تابع " سير المتقين وأخبارهم " 2
تابع " سير المتقين وأخبارهم " 2
5- الصحابي الجليل جعفر بن أبي طالب:
تقديم:
الصحابي الجليل جعفر بن أبي طالب رضى الله عنه، ابن عم الرسول صلى الله عليه وسلم، أمير المؤمنين وقائدهم في الحبشة، وكان خطيبهم والمحاور عنهم بين يدي النجاشي، رجع هو ومن معهم إلى المدينة المنورة من الحبشة منصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من خيبر، ولاّه رسول الله صلى الله عليه وسلم إمرة جيش ثالث ثلاثة في معركة مؤتة.
ترجمته:
1- التعريف بجعفر: قال ابن الجوزي في ترجمته: جعفر بن أبي طالب، أمه فاطمة بنت أسد، وكان أسنّ من عليّ رضى الله عنه بعشر سنين، أسلم جعفر قديماً، وهاجر إلى أرض الحبشة في الهجرة الثانية، ومعه امرأته أسماء، فلم يزل هنالك حتى قدم على النبي صلى الله عليه وسلم وهو بخيبر سنة سبع، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ما أدري بأيهما أنا أفرح بقدوم جعفر أم بفتح خيبر».
2- قوة عارضة جعفر في خطبة وجودة حواره: عن أم سلمة قالت: لما نزلنا أرض الحبشة جاورنا بها خير جار: النجاشيَّ، آمننا على ديننا، وعبدنا الله لا نؤذى، فلما بلغ ذلك قريشاً ائتمروا ان يبعثوا إلى النجاشي فينا رجلين جلدين، وأن يهدوا إلى النجاشي هدايا مما يستطرف من متاع مكة، فجمعوا له أدماً (الأدم: الجلد وهو اسم جمع) كثيراً، ولم يتركوا من بطارقته بطريقاً (يراد بهم الوزراء، جمع بطريق، ومعناه في الأصل: الحاذق بالحرب وأمورها بلغة الروم، وهو ذو منصب وتقدم عندهم) إلا أهدوا له هدية، ثم بعثوا بذلك عبد الله بن أبي ربيعة المخزومي وعمرو بن العاص، وقالوا لهما: ادفعا إلى كل بطريق هديته قبل أن تكلموا النجاشيّ فيهم، ثم قدِّموا إلى النجاشي هداياه، ثم سلوه أن يسلمهم إليكم قبل أيكلمهم.
فخرجا فقد ما على النجاشي، فدفعا إلى كل بطريق هديته، وقالا: إنه قد صبأ إلى بلدكم منا غلمانٌ سفهاء، فارقوا دين قومهم، ولم يدخلوا ي دينكم، وجاؤوا بدين مبتدع، وقد بعثنا إلى الملك فهمهم أشراف قومهم ليردّهم إليهم، فإذا كلّمنا الملك فيهم، فأشيروا إلى الملك بأن يسلمهم إلينا، ولا يكلمهم، فإن قومهم أعلى بهم عيناً، فقالوا: نعم.
ثم قربوا هداياهم إلى النجاشي، فقبلها منهم، ثم كلَّماه فقالا له: أيها الملك، إنه قد صبأ إلى بلدك منا غلمان سفهاء، فارقوا دين قومهم، ولم يدخلوا في دينك، وجاؤوا بدين مبتدع لا نعرفه، نحن ولا أنت، وقد بعثنا إليك فيهم أشراف قومهم من آبائهم وأعمامهم وعشائرهم لتردهم إليهم، فهم أعلى بهم عيناً، وأعلم بما عابوا عليهم، فقالت بطارقته: صدقوا، فأسلمهم إليهما.
فغضب النجاشي، ثم قال: لا، هيم الله (من ألفاظ القسم) إذاً لا أسلمهم إليهما، ولا أكاد (كاده يكيده: خدعه ومكر به) قوماً جاوروني، نزلوا بلادي، واختاروني على من سواي، حتى أدعوهم فأسألهم ماذا يقول هذان في أمرهم؟ فإن كانوا كما يقولان سلمتهم إليهما، وإن كانوا على غير ذلك منعتهم منهما، وأحسنت جوارهم ما جاوروني.
قال: ثم أرسل إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعاهم، فلما أن جاءهم رسوله اجتمعوا، ثم قال بعضهم لبعض: ما تقولون للرجل إذا جئتموه؟ قالوا: نقول والله ما علمنا، وما أمرنا به نبينا صلى الله عليه وسلم، كائن في ذلك ما هو كائن، فلما جاؤوه، وقد دعا النجاشي أساقفته، فنشروا مصاحفهم ( صحفهم وكتبهم) حوله، سألهم فقال: ما هذا الدين الذي فارقتم فيه قومكم، ولم تدخلوا في ديني، ولا في دين آخر من هذه الأمم؟ قالت: وكان الذي كلمه جعفر بن أبي طالب فقال له: " أيها الملك، كنا قوماً أهل جاهلية نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، يأكل القوي الضعيف، فكنا على ذلك، حتى بعث الله عز وجل إلينا رسولاً منا، نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، دعانا إلى الله عز وجل لنوحِّده، ونعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان.
وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، وكفٍّ عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنة.
وأمرنا أن نعبد الله لا نشرك به شيئاً، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام، فصدّقناه وآمنا به، فعبدنا الله عز وجل وحده فلم نشرك به شيئاً، وحرّمنا ما حرَّم علينا، وأحللنا ما حلَّ لنا، فعدا علينا قومنا، فعذَّبونا، وفتنونا على ديننا، ليردّونا إلى عبادة الأوثان، وأن نستحلّ ما كنا نستحل من الخبائث، فلما قهرونا وظلمونا وشقوا علينا (أثقلوا، من المشقة وهي الشدة) وحالوا بيننا وبين قومنا خرجنا إلى بلدك، فاخترناك على من سواك، ورغبنا في جوارك، ورجونا ألا تظلم عندك أيها الملك.
قالت: فقال له النجاشي: هل معك مما جاء به عن الله عز وجل شيء؟ قالت: فقال له جعفر: نعم، قال: اقرأه عليّ، فققرأ عليه صدراً من (كهيعص) (هي سورة مريم) فبكى والله النجاشي، حتى أخضل لحيته (بلَّلها بالدموع) وبكت أساقفته، حتى أخضلوا مصاحفهم، ثم قال النجاشي: إن هذا والذي جاء به موسى ليخرج من مشكاةٍ واحدة، انطلقا، فو الله لا أسلمهم إليكم أبداً، قالت: فلما خرجا من عنده قال عمرو بن العاص: والله لآتينه غداً أعيبهم عنده بما أستأصل به خضراءهم، فقال له عبد الله بن أبي ربيعة وكان أتقى الرجلين فينا: لا تفعل إن لهم أرحاماً، فقال: والله لأخبرَّنه أنهم يزعمون أن عيسى ابن مريم عبد.
قالت: ثم غدا عليه من الغد فقال له: أيها الملك إنهم يقولون في عيسى ابن مريم قولاً عظيماً، فأرسل إليهم فاسألهم عما يقولون فيه،قالت: فأرسل إليهم يسألهم عنه، فقالت: ولم ينزل بنا مثلها، فاجتمع القوم فقال بعضهم لبعض: ماذا تقولون في عيسى إذا سألكم عنه؟ قالوا: نقول والله فيه ما قال فيه الله عز وجل، وما جاء به نبينا، كائن في ذلك ما هو كائن.
فلما دخلوا عليه قال لهم: ما تقولون في عسى ابن مريم؟ قال له جعفر بن أبي طالب: نقول فيه الذي جاء به نبينا صلى الله عليه وسلم، هو عبد الله وروحه ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول، قال: فضرب النجاشي يده إلى الأرض، فأخذ منها عوداً، ثم قال: ما عدا عيسى ابن مريم ما قلت هذا العود، ثم قال: اذهبوا فأنتم سيوم(أي آمنون، وهي كملة حبشية تضمّ سينها. وقد تفتح) بأرضي – والسيُّوم: الآمنون – من سبَّكم غرم، ثم من سبَّكم غرم، ثم من سبَّكم غرم، ردوا عليهما هداياها فلا حاجة لنا بها، فوالله ما أخذ الله مني الرشوة حين ردّ عليّ ملكي " [رواه الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه في المسند، وهو في السيرة لابن هشام].
وعن أبي هريرة قال: كان جعفر يحب المساكين، ويجلس إليهم، ويحدثهم، ويحدثونه، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسميه أبا المساكين (الحديث صحيح أخرجه البخاري بنحوه في فضائل جعفر والترمذي في فضائل جعفر)، وابن ماجه في الزهد واللفظ له).
3- استشهاد جعفر في مؤتة: استشهد جعفر بن أبي طالب بمؤتة سنة ثمانٍ من الهجرة.
وعن ابن عمر قال: وجدنا فيما أقبل من بدن جعفر ما بين منكبيه تسعين ضربة ما بين طعنة برمح وضربة بسيف.
وعن أنس بن مالك: أن النبي صلى الله عليه وسلم نعى جعفراً وزيداً، نعاهما قبل أن يجيء خبرهما وعيناه تذرفان [صفة الصفوة].
مختارات