الرحمن الرحيم
أولا /المعنى اللغوي:
الرحمن مشتق من الرحمة، والرحمة في اللغة هي الرقة والتعطف والشفقة، وتراحم القوم أي رحم بعضهم بعضا والرحم القرابة.
وهو مبني على المبالغة ومعناه ذو الرحمة الذي لا نظير له فيها، وهو لا يثنى ولا يجمع ولا يسمى به أحد غيره.
والرحمن هو من عمت رحمته الكائنات كلها في الدنيا سواء في ذلك المؤمن والكافر
وقد ذكر ابن القيم أن وصف فعلان يدل على سعة هذا الوصف وثبوت جميع معناه الموصوف به؛ ألا تري أنهم يقولون غضبان للممتليء غضبا وندمان وحيران وسكران ولهفان لمن مليء بذلك فبناء فعلان للسعة والشمول
ولهذا يقرن الله تعالي استواءه علي العرش بهذا الاسم كثيرا كقوله سبحانه: ( الرحمن علي العرش استوي) طه:5 وكقوله أيضا: ( ثم استوي علي العرش الرحمن فاسأل به خبيرا) الفرقان:59
فاستوي علي عرشه باسمه الرحمن لأن العرش محيط بالمخلوقات وقد وسعها والرحمة محيطة بالخلق واسعة لهم علي اختلاف أنواعهم كما قال تعالي: ( ورحمتي وسعت كل شيء) الأعراف:156 فاستوي علي أوسع المخلوقات بأوسع الصفات ومن ثم وسعت رحمته كل شيء
واسم الرحمن اختص به الله لا يتسمى به غيره فقد قال الله (قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن) فقرن بين اسمي الله والرحمن الذي فكما أن لفظ الجلالة (الله) لا يتسمى به غيره فكذلك اسم (الرحمن)
ولما تسمى مسيلمة الكذاب بـ(رحمن اليمامة) واشتهر بذلك لقبه رسول الله بالكذاب وجعله الله نكالا فلايذكر اسمه إلا إذا اقترن بالكذاب فصار علما لا يعرف إلا به.
الرحيم:
مشتق أيضا من الفعل رحم فإذا قيل راحم فهو متصف بالرحمة والمبالغة رحمن ورحيم ويفترق هذا الاسم عن اسم الرحمن أنه يمكن تسمية غير الله به كما في قوله تعالى في وصف النبي صلى الله عليه وسلم (بالمؤمنين رؤوف رحيم) التوبة 128
وقال عبد الله بن عباس: (هما اسمان رقيقان أَحدهما أَرق من الآخر).
وقال ابن المبارك:الرحمن إذا سئل أعطى والرحيم إذا لم يسأل يغضب
ما الفرق بين الرحمن والرحيم؟
قيل في ذلك عدة أقوال:
1- الرحمن معناه ذو الرحمة الشاملة التي وسعت الخلق في معايشهم، وعمت المؤمن والكافر والرحيم خاص بالمؤمنين كما في قوله: (وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيما ً) الأحزاب:43 (لكن ورد قوله تعالى (إن الله بالناس لرؤوف رحيم) البقرة 143
2- الرحمن في الدنيا والرحيم في الآخرة (لكن قد جاء في الدعاء عن الرسول صلى الله عليه وسلم رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما)
3- والراجح: أن الرحمن صفة للذات (ذات الله) والرحيم صفة للفعل.
فالله في ذاته بلغت رحمته الكمال، والرحيم دل على أنه يرحم خلقه برحمته
بيان سعة رحمة الله بعباده:
الله سبحانه (كتب على نفسه الرحمة) الأنعام 12
والله عز وجل سبقت رحمته غضبه كما جاء في الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي أنه قال: (لما قضى الله الخلق كتب كتابا فهو موضوع عنده فوق العرش: إن رحمتي سبقت غضبي)
ولم يجعل في الدنيا إلا جزءا يسيرا من واسع رحمته يتراحم به الناس ويتعاطفون، وبه ترفع الدابة حافرها عن ولدها رحمة وخشية أن تصيبه، روى البخاري من حديث أبي هريرة أنه سمع رسول الله يقول:
(جَعَلَ الله الرَّحْمَةَ مِائَةَ جُزْءٍ، فَأَمْسَكَ عِنْدَهُ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ جُزْءًا وَأَنْزَلَ فِي الأَرْضِ جُزْءًا وَاحِدًا، فَمِنْ ذَلِكَ الْجُزْءِ يَتَرَاحَمُ الْخَلْقُ حَتَّى تَرْفَعَ الْفَرَسُ حَافِرَهَا عَنْ وَلَدِهَا خَشْيَةَ أَنْ تُصِيبَهُ)
وفي رواية أخرى عند البخاري قال: (إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ الرَّحْمَةَ يَوْمَ خَلَقَهَا مِائَةَ رَحْمَةٍ، فَأَمْسَكَ عِنْدَهُ تِسْعًا وَتِسْعِينَ رَحْمَةً، وَأَرْسَلَ فِي خَلْقِهِ كُلِّهِمْ رَحْمَةً وَاحِدَةً، فَلَوْ يَعْلَمُ الْكَافِرُ بِكُلِّ الَّذِي عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الرَّحْمَةِ لَمْ يَيْأَسْ مِنَ الْجَنَّةِ، وَلَوْ يَعْلَمُ الْمُؤْمِنُ بِكُلِّ الَّذِي عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الْعَذَابِ لَمْ يَأْمَنْ مِنَ النَّارِ).
نتأمل إخواني هذه الرحمة التي جعلها الله في قلوب عباده ومخلوقاته كلهم لا تزيد عن كونها جزءا واحدا من رحمته، ونتأمل كيف وسعت رحمته من هذا الجزء عباده في الدنيا فماذا عن التسعة والتسعين جزءا في الآخرة، فهذه بها يعفو الله وبها يغفر وبها يقبل شفاعة الشافعين ويعفو عن العاصين.
وورد عند البخاري أيضا من حديث عُمَر بن الخطاب أَنَّهُ قَالَ: (قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ بِسَبْيٍ، فَإِذَا امْرَأَةٌ مِنَ السَّبْيِ تَبْتَغِي إِذَا وَجَدَتْ صَبِيًّا فِي السَّبْيِ أَخَذَتْهُ فَأَلْصَقَتْهُ بِبَطْنِهَا وَأَرْضَعَتْهُ، فَقَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ: أَتَرَوْنَ هَذِهِ الْمَرْأَةَ طَارِحَةً وَلَدَهَا فِي النَّارِ؟ قُلْنَا: لاَ وَاللَّهِ، وَهِي تَقْدِرُ عَلَى أَنْ لاَ تَطْرَحَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: لَلَّهُ أَرْحَمُ بِعِبَادِهِ مِنْ هَذِهِ بِوَلَدِهَا).
والله إن الإنسان ليتوقف طويلا مع هذا الحديث الرقراق الذي يبين فيه رسول الله مثالا حسيا لهذه المرأة فقدت طفلها في الحرب، فكانت إِذَا وَجَدَتْ صَبِيًّا فِي السَّبْيِ أَخَذَتْهُ فَأَلْصَقَتْهُ بِبَطْنِهَا وَأَرْضَعَتْهُ وقد فعلت ذلك ليخفف ألم اللبن في ثديها، وأخذت تبحث عن طفلها حتى وجدته فأخذته وضمته وأرضعته، فرحمة الله بعباده أعظم من هذه الرحمة
وما زلت أذكر هذا الرجل الذي وقف أمام بائع الفلافل (الطعمية) وهو يقليها في الزيت فنظر إليها وهي تفور غليانا فقال بتلقائية: والله مانهون عليه !!!
فتساءل الواقفون على من؟
قال على ربنا والله مانهون عليه يرمينا في النار هكذا !!
اللهم إنك أرحم بنا من أمهاتنا، ورحمتك أوسع من ذنوبنا،ومغفرتك أرجى من عملنا فاغفر لنا وارحمنا يا أرحم الراحمين.
ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها:
{ ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده وهو العزيز الحكيم}..
هذه الآية تتحدث عن رحمة الله، التي يرسلها تارة، ويمسكها أخرى، ولا أحد يقدر على ذلك غيره سبحانه وتعالى.
هذه الآية من تدبرها واستيقنها فإنها تيئسه من كل رحمة، وتصله برحمة الله.. وإذا أوصدت أمامه الأبواب علم أنه لن يحال بينه وبين رحمة الله.
- ورحمة الله ليست قاصرة على ما وهب وأعطى، بل تمتد إلى ما حرم ومنع:
فما حرم شيئا إلا رحمة بخلقه، وما منع رزقا إلا لرحمته بعباده، حرم الربا، والزنا، والخمر، والقمار، رحمة بهم، حتى لاتفسد معيشتهم و حياتهم، ومنع بعض عباده المال والصحة رحمة بهم كيلا يطغوا، ويعيثوا في الأرض فسادا.
- رحمة الله يجدها من يفتحها الله له، في كل مكان، وفي كل شيء، وفي كل حال، يجدها في نفسه، وفيما حوله، ولوفقد كل شيء مما يعد الناس فقده حرمانا.... ورحمة الله يفقدها من يمسكها الله عنه، في كل شيء، وفي كل حال ومكان، ولو وجد كل شيء، مما يعد الناس وجده من الإنعام..
وما من نعمة يمسك الله عنها رحمته حتى تنقلب هي بذاتها نقمة، وما من محنة تحفها رحمة الله حتى تكون هي بذاتها نعمة:
ينام الانسان على الأرض فوق التراب مع رحمة الله فإذا هي مهاد، وينام على الحرير وقد أمسكت عنه رحمة الله فإذا هو شوك..
يعالج أعسر الأمور برحمة الله فإذا هي هوادة ويسر، ويعالج أيسر الأمور وقد تخلت عنه رحمة الله فإذا هي مشقة وعسر..
يخوض بها المخاوف والأخطار فإذا هي أمن وسلام، ويعبر بدونها المسالك الآمنة فإذا هي مهلكة وبوار.. ولا ضيق مع رحمة الله، إنما الضيق في إمساكها..
لا ضيق معها ولو كان صاحبها يعيش في فقر، وتحت العذاب والأذى، ولا سعة مع إمساكها ولو تقلب في أعطاف النعيم.
يبسط الله الرزق مع رحمته، فإذا هو متاع طيب، ورغد في الحياة، وزاد الى الآخرة، بالإنفاق، وتحري الحلال، والرضا بالنصيب.. ويمسك رحمته، فإذا هو مثار قلق وخوف وحسد وبخل وطمع وتطلع الى الحرام وتوغل في الشبهات.
يمنح الله الذرية مع رحمته، فإذا هي زينة ومصدر فرح واستمتاع وذخر للآخرة وعون في الدنيا.. ويمسك رحمته، فإذا الذرية بلاء ونكد وعنت وشقاء وسهر بالليل وتعب بالنهار.
يهب الله الصحة والقوة مع رحمته، فإذا هي نعمة وحياة طيبة.. ويمسك عنها رحمته، فإذا الصحة والقوة وسيلة الى الحرام وتعدي الحدود والطغيان والظلم.
ويعطي الله السلطان والجاه، مع رحمته فإذا هي أداة إصلاح ومصدر أمن، ووسيلة لادخار الصالح من العمل والأثر.. ويمسك عنها رحمته، فإذا هي مصدر قلق وطغيان وبغي واستكبار، يدخر بها رصيدا ضخما من العذاب في الآخرة.
- ومن رحمة الله أن تحس برحمة الله:
فرحمة الله تضمك وتغمرك وتفيض عليك، ولكن شعورك بوجودها هو الرحمة، ورجاؤك فيها، وتطلعك إليها هو الرحمة، وثقتك بها، وتوقعها في كل أمر هو الرحمة.. والعذاب في احتجابك عنها، أو يأسك منها، أو شكك فيها، وهو عذاب لايصبه الله على مؤمن أبدا:
{ إنه لاييأس من روح الله إلا القوم الكافرون}..
- رحمة الله لاتعز على طالب في أي مكان ولا في أي حال:
وجدها إبراهيم عليه السلام في النار..
ووجدها يوسف عليه السلام في الجب، كما وجدها في السجن..
ووجدها يونس عليه السلام في بطن الحوت في ظلمات ثلاث..
ووجدها موسى عليه السلام في اليم، وهو طفل مجرد من كل قوة،، كما وجدها في قصر عدوه فرعون..
الرحمة في قصة أهل الكهف:
ولعلنا لا ننسى أهل الكهف فروا بدينهم إلى كهف في الجبل.. والكهف مكان ضيق.. لا يستطيع الإنسان أن يمضى فيها إلا وقتا قصيرا.. وأقرأ قول الحق جل وعلا: (وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحمته ويُهَيِّئْ لَكُم مِّنْ أَمْرِكُم مِّرْفَقًا) سورة الكهف
هذا الكهف الضيق.. إن ضاق عليهم مساحة، فلن يضيق عليهم انعاما.. فرحمة الله سبحانه وتعالى ستجعل هذا المكان الضيق يبدو رحبا واسعا.. فلا يحسون بضيق المكان والزمن يتوقف فيه فلا يحسون بضيق الزمان.. بل تأتي رحمة الله لتحيط بهم.
لقد غمر الله أهل الكهف برحمته مكافأة لهم على الفرار بدينهم فلم يجعلهم يفكرون في أنهم مضطهدون حتى لا يعيشوا في قلق ورعب من أن يحلق بهم الطغاة الكفرة.. لذلك ألقى عليهم النوم في الكهف.. فلا يشعر بهم أحد، ولا يشعرون بالوقت.. ولا يحتاجون إلى طعام وشراب.
وكانت هناك آيات بقدرة الله تولتهم بعنايته ورحمته، فقال بعضهم لبعض: { فأووا الى الكهف ينشر لكم ربكم من رحمته }..
ورحمة الله تتمثل في مظاهر لايحصيها العد، ويعجز الانسان عن مجرد ملاحقتها وتسجيلها:
يقول الشيخ الشعراوي في شرح هذين الاسمين: (باختصار)
وإذا تأملنا الكون المحيط بنا تجلت لنا رحمة الله عز وجل في كل صغيرة وكبيرة
فالشمس تحافظ على بعد ثابت من الأرض، وهذا البعد الثابت يضمن لنا قدرا ثابتا من الحرارة.. لا يزيد فتقتلنا الحرارة، ولا ينقص فتقتلنا البرودة
والهواء يحيط بنا ويحوي الأكسجين اللازم لعملية التنفس وأكسدة المواد الغذائية كي تنطلق الطاقة التي تكفل للجسم القيام بوظائفه.
والماء الذي يمثل معظم مساحة الكرة الأرضية بما له من وظائف غير محصورة في جسم الإنسان، هذا فضلا عن استخدامه في الطهارة التي تقي الإنسان شر الأمراض والآفات.
وبعد أن أعد لنا عز وجل هذا الكون، أعد لنا في بطون أمهاتنا رحما رحيما بنا بأتينا فيه الرزق.. بلا حول ولا قوة.. رزقا منه تبارك وتعالى بلا تعب ولا مقابل
ومن رحمته جل وعلا أنه ينبت لنا من الأرض الجدباء طعاما نأكله وفي ذلك يقول تبارك وتعالى)فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا (سورة الروم 50
ومن رحمته أنه جعل لنا الليل سكنا لنجد فيه الراحة والسكينة بعد عناء العمل، وجعل لنا النهار للسعي والعمل واكتساب القوت فقال عز وجل:) وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ (سورة القصص 73
ومن رحمته أنه أرسل الرسل بالرسالات السماوية إلى الناس كافة ليخرجهم من الظلمات إلى النور، وأرسل رسوله محمدا عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم بالهدى ودين الحق ليكون رحمة للعالمين فيقول تعالى) وَهَـذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (سورة الأنعام
ولكن ما معنى كونه سبحانه رحيما وأرحم الراحمين ونجد البلاء والعذاب والمرض وهو يقدر على رفع ذلك عن عباده؟
والجواب:أن ذلك من تمام حكمته سبحانه فمثلا لو أن طفلا صغيراً يحتاج إلى حقنة فبكى الابن خوفا من ألمها فرقّت له الأم،وحمله الأب عليها قهرا !!!
فالجاهل يظن أن الرحيم الأم دون الأب.
والعاقل يعلم أن إيلام الأب لابنه من تمام رحمته وعطفه وأن الألم القليل إذا كان لمنفعة كبيرة لم يكن شرا بل هو خير.
وكذلك اليد المصابة بالأكلة (الغرغرينا)قطعها شر في الظاهر لكن في الباطن هو خير لسلامة البدن كله ولو لم تقطع لكان الشر أعظم بهلاك البدن كله.
ونستطيع بذلك أن نرد على من ينكرون عقوبة الإعدام للقاتل أو قطع اليد للسارق ففيها خير على المجتمع كله بسلامته وأمنه.
إذن فما يقدره الله لعباده من شدة ومرض هو رحمة منه بعباده إما لرفع درجاتهم أو لتكفير سيئاتهم أو لتذكيرهم بنعمه عليهم إلى غير ذلك من الأسباب التي سنذكرها فيما بعد إن شاء الله بشئ من التفصيل.
ثمار الإيمان بهذين الاسمين: الرحمن والرحيم
1- الدعاء بهما وسؤال الله الرحمة:
فنسأل أرحم الراحمين أن يرحمنا (ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب)آل عمران 8
و{ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنتَ مَوْلاَنَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ }البقرة286
و(وقل رب اغفر وارحم وأنت خير الراحمين) المؤمنون 118
وفي الصحيحين عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال يا رسول الله علمني دعاء أدعو به في صلاتي وفي بيتي قال: قل:
(اللهم إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا ولا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم)
وكان عمر بن عبدالعزيز يقول “اللهم إن لم أكن أهلا لبلوغ رحتمك، فإن رحمتك أهلا لأن تبلغني، فرحمتك وسعت كل شيء وأنا شيء فلتسعني رحمتك يا أرحم الأرحمين”
2- أن تكون رحيما بالخلق:
فالاصل أن المسلم متصف بهذه الصفة في تعامله بين الخلق وقد وصف الله المؤمنين بذلك فقال {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ }الفتح29
فالأصل في المسلمين الرحمة فيما بينهم لكنهم صاروا في كثير من الأحيان أشداء بينهم... تجد هذا في الطبيب الذي يعالج مرضاه نسي رحماء بينهم، وكذلك المحامي والتاجر ووو..............إننا بحاجة أن نعيد هذا المفهوم إلى الأذهان أن الله أمر المؤمنين أن يكونوا رحماء بينهم وفي الحديث (من لا يرحم لا يرحم)رواه البخاري
وعن أبي هريرة (لا تنزع الرحمة إلا من شقي) حسنه الألباني
ورحمة المؤمن لا تقتصر على إخوانه المؤمنين وإنما هو ينبوع يفيض بالرحمة على الناس جميعا:
وقد قال رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم لأصحابه: " لن تؤمنوا حتى ترحموا. قالوا: يا رسول الله، كلنا رحيم. قال: إنه ليس برحمة أحدكم صاحبه ولكنها رحمة العامة "، رواه الطبراني.
وكما في حديث ابن عمرو (الراحمون يرحمهم الرحمن تبارك وتعالى إرحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء) صححه الألباني
ومن صفات المؤمنين في القرآن: " وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ " البلد:17.
3- الرحمة بالضعفاء والأطفال وسائر المخلوقات:
دخل الأقرع بن حابس على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما وهو يقبل الحسن ويقبل الحسين فقال: والله أنا لى عشرة من الآولاد ما قبلت واحدا منهم فغضب النبى وقال: " وما أملك أن نزع الله الرحمة من قلبك، من لا يرحم لا يرحم) متفق عليه
بل كان صلى الله عليه وسلم إذا خرج من المسجد فقابله الصبيان وقف يسلم عليهم، فعن جابر بن سمرة يقول جابر: صليت مع النبى صلى الله عليه وسلم الصلاة الأولى، فخرج إلى أهله فقابله الصبيان، فجعل النبى صلى الله عليه وسلم يمسح خدى أحدهم واحدا واحداً، ثم مسح النبى صلى الله عليه وسلم على خدى فوجدت ليده بردا وريحا كأنه أخرجها من جوْنة عطار. صحيح مسلم ".
وتمتد هذه الرحمة لتشمل البهائم والطير
والرحمة تتجاوز الإنسان الناطق إلى الحيوان الأعجم، فالمؤمن يرحمه ويتقي الله فيه، ويعلم أنه مسئول أمام ربه عن هذه العجماوات. وقد أعلن النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه أن الجنة فتحت أبوابها لبغي سقت كلبا فغفر الله لها، وأن النار فتحت أبوابها لامرأة حبست هرة حتى ماتت، فلا هي أطعمتها، ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض. فإذا كان هذا عقاب من حبس هرة بغير ذنب، فماذا يكون عقاب الذين يحبسون عشرات الألوف من بني الإنسان بغير حق إلا أن يقولوا: ربنا الله.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بينما رجل يمشي بطريق اشتد عليه العطش فوجد بئراً فنزل فيها فشرب ثم خرج فإذا بكلب يلهث يأكل الثرى من العطش فقال الرجل: لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي كان بلغ مني فنزل البئر فملأ خفه ماء ثم امسكه بفيه حتى رقي فسقى الكلب فشكر الله له فغفر له قالوا: يارسول الله! وإن لنا في هذه البهائم لأجراً؟؟! فقال صلى الله عليه وسلم: في كــل كــبد رطـبــة أجر» مسلم
وبلغ من رحمته بالحيوان أنه مر عليه بحمار قد وسم في وجهه (مكويا في وجهه) فأنكر ذلك وقال: لعن الله الذي وسمه) رواه مسلم
ورأى عمر رجلا يسحب شاة من رجلها فقال ويلك قدها(سقها) إلى الموت قودا جميلا.
ويروي المؤرخون أن عمرو بن العاص في فتح مصر نزلت حمامة بفسطاطه (خيمته) فاتخذت من أعلاه عُشًّا، وحين أراد عمرو الرحيل رآها، فلم يشأ أن يهيجها بتقويضه، فتركه وتكاثر العمران من حوله، فكانت مدينة " الفسطاط ".
الرحمة مع الأعداء
هذه الرحمة غلبت على أعمال المسلمين الأولين، حتى مع الأعداء المحاربين، فنجد رسول الله صلى الله عليه وسلم يغضب حين مر في إحدى غزواته، فوجد امرأة مقتولة فقال: ما كانت هذه لتقاتل.
وينهى عن قتل النساء والشيوخ والصبيان، ومن لا مشاركة له في القتال.
ويسير أصحابه على نفس النهج أبرارا رحماء لا فجارا قساة؛ فهذا أبو بكر يودع جيش أسامة بن زيد ويوصيهم قائلا: " لا تقتلوا امرأة ولا شيخا ولا طفلا، ولا تعقروا نخلا، ولا تقطعوا شجرة مثمرة، وستجدون رجالا فرغوا أنفسهم في الصوامع، فدعوهم وما أفرغوا أنفسهم له ".
ويقول عمر: " اتقوا الله في الفلاحين الذين لا ينصبون لكم الحرب ".
ويُحمل إلى أبي بكر رأس مقتول من كبراء الأعداء المحاربين، فيستنكر هذا العمل، ويعلن سخطه عليه ويقول لمن جاءه بالرأس: " لا يُحمل إلي رأس بعد اليوم. فقيل له: إنهم يفعلون بنا ذلك. فقال: فاستِنان(أي اقتداء) بفارس والروم؟! إنما يكفي الكتاب والخبر.
وهكذا كانت الحرب الإسلامية حربا رحيمة رفيقة، لا يُراق فيها الدم إلا ما تدعو الضرورة القاهرة إليه، وقد لاحظ ذلك الفيلسوف الفرنسي غوستاف لوبون فقال: ما عرف التاريخ فاتحا أعدل ولا أرحم من العرب.
4- الرحمة بالعصاة:
يقول الإمام الغزالي في كتابه (المقصد الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى)
" وحظ العبد من اسم (الرحمن) أن يرحم عباد الله الغافلين، فيصرفهم عن طريق الغفلة إلى الله بالوعظ والنصح بطريق اللطف دون العنف، وأن ينظر إلى العصاة بعين الرحمة، لا بعين الإيذاء، وأن يرى كل معصية تجري في العالم كمعصية له في نفسه، فلا يألو جهدا في إزالتها بقدر وسعه؛ رحمة لذلك العاصي من أن يتعرض لسخط الله تعالى، أو يستحق البعد عن جواره.
وحظ العبد من اسم (الرحيم) ألا يدع فاقة لمحتاج إلا ويسدها بقدر طاقته، ولا يترك فقيرا في جواره أو في بلده، إلا ويقوم بتعهده ودفع فقره، إما بماله أو جاهه، أو الشفاعة إلى غيره، فإن عجز عن جميع ذلك، فيعينه بالدعاء، وإظهار الحزن، رقة عليه وعطفا، حتى كأنه مساهم له في ضره وحاجته ".
ومرأبو الدرداء بجماعة تجمهروا على رجل يضربونه ويشتمونه، فقال لهم: ما الخبر؟ قالوا: وقع في ذنب كبير، قال: أرأيتم لو وقع في بئر أفلم تكونوا تستخرجونه منه؟ قالوا: بلى، قال: فلا تسبوه ولا تضربوه، لكن عِظُوه وبصِّروه، واحمدوا الله الذي عافاكم من الوقوع في مثل ذنبه، قالوا: أفلا تبغضه؟ قال: إنما أبغض فعله، فإذا تركه فهو أخي، فأخذ الرجل ينتحب ويعلن توبته وأوبته.
5- صلة الأرحام:
صلة الرحم تعني الإحسان إلى الأقربين وإيصال ما أمكن من الخير إليهم ودفع ما أمكن من الشر عنهم.
وقد عظم سبحانه قدر الأرحام فقال تعالى: (وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) النساء:1.
وعن أنس-رضي الله عنه- قال: قال رسول الله: (يقول ـ تبارك وتعالى ـ: أنا الرحمن الرحيم، و إني شققت للرحم من اسمي، فمن وصلها وصلته،ومن نكثها نكثه) رواه البزار وإسناده حسن
وعن عائشة_ رضي الله عنها_ قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الرحم معلقة بالعرش تقول: من وصلني وصله الله،ومن قطعني قطعه الله) البخاري ومسلم
من الأرحام الذين تجب صلتهم:
الأرحام عام في كل ما يشمله الرحم، فكل قريب لك هم من الأرحام الذين تجب صلتهم.
وإن كان تتنوع كيفية وصلهم فهذا تجب صلته كل يوم وهذا كل أسبوع وهذا كل شهر وهذا في المناسبات وهكذا.
كذلك يتنوع الموصول به فهذا يوصل بالمال وهذا يوصل بالسلام وهذا يوصل بالمكالمة وهكذا.
وعلى كل حال نقول إن الرحم القريب أولى بالصلة من البعيد، وليس هناك تحديد للزمن الذي يجب فيه الوصل فلا نستطيع أن نقول يجب عليك أن تصل أخاك كل يوم أو كل يومين أو كل أسبوع وعمك كل كذا إن كان في بلدك وكذا إن كان في غير بلدك.
وإنما يرجع في ذلك إلى العرف بحيث يتعارف الناس على أن هذا الرحم يوصل في كذا وكذا وهذا إن كان قريب المسكن فيوصل عند كذا وكذا.
وعموماً الصلة يمكن أن تكون بالزيارة أوالاستضافة بأن تستضيفهم عندك في مكانك.
وبتفقدهم والسؤال عنهم والسلام عليهم،ومشاركتهم في أفراحهم بتهنئتهم ومواساتهم في أحزانهم بتعزيتهم،وعيادة مرضاهم.
6- استحباب التسمية بعبد الرحمن:
عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (أحب الاسماء الى الله تعالى عبدالله وعبد الرحمن) سنن أبي داود
7- طاعة الله ورسوله سبب الرحمة:
إن طاعة الله وطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم من أسباب الرحمة في الدنيا والآخرة، كما في قوله تعالى: (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ)آل عمران:132
وهذه الرحمة ذكرت مطلقة، فهي رحمة في الدنيا والآخرة، فيرحم الله سبحانه وتعالى من أطاعه وأطاع رسوله صلى الله عليه وسلم.
و قد بين لنا الله موجبات رحمته، وعرفنا السبيل إلى استجلابها ؛ فقال تعالى (إن رحمة الله قريب من المحسنين)
فأوضح بذلك أن رحمته تبارك وتعالى تكون قريبا من عباده المؤمنين به، الطائعين له.. فهؤلاء يتغمدهم برحمته.. فينجيهم من كروب الدنيا ويبعثهم يوم الفزع الأكبر آمنين.
إن طاعة الله لا تأتي إلا بالخير، ومعصية الله لا تأتي إلا بالشر، ولذلك جعل سبحانه الرحمة مرتبطة بطاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، وجعل الشقاء والضنك لمن أعرض عن ذكره وعن متابعة رسوله صلى الله عليه وسلم، قال عز وجل: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى طه:124.
ورحمة الله لا تقتصر على المؤمنين الطائعين فقط بل تمتد لتشمل ذريتهم من بعدهم تكريما لهم وسكينة لأنفسهم.. وقد رأينا ذلك في قصة العبد الصالح والجدار والتي قال عنها المولى عز وجل: (وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا)
اللهم انا نسألك رحمة من عندك تهدي بها قلوبنا وتجمع بها أمرنا وتلم بها شعثنا وتبلغنا بها رضاك في الدارين ياذا المن والعطاء يا أرحم الراحمين
مختارات