن يتعلق بالماضي أو بالمستقبل، وفيه يدخل الوفاء بالوعد والخلف فيه، وحقٌّ على كلِّ عبد أن يحفظ ألفاظه، فلا يتكلم إلا بالصدق.
فمن حفظ لسانه عن الإخبار عن الأشياء على خلاف ما هي عليه فهو صادق، ولهذا الصدق كمالان، فالأول في اللفظ أن يحترز عن صريح اللفظ وعن المعاريض أيضًا، إلا عند الضرورة، والكمال الثاني أن يراعي معنى الصدق في ألفاظه التي يناجي بها ربه.
2- صدق النية والإرادة:
ويرجع ذلك إلى الإخلاص، وهو أن لا يكون له باعث في الحركات والسكنات إلا الله تعالى، فإن مازجه شوب من حظوظ النفس بطل صدق النية، وصاحبه يجوز أن يسمى كاذبًا.
3- صدق العزم:
فإنَّ الإنسان قد يقدم العزم على العمل؛ فيقول في نفسه: إن رزقني الله مالًا تصدقت بجميعه أو بشطره، أو إن لقيت عدوًّا في سبيل الله تعالى قاتلت ولم أبال، وإن قتلت، وإن أعطاني الله تعالى ولاية عدلت فيها ولم أعص الله تعالى بظلم وميل إلى خلق، فهذه العزيمة قد يصادفها من نفسه وهي عزيمة جازمة صادقة، وقد يكون في عزمه نوع ميل وتردد وضعف يضاد الصدق في العزيمة، فكان الصدق هاهنا عبارة عن التمام والقوة.
- الصدق في مقامات الدين:
وهو أعلى الدرجات وأعزها، ومن أمثلته: الصدق في الخوف والرجاء والتعظيم والزهد والرضا والتوكل وغيرها من الأمور.
#### دواعي الصدق:
هناك دوافع تجعل الإنسان حريصًا على الصدق، متحريًا له، وقد ذكر الماوردي منها: (العقل؛ لأنه موجب لقبح الكذب، لا سيما إذا لم يجلب نفعًا ولم يدفع ضررًا. والعقل يدعو إلى فعل ما كان مستحسنًا، ويمنع من إتيان ما كان مستقبحًا.
ومنها: الدين الوارد باتباع الصدق وحظر الكذب؛ لأنَّ الشرع لا يجوز أن يرد بإرخاص ما حظره العقل، بل قد جاء الشرع زائدًا على ما اقتضاه العقل من حظر الكذب؛ لأن الشرع ورد بحظر الكذب، وإن جرَّ نفعًا، أو دفع ضررًا. والعقل إنما حظر ما لا يجلب نفعًا، ولا يدفع ضررًا.
ومنها: المروءة؛ فإنها مانعة من الكذب باعثة على الصدق؛ لأنها قد تمنع من فعل ما كان مستكرهًا، فأولى من فعل ما كان مستقبحًا.
ومنها: حب الثناء والاشتهار بالصدق، حتى لا يُردَّ عليه قول، ولا يلحقه ندم) [أدب الدنيا والدين].
الأمور التي تخلُّ بالصدق:
هذه بعض الآفات التي تخل بصدق المسلم، وتوهن أركان الصدق في شخصيته؛ ولذا يجب الحذر منها، ومجاهدة النفس على الابتعاد عنها، والتخلص منها، ومن هذه الأمور:
1- الكذب الخفي:
الرياء وهو الشرك الخفي، الذي تختلف فيه سريرة المرء عن علانيته، وظاهره عن باطنه، قال صلى الله عليه وسلم: (أيها الناس، اتقوا الشرك، فإنه أخفى من دبيب النمل، قالوا: وكيف نتقيه يا رسول الله؟ قال: قولوا: اللهم إنا نعوذ بك أن نشرك بك شيئًا نعلمه، ونستغفرك لما لا نعلمه) [حسنه لغيره الألبانى فى صحيح الترغيب].
2- الابتداع:
إنَّ من كمال الصدق حسن الاتباع، وبقدر استمساك المرء بهدي النبي صلى الله عليه وسلم يكون صدقه مع ربه: " قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ " [آل عمران: 31] أي: إن كنتم صادقين في محبتكم لربكم اتبعوا سنة رسولكم صلى الله عليه وسلم، فعلامة صدق المحبة كمال الاتباع؛ ولهذا (كانت الصديقيَّة: كمال الإخلاص والانقياد، والمتابعة للخبر والأمر، ظاهرًا وباطنًا).
3- كثرة الكلام:
من كثر كلامه كثر سقطه؛ إذ لا يخلو – في كثير من الأحيان – من التزيد واللغو أو الهذر الذي إذا لم يضرَّ فإنَّه لا ينفع، وقد قال الله تعالى: " لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا " [النساء: 114].
ومن الكذب أن يحدث الإنسان بكلِّ ما يسمع من أحاديث وأخبار دون تحرير لها ولا تنقيح؛ لأنه بتهاونه وإهماله وعدم تحريه الصدق في الأخبار يساهم في نشر الأكاذيب وإشاعتها؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: (كفى بالمرء كذبًا أن يحدِّث بكلِّ ما سمع) [رواه مسلم].
#### الوسائل المعينة على الصدق:
1- مراقبة الله تعالى:
إن إيمان المرء بأن الله عز وجل معه، يبصره ويسمعه؛ يدفعه للخشية والتحفظ، قال الله تعالى: " أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ " [المجادلة: 7] وعندما يستحضر أن كلماته وخطراته، وحركاته وسكناته كلها محصية مكتوبة: " مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ " [ق: 18]، " وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَامًا كَاتِبِينَ " [الانفطار: 10-11]، فإن ذلك يقوده إلى رياض الصدق في الأقوال والأعمال والأحوال.
2- الحياء:
الحياء يحجب صاحبه عن كل ما هو مستقبح شرعًا وعرفًا وذوقًا، والمرء يستحيي أن يعرف بين الناس أنه كذاب، وهذا هو الذي حمل أبا سفيان -وهو يومئذ مشرك- أن يصدق هرقل وهو يسأله عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال أبو سفيان: (فوالله لولا الحياء من أن يأثروا عليَّ كذبًا لكذبت عنه) [رواه البخارى] أي: ينقلوا عليَّ الكذب لكذبت عليه. قال ابن حجر: (وفيه دليل على أنهم كانوا يستقبحون الكذب، إما بالأخذ عن الشرع السابق، أو بالعرف.. وقد ترك الكذب استحياء وأنفة من أن يتحدثوا بذلك بعد أن يرجعوا فيصير عند سامعي ذلك كذابًا) [فتح البارى،بتصرف يسير] قلت: فالمسلم أولى بالحياء من ربه أن يسمعه يقول كذبًا، أو يطلع على عمل، أو حال هو فيه كاذب.
3- صحبة الصادقين:
فقد أمر الله - عز وجل - المؤمنين أن يكونوا مع أهل الصدق، فقال – عز وجل -: " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ " [التوبة: 119]، أي: اقتدوا بهم واسلكوا سبيلهم، وهم الذين استوت ظواهرهم وبواطنهم، ووفوا بعهودهم وصدقوا في أقوالهم وأعمالهم.
#### نماذج من حياة الأنبياء عليهم السلام مع الصدق:
الأنبياء عليهم السلام كلهم موصوفون بالصدق، وقد ذكر الله أنبياءه بالصدق فقال: " وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا " [مريم: 41] وقال سبحانه: " وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا " [مريم: 56].
وأثنى الله على إسماعيل، فقال: " وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا " [مريم: 54].
وَوُصِفَ يوسف عليه السلام بالصدق حينما جاءه الرجل يستفتيه فقال: " يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ " [يوسف: 46].
وأمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يسأله أن يجعل مدخله ومخرجه على الصدق: " وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا " [الإسراء: 80] وقال تعالى: " وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ " [الزمر: 33] قال السعدي في تفسير قوله: " وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ " (أي: في قوله وعمله، فدخل في ذلك الأنبياء ومن قام مقامهم، ممن صدق فيما قاله عن خبر الله وأحكامه، وفيما فعله من خصال الصدق وَصَدَّقَ بِهِ أي: بالصدق؛ لأنه قد يجيء الإنسان بالصدق، ولكن قد لا يصدق به، بسبب استكباره، أو احتقاره لمن قاله وأتى به، فلا بد في المدح من الصدق والتصديق، فصدقه يدل على علمه وعدله، وتصديقه يدل على تواضعه وعدم استكباره) [تفسير الكريم الرحمن].
#### صدق إمام الصادقين النبي صلى الله عليه وسلم:
(الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، كان أصدق الناس وأبرهم وأكملهم علمًا وعملًا وإيمانًا وإيقانًا، معروفًا بالصدق في قومه، لا يشك في ذلك أحد منهم، بحيث لا يُدْعى بينهم إلا بالأمين محمد؛ ولهذا لما سأل هرقل ملك الروم أبا سفيان عن تلك المسائل التي سألها من صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان فيما قال له: أوَ كنتم تتَّهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قال: لا، فقال هرقل: فما كان ليَدع الكذب على الناس ويذهب فيكذب على الله عز وجل [رواه البخارى ومسلم]، [تفسير القرآن العظيم].
وقد روى البخاري من حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: لما نزلت " وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ " [الشعراء: 214] صعِد النبي صلى الله عليه وسلم على الصفا، فجعل ينادي: يا بني فهر، يا بني عدي - لبطون قريش- حتى اجتمعوا، فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولًا؛ لينظر ما هو، فجاء أبو لهب وقريش، فقال: أرأيتكم لو أخبرتكم أنَّ خيلًا بالوادي تريد أن تُغير عليكم أكنتم مُصدقيَّ؟ قالوا: نعم، ما جرَّبنا عليك إلا صدقًا، قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد، فقال أبو لهب: تبًّا لك سائر اليوم، ألهذا جمعتنا؟ فنزلت " تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ " [المسد: 1- 2]) [رواه البخارى].
#### نماذج من صدق الصحابة رضي الله عنهم:
أبو بكر الصديق رضي الله عنه:
أبو بكر الصديق رضي الله عنه صاحب النبي صلى الله عليه وسلم ورفيقه في الغار، وقد سُمِّي صديقًا لتصديقه للنبي صلى الله عليه وسلم، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: لما أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى المسجد الأقصى؛ أصبح يتحدث الناس بذلك؛ فارتدَّ ناس ممن كان آمنوا به وصدقوه، وسعى رجال من المشركين إلى أبي بكر رضي الله عنه، فقالوا: هل لك إلى صاحبك يزعم أنه أُسري به الليلة إلى بيت المقدس؟ قال: أو قال ذلك؟ قالوا: نعم قال: لئن قال ذلك لقد صدق، قالوا: أو تصدقه أنَّه ذهب الليلة إلى بيت المقدس، وجاء قبل أن يصبح؟ فقال: نعم، إني لأصدقه ما هو أبعد من ذلك، أصدقه في خبر السماء في غدوة أو روحة، فلذلك سُمِّي أبا بكر الصديق رضي الله عنه [قال الألبانى فى السلسلة الصحيحة متواتر].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم في حقِّه: (إنَّ الله بعثني إليكم، فقلتم: كذبت، في أول الأمر، وقال أبو بكر: صدقت، وواساني بنفسه وماله، فهل أنتم تاركو لي صاحبي؟! فهل أنتم تاركو لي صاحبي؟! فما أوذي بعدها) [رواه البخارى].
أبو ذر رضي الله عنه صادق اللهجة:
كان أبو ذر رضي الله عنه صادق اللهجة (3)، فقد قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم: (ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء -لا الأرض ولا السماء- من ذي لهجة أصدق من أبي ذر، وهو شبيه عيسى ابن مريم) [صححه الألبانى فى صحيح الجامع].
#### معنى الصِّدِّيقية:
الصِّدِّيقية: هي كمال الانقياد للرسول مع كمال الإخلاص للمرسل [مدارج السالكين].
وقال القرطبي: (الصديق هو الذي يحقق بفعله ما يقوله بلسانه) [تفسير القرطبى].
وقال ابن تيمية: (فالصِّدِّيق قد يراد به الكامل في الصدق، وقد يُراد به الكامل في التصديق) [منهاج السنة].
وقال ابن العربي: (وأما الصِّدِّيق فهو من أسماء الكمال، ومعناه الذي صدَّق علمه بعمله) [قانون التأويل].
مختارات