" الصبـــر "
" الصبـــر "
الترغيب في الصبر:
أولًا: في القرآن الكريم:
الصبر من أكثر الأخلاق التي اعتنى بها دين الإسلام؛ لذا تكرر ذكره في القرآن في مواضع كثيرة.
قال أبو عبد الله أحمد بن حنبل: (ذكر الله سبحانه الصبر في القرآن في تسعين موضعًا) [عدة الصابرين].
وقد سيق الصبر في القرآن في عدة أنواع ذكرها ابن القيم في كتابه (عدة الصابرين) ونحن نذكر بعضها:
- أحدها: الأمر به، كقوله: " وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللّهِ " [النحل: 127] وقال: " وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ " [الطور: 48].
- الثاني: النهي عما يضاده، كقوله تعالى: " وَلا تَسْتَعْجِل لَّهُمْ " [الأحقاف: 35] وقوله: " وَلا تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ " [القلم: 48].
- الثالث: تعليق الفلاح به، كقوله: " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ " [آل عمران: 200] فعلق الفلاح بمجموع هذه الأمور.
- الرابع: الإخبار عن مضاعفة أجر الصابرين على غيره، كقوله: " أُوْلَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا " [القصص: 54] وقوله: " إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ " [الزمر:10].
- الخامس: تعليق الإمامة في الدين، به وباليقين، قال الله تعالى: " وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ " [السجدة:24] [عدة الصابرين،بتصرف يسير].
ثانيًا: في السنة النبوية:
- عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: (أن ناسًا من الأنصار سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاهم، ثم سألوه فأعطاهم، ثم سألوه فأعطاهم، حتى نفد ما عنده، فقال: ما يكون عندي من خير فلن أدخره عنكم، ومن يستعفف يعفه الله، ومن يستغن يغنه الله، ومن يتصبر يصبره الله، وما أعطي أحد عطاء خيرًا وأوسع من الصبر) [رواه البخارى].
(قوله صلى الله عليه وسلم: (ومن يتصبر): أي يطلب توفيق الصبر من الله؛ لأنه قال تعالى: " وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللّهِ " [النحل: 127] أي يأمر نفسه بالصبر ويتكلف في التحمل عن مشاقه، وهو تعميم بعد تخصيص؛ لأن الصبر يشتمل على صبر الطاعة والمعصية والبلية، أو من يتصبر عن السؤال والتطلع إلى ما في أيدي الناس بأن يتجرع مرارة ذلك ولا يشكو حاله لغير ربه (يصبِّره الله): بالتشديد أي: يسهل عليه الصبر، فتكون الجمل مؤكدات. ويؤيد إرادة معنى العموم قوله: (وما أعطي أحد من عطاء): أي معطى أو شيئًا، (أوسع): أي أشرح للصدر، (من الصبر): وذلك لأن مقام الصبر أعلى المقامات؛ لأنه جامع لمكارم الصفات والحالات) [عون المعبود شرح سنن أبى داود،لشمس الحق العظيم أبادى].
- وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأنَّ الصبر عند الصدمة الأولى، فعن أنس رضي الله عنه قال: (مرَّ النبي صلى الله عليه وسلم بامرأة تبكي عند قبر، فقال: اتقي الله واصبري، قالت: إليك عني؛ فإنك لم تصب بمصيبتي، ولم تعرفه، فقيل لها: إنه النبي صلى الله عليه وسلم، فأتت باب النبي صلى الله عليه وسلم فلم تجد عنده بوَّابين، فقالت: لم أعرفك، فقال: إنما الصبر عند الصدمة الأولى) [رواه البخارى].
قال ابن القيم: (فإنَّ مفاجئات المصيبة بغتة لها روعة تزعزع القلب، وتزعجه بصدمها، فإن صبر الصدمة الأولى انكسر حدها، وضعفت قوتها، فهان عليه استدامة الصبر، وأيضًا فإنَّ المصيبة ترد على القلب وهو غير موطن لها فتزعجه، وهى الصدمة الأولى، وأما إذا وردت عليه بعد ذلك توطَّن لها، وعلم أنَّه لا بد له منها فيصير صبره شبيه الاضطرار، وهذه المرأة لما علمت أنَّ جزعها لا يجدي عليها شيئًا؛ جاءت تعتذر إلى النبي كأنها تقول له قد صبرت، فأخبرها أنَّ الصبر إنما هو عند الصدمة الأُولى) [عدة الصابرين].
- وعن ابن عباس رضي الله عنهما: (أنه قال لعطاء: ألا أُريك امرأة من أهل الجنة؟ قلت: بلى، قال: هذه المرأة السوداء أتت النبي صلى الله عليه وسلم، قالت: إني أصرع وإني أتكشف، فادع الله لي، قال: إن شئت صبرت؛ ولك الجنة،وإن شئت دعوت الله أن يعافيك، قالت: أصبر، قالت: فإني أتكشف فادع الله أن لا أتكشف، فدعا لها) [رواه البخارى ومسلم].
أقوال السلف والعلماء في الصبر:
- قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (إنَّ أفضل عيش أدركناه بالصبر، ولو أنَّ الصبر كان من الرجال كان كريمًا) [الصبر والثواب عليه، لابن أبى الدنيا].
- وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (ألا إنَّ الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد، فإذا قطع الرأس باد الجسد، ثم رفع صوته فقال: ألا إنه لا إيمان لمن لا صبر له) [الصبر والثواب عليه، لابن أبى الدنيا].
وقال: (الصبر مطية لا تكبو، والقناعة سيف لا ينبو [أدب الدنيا والدين للماوردى].
- وقال عمر بن عبد العزيز وهو على المنبر: (ما أنعم الله على عبد نعمة فانتزعها منه، فعاضه مكان ما انتزع منه الصبر، إلا كان ما عوَّضه خيرًا مما انتزع منه، ثم قرأ: " إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ " [الزمر:10]) [الصبر والثواب عليه، لابن أبى الدنيا].
- (وجاء رجل إلى يونس بن عبيد فشكا إليه ضيقًا من حاله ومعاشه، واغتمامًا بذلك، فقال: (أيسرك ببصرك مئة ألف؟ قال: لا، قال: فبسمعك؟ قال: لا، قال: فبلسانك؟ قال: لا، قال: فبعقلك؟ قال: لا... في خلال، وذكَّره نعم الله عليه، ثم قال يونس: أرى لك مئين ألوفًا وأنت تشكو الحاجة؟!) [سير أعلام النبلاء].
- وقال عمر بن ذر: (من أجمع على الصبر في الأمور فقد حوى الخير، والتمس معاقل البر وكمال الأجور) [الصبر والثواب عليه، لابن أبى الدنيا].
- وعن إبراهيم التيمي، قال: (ما من عبد وهب الله له صبرًا على الأذى، وصبرًا على البلاء، وصبرًا على المصائب، إلا وقد أُوتي أفضل ما أوتيه أحد، بعد الإيمان بالله) [الصبر والثواب عليه، لابن أبى الدنيا].
من فوائد الصبر أنه [نضرة النعيم]:
1- دليل على كمال الإيمان وحسن الإسلام.
2- يورث الهداية في القلب.
3- يثمر محبة الله ومحبة الناس.
4- سبب للتمكين في الأرض.
5- الفوز بالجنة والنجاة من النار.
أقسام الصبر: (واجب ومندوب ومحظور ومكروه ومباح).
فالصبر الواجب ثلاثة أنواع:
أحدها: الصبر عن المحرمات.
والثاني: الصبر على أداء الواجبات.
والثالث: الصبر على المصائب التي لا صنع للعبد فيها، كالأمراض والفقر وغيرها.
وأما الصبر المندوب: فهو الصبر عن المكروهات، والصبر على المستحبات، والصبر على مقابلة الجاني بمثل فعله.
وأما المحظور فأنواع: أحدها الصبر عن الطعام والشراب حتى يموت، وكذلك الصبر عن الميتة والدم ولحم الخنزير عند المخمصة حرام، إذا خاف بتركه الموت، قال طاوس وبعده أحمد: من اضطر إلى أكل الميتة والدم فلم يأكل فمات دخل النار...
ومن الصبر المحظور: صبر الإنسان على ما يقصد هلاكه من سبع أو حيات أو حريق أو ماء أو كافر يريد قتله، بخلاف استسلامه وصبره في الفتنة وقتال المسلمين فإنه مباح له بل يستحب كما دلت عليه النصوص الكثيرة.
وأما الصبر المكروه فله أمثلة:
أحدها: أن يصبر عن الطعام والشراب واللبس وجماع أهله حتى يتضرر بذلك بدنه.
الثاني: صبره عن جماع زوجته إذا احتاجت إلى ذلك ولم يتضرر به.
الثالث: صبره على المكروه.
الرابع: صبره عن فعل المستحب.
وأما الصبر المباح: فهو الصبر عن كل فعل مستوى الطرفين، خُيِّر بين فعله وتركه والصبر عليه.
وبالجملة فالصبر على الواجب واجب وعن الواجب حرام، والصبر عن الحرام واجب وعليه حرام، والصبر على المستحب مستحب وعنه مكروه، والصبر عن المكروه مستحب وعليه مكروه، والصبر عن المباح مباح) [عدة الصابرين،بتصرف].
مراتب الصبر:
ذكر ابن القيم أربعة مراتب للصبر:
(إحداها: مرتبة الكمال، وهي مرتبة أولي العزائم، وهي الصبر لله وبالله.
فيكون في صبره مبتغيًا وجه الله صابرًا به، متبرئًا من حوله وقوته، فهذا أقوى المراتب وأرفعها وأفضلها.
الثانية: أن لا يكون فيه لا هذا ولا هذا، فهو أخس المراتب وأردأ الخلق، وهو جدير بكل خذلان وبكل حرمان.
الثالثة: مرتبة من فيه صبر بالله، وهو مستعين متوكل على حوله وقوته، متبرئ من حوله هو وقوته، ولكن صبره ليس لله؛ إذ ليس صبره فيما هو مراد الله الديني منه، فهذا ينال مطلوبه ويظفر به، ولكن لا عاقبة له، وربما كانت عاقبته شرَّ العواقب، وفي هذا المقام خفراء الكفار وأرباب الأحوال الشيطانية، فإنَّ صبرهم بالله لا لله ولا في الله...
الرابع: من فيه صبر لله، لكنه ضعيف النصيب من الصبر به والتوكل عليه والثقة به والاعتماد عليه، فهذا له عاقبة حميدة، ولكنه ضعيف عاجز مخذول في كثير من مطالبه؛ لضعف نصيبه من " إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ " [الفاتحة: 5] فنصيبه من الله أقوى من نصيبه بالله، فهذا حال المؤمن الضعيف.
وصابر بالله لا لله: حال الفاجر القوي، وصابر لله وبالله: حال المؤمن القوي، والمؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف.
فصابر لله وبالله: عزيز حميد، ومن ليس لله ولا بالله: مذموم مخذول، ومن هو بالله لا لله: قادر مذموم، ومن هو لله لا بالله: عاجز محمود) [مدارج السالكين].
صور الصبر:
إن صور الصبر ومجالاته كثيرة في حياة الإنسان، فلا يستغني عنه أحد بحال من الأحوال، يقول ابن القيم: (إن الإنسان لا يستغني عن الصبر في حال من الأحوال، فإنه بين أمر يجب عليه امتثاله وتنفيذه، ونهي يجب عليه اجتنابه وتركه، وقدر يجري عليه اتفاقًا، ونعمة يجب عليه شكر المنعم عليها، وإذا كانت هذه الأحوال لا تفارقه فالصبر لازم له إلى الممات، وكل ما يلقى العبد في هذه الدار لا يخلو من نوعين: أحدهما: يوافق هواه ومراده، والآخر: يخالفه، وهو محتاج إلى الصبر في كلٍّ منهما) [عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين].
ومن المجالات التي ينبغي للإنسان أن يضبط نفسه عندها ويصبر عليها:
1- ضبط النفس عن الضجر والجزع عند حلول المصائب ومس المكاره.
2- ضبط النفس عن السأم والملل لدى القيام بأعمال تتطلب الدأب والمثابرة خلال مدة مناسبة.
3- ضبط النفس عن العجلة والرعونة لدى تحقيق مطلب من المطالب المادية أو المعنوية.
4- ضبط النفس عن الغضب والطيش لدى مثيرات عوامل الغضب في النفس.
من موانع التحلي بالصبر:
على المسلم الذي يريد أن يتحلى بالصبر أن يحذر من الموانع التي تعترض طريقه حتى لا تكون سدًّا منيعًا أمامه، ومن هذه الموانع الصبر فى القرآن الكريم، ليوسف القرضاوى]:
1- الاستعجال: فالنفس مولعة بحب العاجل؛ والإنسان عجول بطبعه، حتى جعل القرآن العجل كأنه المادة التي خلق الإنسان منها: " خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ " [الأنبياء: 37] فإذا أبطأ على الإنسان ما يريده نفد صبره، وضاق صدره، ناسيًا أنَّ لله في خلقه سننًا لا تتبدل: وأنَّ لكل شيء أجلًا مسمًّى، وأنَّ الله لا يعجل بعجلة أحد من الناس، ولكل ثمرة أوان تنضج فيه، فيحسن عندئذ قطافها، والاستعجال لا ينضجها قبل وقتها، فهو لا يملك ذلك، وهي لا تملكه، ولا الشجرة التي تحملها، إنها خاضعة للقوانين الكونية التي تحكمها، وتجري عليها بحساب ومقدار...
2- الغضب: فقد يستفزُّ الغضب صاحب الدعوة، إذا ما رأى إعراض المدعوين عنه، ونفورهم من دعوته، فيدفعه الغضب إلى ما يليق به من اليأس منهم، أو النأي عنهم، مع أن الواجب على الداعية أن يصبر على من يدعوهم، ويعاود عرض دعوته عليهم مرة بعد مرة، وعسى أن يتفتح له قلب واحد يومًا، تشرق عليه أنوار الهداية، فيكون خيرًا له مما طلعت عليه الشمس وغربت.
وفي هذا يقول الله لرسوله: " فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ لَوْلا أَن تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِّن رَّبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاء وَهُوَ مَذْمُومٌ فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ " [القلم: 48-50].
من الوسائل المعينة على الصبر:
أ- الوسائل المعينة على الصبر عن المعصية والصبر على الطاعة [ملخص من كتاب طريق الهجرتين]:
1- مما يعين على الصبر عن المعصية علم العبد بقبحها ورذالتها ودناءتها، وأن الله إنما حرمها ونهى عنها صيانة وحماية عن الدنايا والرذائل، كما يحمي الوالد الشفيق ولده عما يضره.
2- الحياء من الله سبحانه، فإن العبد متى علم بنظره إليه ومقامه عليه وأنه بمرأى منه ومسمع وكان حييًّا - استحيى من ربه أن يتعرض لمساخطه بترك طاعته أو ارتكاب معاصيه.
3- مراعاة نعمه عليك وإحسانه إليك، فإن الذنوب تزيل النعم ولا بد، فما أذنب عبد ذنبا إلا زالت عنه نعمه من الله بحسب ذلك الذنب، ومن أطاعه وشكره زاده من نعمه وآلائه.
4- خوف الله وخشية عقابه، ورجاء ثوابه ومغفرته، وهذا إنما يثبت بتصديقه في وعده ووعيده، والإيمان به وبكتابه وبرسوله.
5- محبة الله وهي أقوى الأسباب في الصبر عن مخالفته ومعاصيه، فإن المحب لمن يحب مطيع، وكلما قوي داعي المحبة في القلب كانت استجابته للطاعة بحسبه.
ب – من الوسائل المعينة على الصبر على البلاء:
1- أن يعلم أن الله قد ارتضاها له واختارها وقسمها، وأن العبودية تقتضي رضاه بما رضي له به سيده ومولاه.
2- أن يعلم أن هذه المصيبة هي دواء نافع، ساقه إليه الطبيب العليم بمصلحته الرحيم به، فليصبر على تجرعه ولا يتقيأه بتسخطه وشكواه فيذهب نفعه باطلا.
3- أن يعلم أن في عقبى هذا الدواء من الشفاء والعافية والصحة وزوال الألم مالم تحصل بدونه، فإذا طالعت نفسه كراهة هذا الداء ومرارته فلينظر إلى عاقبته وحسن تأثيره قال تعالى: " وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ " [البقرة: 216] وقال الله تعالى: " فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا " [النساء: 19].
4- أن يعلم أن الله يربي عبده على السراء والضراء والنعمة والبلاء فيستخرج من عبوديته في جميع الأحوال، فإن العبد على الحقيقة من قام بعبودية الله على اختلاف الأحوال، وأما عبد السراء والعافية الذي يعبد الله على حرف، فإن أصابه خير اطمأن به، وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه فليس من عبيده الذين اختارهم لعبوديته، فلا ريب أن الإيمان الذي يثبت على محل الابتلاء والعافية هو الإيمان النافع وقت الحاجة، وأما إيمان العافية فلا يكاد يصحب العبد ويبلغه منازل المؤمنين، وإنما يصحبه إيمان يثبت على البلاء والعافية، فالابتلاء كِير العبد ومحك إيمانه.
نماذج من صبر الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم:
صَبرُ أولي العزم من الرسل على مشاق الدعوة إلى الله:
صَبَر أولو العزم من الرسل على مشاقِّ الدعوة إلى الله، فأبلوا بلاءً حسنا، صبر نوح عليه السلام وقضى ألف سنة إلا خمسين عامًا كلها دعوة، وصبر إبراهيم عليه السلام على كل ما نزل به فجُمع له الحطب الكثير، وأوقدت فيه النار العظيمة، فألقي فيها، فكانت بردًا وسلامًا، وموسى عليه السلام يصبر على أذى فرعون وجبروته وطغيانه. ويصبر عيسى عليه السلام على تكذيب بني إسرائيل له، ورفض دعوته، ويصبر على كيدهم ومكرهم حتى أرادوا أن يقتلوه ويصلبوه، إلا أن الله سبحانه وتعالى نجاه من شرهم، وأما نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فما أكثر ما لاقاه في سبيل نشر هذا الدين، فصبر صلوات ربي وسلامه عليه.
قال تعالى آمرًا نبيه محمد صلى الله عليه وسلم بالصبر: " فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ " [الأحقاف:35].
قال السعدي: (أمر تعالى رسوله أن يصبر على أذية المكذبين المعادين له، وأن لا يزال داعيًا لهم إلى الله، وأن يقتدي بصبر أولي العزم من المرسلين سادات الخلق أولي العزائم والهمم العالية، الذين عظم صبرهم، وتمَّ يقينهم، فهم أحقُّ الخلق بالأسوة بهم، والقفو لآثارهم، والاهتداء بمنارهم) [تيسير الكريم الرحمن].
أيوب عليه السلام وصبره على البلاء:
كان نبي الله أيوب عليه السلام، غاية في الصبر، وبه يضرب المثل في ذلك، قال تعالى: " وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ " [الأنبياء: 32-84].
(يذكر تعالى عن أيوب، عليه السلام، ما كان أصابه من البلاء، في ماله وولده وجسده، وذلك أنه كان له من الدواب والأنعام والحرث شيء كثير، وأولاد كثير، ومنازل مرضية. فابتلي في ذلك كله، وذهب عن آخره، ثم ابتلي في جسده -يقال بالجذام في سائر بدنه- ولم يبق منه سليم سوى قلبه ولسانه، يذكر بهما الله عز وجل، حتى عافه الجليس، وأفرد في ناحية من البلد، ولم يبق من الناس أحد يحنو عليه سوى زوجته، كانت تقوم بأمره) [تفسير القرآن العظيم].
نماذج من صبر نبينا محمد صلى الله عليه وسلم:
لقد صبر الرسول صلى الله عليه وسلم وبلغ صبره مبلغًا عظيمًا، وهذه نماذج متنوعة من صبره صلى الله عليه وسلم:
صبره صلى الله عليه وسلم على المشركين حينما آذوه، ورموه بالكذب، والكهانة، والسحر:
- قال ابن مسعود رضي الله عنه: (بينا النبي صلى الله عليه وسلم ساجد وحوله ناس من قريش، جاء عقبة بن أبي معيط بسلى جزور، فقذفه على ظهر النبي صلى الله عليه وسلم فلم يرفع رأسه، فجاءت فاطمة عليها السلام فأخذته من ظهره، ودعت على من صنع) [رواه البخارى ومسلم].
- وعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: (يا رسول الله هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد؟ فقال صلى الله عليه وسلم: لقد لقيت من قومك ما لقيت، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة، إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال: فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي فلم أستفق إلا بقرن الثعالب، فرفعت رأسي فإذا بسحابة قد أظلتني، فنظرت فإذا فيها جبريل، فناداني فقال: إن الله قد سمع قول قومك لك وما ردوا عليك، وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم فناداني ملك الجبال، فسلم عليَّ، ثم قال: يا محمد إن الله قد سمع قول قومك لك، وأنا ملك الجبال، وقد بعثني ربك إليك لتأمرني بأمرك فما شئت؟ إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله تعالى وحده لا يشرك به شيئًا) [رواه البخاري ومسلم].
صبره صلى الله عليه وسلم على مشاق الحياة وشدتها:
فعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت لعروة: (ابن أختي، إن كنا لننظر إلى الهلال ثلاثة أهلة في شهرين، وما أوقدت في أبيات رسول الله صلى الله عليه وسلم نار، فقلت: ما كان يُعيِّشكم؟ قالت الأسودان: التمر والماء، إلا أنه قد كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم جيران من الأنصار كان لهم منائح، وكانوا يمنحون رسول الله صلى الله عليه وسلم من أبياتهم فيسقيناه) [رواه البخارى].
نماذج من صبر الصحابة رضوان الله عليهم:
صَبرُ آل ياسر رضي الله عنهم:
وآل ياسر رضي الله عنهم - عمار، وأبوه ياسر، وأمه سمية - يعذبهم المشركون بسبب إيمانهم فيصمدون، وروى الحاكم في المستدرك عن ابن إسحاق قال: (كان عمار بن ياسر وأبوه وأمه أهل بيت إسلام، وكان بنو مخزوم يعذبونهم فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم: صبرًا يا آل ياسر، فإن موعدكم الجنة).
بلال رضي الله عنه يُعَذَّب فيصبر:
فهذا بلال بن رباح رضي الله عنه يعذب من أجل إيمانه فيصبر، (فكان أمية بن خلف يخرجه إذا حميت الظهيرة فيطرحه على ظهره في بطحاء مكة ثم يأمر بالصخرة العظيمة على صدره ثم يقول: لا يزال على ذلك حتى يموت أو يكفر بمحمد، فيقول وهو في ذلك: أحد أحد) [رواه أبو نعيم فى حلية الأولياء].
وقال ابن مسعود: (أول من أظهر إسلامه سبعة: رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر، وعمار، وأمه سمية، وبلال، وصهيب، والمقداد.
فأما النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر: فمنعهما الله بقومهما.
وأما سائرهم فأخذهم المشركون، فألبسوهم أدراع الحديد، وصهروهم في الشمس، فما منهم أحد إلا وأتاهم على ما أرادوا إلا بلال، فإنه هانت عليه نفسه في الله، وهان على قومه، فأعطوه الولدان، فجعلوا يطوفون به في شعاب مكة، وهو يقول: أحد أحد) [سيرأعلام النبلاء].
نماذج من صبر السلف رحمهم الله:
عروة بن الزبير وصبره على الابتلاء:
(وقعت الأكلة في رجل عروة بن الزبير، فصعدت في ساقه، فبعث إليه الوليد، فحُمل إليه ودعا الأطباء فقالوا: ليس له دواء إلا القطع، وقالوا له: اشرب المرقِد(شىء يشرب فينوم من شربه ويرقده) فقال عروة للطبيب: امض لشأنك، ما كنت أظن أن خلقًا يشرب ما يزيل عقله حتى يعرف به، فوضع المنشار على ركبته اليسرى، فما سُمع له حسٌّ، فلما قطعها جعل يقول: لئن أخذت لقد أبقيت، ولئن ابتليت لقد عافيت. وما ترك جزءه من القرآن تلك الليلة. قال الوليد: ما رأيت شيخًا قط أصبر من هذا، ثم إنه أصيب بابنه محمد في ذلك السفر، ركضته بغلة في إصطبل، فلم يُسمع من عروة في ذلك كلمة. فلما كان بوادي القرى قال: " لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا " [الكهف:63] اللهم كان لي بنون سبعة، فأخذت واحدًا وأبقيت لي ستة، وكان لي أطراف أربعة، فأخذت واحدًا وأبقيت ثلاثة، ولئن ابتليت لقد عافيت، ولئن أخذت لقد أبقيت) [سير أعلام النبلاء].
نماذج من صبر العلماء المتقدمين:
صبر الإمام أحمد بن حنبل على محنة خلق القرآن:
(أخذ أحمد بن حنبل في محنة خلق القرآن أيام المأمون، ليحمل إلى المأمون ببلاد الروم، وأخذ معه أيضًا محمد بن نوح مقيَّدين، ومات المأمون قبل أن يلقاه أحمد، فَرُدَّ أحمد بن حنبل ومحمد بن نوح في أقيادهما، فمات محمد بن نوح في الطريق، وردَّ أحمد إلى بغداد مقيدًا.
ودخل على الإمام أحمد بعض حفاظ أهل الحديث بالرقة وهو محبوس، فجعلوا يذاكرونه ما يروى في التقيَّة من الأحاديث، فقال أحمد: وكيف تصنعون بحديث خباب: (إن من كان قبلكم كان ينشر أحدهم بالمنشار، ثم لا يصده ذلك عن دينه) [رواه البخارى]؟! فيئسوا منه.
ما هو الباعث على الصبر؟:
يجب أن يكون الباعث على الصبر ابتغاء وجه الله عز وجل، والتقرب إليه ورجاء ثوابه، لا لإظهار الشَّجَاعَة وقوة النفس وغير ذلك من الأغراض، قال تعالى: " وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ " [الرعد:22].
قال السعدي في تفسيره للآية: " ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ " (لا لغير ذلك من المقاصد والأغراض الفاسدة، فإن هذا هو الصبر النافع الذي يحبس به العبد نفسه، طلبًا لمرضاة ربه، ورجاء للقرب منه، والحظوة بثوابه، وهو الصبر الذي من خصائص أهل الإيمان، وأما الصبر المشترك الذي غايته التجلد ومنتهاه الفخر، فهذا يصدر من البر والفاجر، والمؤمن والكافر، فليس هو الممدوح على الحقيقة) [تيسير الكريم الرحمن].
وقال سبحانه: " وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ " (أي: اجعل صبرك على أذاهم لوجه ربك عز وجل) [تفسير القرآن العظيم].
مختارات