تابع " من أشراط السَّاعة الكبرى : المسيح الدَّجاَّل " 2
تابع " من أشراط السَّاعة الكبرى: المسيح الدَّجاَّل " 2
* مكان خروج الدجال:
يخرج الدجال من جهة المشرق؛ من خراسان، من يهودية أصبهان، ثم يسير في الأرض، فلا يترك بلدًا إلا دخله؛ إلا مكة والمدينة، فلا يستطيع دخولهما؛ لأن الملائكة تحرسهما.
ففي حديث فاطمة بنت قيس السابق أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الدجال: " ألا إنه في بحر الشام، أو بحر اليمن، لا بل من قبل المشرق ما هو، من قبل المشرق ما هو (وأومأ بيده إلى المشرق) (صحيح مسلم).
وعن أبي بكر الصديق رضى الله عنه قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " الدجال يخرج من أرض بالمشرق؛ يقال لها: خراسان " (صحيح الجامع الصغير).
وعن أنس رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يخرج الدجال من يهودية أصبهان، معه سبعون ألفًام من اليهود " ( الفتح الرباني ترتيب مسند أحمد " قال ابن حجر: " صحيح ". " فتح الباري).
قال ابن حجر: " وأما من أين يخرج؟ فمن قبل المشرق جزمًا " (فتح الباري).
وقال ابن كثير: " فيكون بدء ظهوره من أصبهان، من حارة يقال لها: اليهودية " (النهاية).
* الدجال لا يدخل مكة والمدينة:
حرم على الدجال دخول مكة والمدينة حين يخرج في آخر الزمان؛ لورود الأحاديث الصحيحة لذلك، وأما ما سوى ذلك من البلدان؛ فإن الدجال سيدخلها واحدًا بعد الآخر.
جاء في حديث فاطمة بنت قيس رضي الله عنهما أن الدجال قال: " فأخرج، فأسير في الأرض، فلا أدع قرية إلا هبطتها في أربعين ليلة؛ غير مكة وطيبة (هي المدينة المنورة) فهما محرمتان علي كلتاهما، كلما أردت أن أدخل واحدة أو واحدًا- منهما؛ استقبلني ملك بيده السيف صلتًا يصدني عنها، وإن على كل نقب منها ملائكة يحرسونها " (صحيح مسلم).
وثبت أيضًا أن الدجال لا يدخل أربعة مساجد: المسجد الحرام ومسجد المدينة ومسجد الطور والمسجد الأقصى.
روى الإمام أحمد عن جنادة بن أبي أمية الأزدي؛ قال: ذهبت أنا ورجل من الأنصار إلى رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فقلنا: حدثنا ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر في الدجال.... (فذكر الحديث، وقال): " وإنه يمكث في الأرض أربعين صباحًا، يبلغ فيها كل منهل، ولا يقرب أربعة مساجد: مسجد الحرام، ومسجد المدينة، ومسجد الطور، ومسجد الأقصى " (الفتح الرباني " - ترتيب الساعات) قال الهيثمي: " رواه أحمد، ورجاله رجال الصحيح ". " مجمع الزوائد ". وقال ابن حجر: " رجاله ثقات ". " فتح الباري).
وأما ما ورد في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلًا، جعدًا، قططًا، أعور عين اليمنى، واضعًا يديه على منكبي رجل، يطوف بالبيت، فسأل عنه؟ فقالوا: إنه المسيح الدجال،فيجاب عنه بأن منع الدجال من دخول مكة والمدينة إنما يكون عند خروجه في آخر الزمان. والله أعلم (انظر: شرح النووي لمسلم).
* أتباع الدجال:
أكثر أتباع الدجال من اليهود والعجم والترك، وأخلاط من الناس، غالبهم الأعراب والنساء.
روى مسلم عن أنس بن مالك رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " يتبع الدجال من يهود أصبهان سبعون ألفًا عليهم الطيالسة " (انظر: شرح النووي لمسلم).
وفي رواية للإمام أحمد: " سبعون ألفًا عليهم التيجان " (صحيح مسلم).
وجاء في حديث أبي بكر الصديق: " يتبعه أقوام كأن وجوههم المجان المطرقة " (الفتح الرباني ترتيب المسند،والحديث صحيح. انظر: " فتح الباري).
قال ابن كثير: " والظاهر- والله أعلم – أن المراد هؤلاء الترك أنصار الدجال " (رواه الترمذي).
قلت: وكذلك بعض الأعاجم؛ كما جاء وصفهم في حديث أبي هريرة: " لا تقوم السَّاعة حتى تقاتلوا خوزًا وكرمان من الأعاجم، حمر الوجوه، فطس الأنوف، صغار الأعين، كأن وجوههم المجان المطرقة، نعالهم الشعر " (صحيح البخاري).
وأما كون أكثر أتباعه من الأعراب؛ فلأن الجهل غالب عليهم، ولما جاء في حديث أبي أمامة الطويل قوله صلى الله عليه وسلم: " وإن من فتنته – أي: الدجال – أن يقول للأعرابي: أرأيت إن بعثت لك أباك وأمك؛ أتشهد أني ربك؟ فيقول: نعم، فيتمثل له شيطانان في صورة أبيه وأمه، فيقولان: يا بني ! اتبعه؛ فإنه ربك " (صحيح الجامع الصغير).
وأما النساء؛ فحالهن أشد من حال الأعراب؛ لسرعة تأثرهن، وغلبة الجهل عليهن، ففي الحديث عن ابن عمر رضي الله عنهما؛ قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: " ينزل الدجال في هذه السبخة بمرقناة (مسند أحمد، تحقيق أحمد شاكر، وقال: إسناده صحيح) فيكون أكثر من يخرج إليه النساء، حتى إن الرجل يرجع إلى حميمه وإلى أمه وابنته وأخته وعمته فيوثقها رباطًا؛ مخافة أن تخرج إليه " (صحيح مسلم).
* فتنة الدجال:
فتنة الدجال أعظم الفتن منذ خلق الله آدم إلى قيام السَّاعة، وذلك بسبب ما يخلق الله معه من الخوارق العظيمة التي تبهر العقول، وتحير الألباب.
فقد ورد أن معه جنة ونارًا، وجنته نار، وناره جنة، وأن معه أنهار الماء، وجبال الخبز، ويأمر السماء أن تمطر فتمطر، والأرض أن تنبت فتنبت، وتتبعه كنوز الأرض، ويقطع الأرض بسرعة عظيمة؛ كسرعة الغيث استدبرته الريح... إلى غير ذلك من الخوارق.
وكل ذلك جاءت به الأحاديث الصحيحة:
فمنها ما رواه الإمام مسلم عن حذيفة رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الدَّجَّال أعور العين اليسرى، جفال الشعر، معه جنة ونار، فناره جنة، وجنته نار ".
ولمسلم أيضًا عن حذيفة رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لأنا أعلم بما مع الدَّجَّال منه، معه نهران يجريان، أحد هما رأي العين ماء أبيض، والآخر رأي العين نار تأجج، فإما أدركن أحد؛ فليأت النهر الذي يراه نارًا، وليغمض، ثم ليطأضئ رأسه، فيشرب منه؛ فإنه ماء بارد " (صحيح مسلم).
وجاء في حديث النواس بن سمعان رضى الله عنه في ذكر الدَّجَّال أن الصحابة قالوا: يا رسول الله ! وما لبثه في الأرض؟ قال: " أربعون يومًا: يوم كسنة، ويوم كشهر، ويوم كجمعة، وسائر أيامه كأيامكم " قالوا: وما إسراعه فيث الأرض؟ قال: " كالغيث إذا استدبرته الريح، فيأتي على القوم، فيدعوهم، فيؤمنون به، ويستجيبون له، فيأمر السماء فتمطر، والأرض فتنبت، فتروح عليهم سارحتهم (هي الماشية) أطول ما كانت ذرً ا (هي الأعالي والأسمنة) وأسبغه (أي: أطوله لكثرة اللبن،انظر: شرح النووي لمسلم) ضروعًا، وأمده خواصر، ثم يأتي القوم، فيدعوهم، فيردون عليه قوله، فينصرف عنهم، فيصبحون ممحلين ليس بأيديهم شيء من أموالهم، ويمر بالخربة، فيقول لها: أخرجي كنوزك، فتتبعه كنوزها كيعاسيب النحل (ذكور النحل) ثم يدعو رجلًا ممتلئًا شبابًا، فيضربه بالسيف، فيقطعه جزلتين رمية الغرض، ثم يدعوه، فيقبل ويتهلل وجهه يضحك " (صحيح مسلم).
وجاء في رواية البخاري عن أبي سعيد الخدري رضى الله عنه أن هذا الرجل الذي يقتله الدَّجَّال من خيار الناس، أوخير الناس؛ يخرج إلى الدَّجَّال من مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقول للدجال: " أشهد أنك الدَّجَّال الذي حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثه، فيقول الدَّجَّال: أرأيتم إن قتلت هذا ثم أحييته؛ هل تشكون في الأمر؟ فيقولون: لا، فيقتله، ثم يحييه، فيقول (أي: الرجل): والله ما كنت فيك أشد بصيرة مني اليوم، فيريد الدَّجَّال أن يقتله، فلا يسلط عليه " (صحيح البخاري).
وسبق ذكر رواية ابن ماجه عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه... (وفيها قول النبي صلى الله عليه وسلم في الدَّجَّال): " إن من فتنته أن يقول للأعرابي: أرأيت إن بعثت لك أباك وأمك؛ أتشهد أني ربك؟ فيقول: نعم، فيتمثل له شيطانان في صورة أبيه وأمه، فيقولان: يا بني ! اتبعه؛ فإنه ربك " (صحيح الجامع الصغير).
نسأل الله العافية، ونعوذ به من الفتن.
* الوقاية من فتنة الدَّجَّال:
أرشد النبي صلى الله عليه وسلم أمته إلى ما يعصمها من فتنة المسيح الدَّجَّال، فقد ترك أمته على المحجة البيضاء؛ ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك، فلم يدع صلى الله عليه وسلم خيرًا إلا دل أمته عليه، ولا شرًا إلا حذرها منه، ومن جملة ما حذر منه فتنة المسيح الدَّجَّال؛ لأنها أعظم فتنة تواجهها الأمة إلى قيام السَّاعة، وكان كل نبي ينذر أمته الأعور الدَّجَّال، واختص محمد صلى الله عليه وسلم بزيادة التحذير والإنذار، وقد بين الله له كثيرًا من صفات الدَّجَّال؛ ليحذر أمته؛ فإنه خارج في هذه الأمة لا محالة؛ لأنها آخر الأمم، ومحمد صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين.
وهذه بعض الإرشادات النبوية التي أرشد إليها المصطفى صلى الله عليه وسلم أمته؛ لتنجو من هذه الفتنة العظيمة التي نسأل الله العظيم أن يعافينا ويعيذنا منها:
1- التمسك بالإسلام، والتسلح بسلاح الإيمان، ومعرفة أسماء الله ليس بأعور، وأنه لا أحد يرى ربه حتى يموت، والدَّجَّال يراه الناس عند خروجه؛ مؤمنهم وكافرهم.
2- التعوذ من فتنة الدَّجَّال، وخاصة في الصلاة، وقد وردت بذلك الأحاديث الصحيحة.
فمنها ما رواه الشيخان والنسائي عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدعو في الصلاة: اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر وأعوذ بك من فتنة المسيح الدَّجَّال..الحديث ".
وروى البخاري عن مصعب (هو مصعب بن سعد بن أبي وقاص) قال: كان سعد يأمر بخمس ويذكرهن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يأمر بهن... (منها): " وأعوذ بك من فتنة الدُّنيا (يعني: فتنة الدَّجَّال) " (صحيح البخاري).
" وفي إطلاق الدُّنيا على الدَّجَّال إشارة إلى أن فتنة الدَّجَّال أعظم الفتن الواقعة في الدُّنيا " (فتح الباري).
وروى مسلم عن أبي هريرة رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا تشهد أحدكم؛ فليستعذ بالله من أربع؛ يقول: اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن شر فتنة المسيح الدَّجَّال " (صحيح مسلم).
وكان الإمام طاوس يأمر ابنه بإعادة الصلاة إذا لم يقرأ بهذا الدعاء في صلاته (انظر: صحيح مسلم).
وهذا دليل على حرص السلف على تعليم أبنائهم هذا الدعاء العظيم.
3- حفظ آيات من سورة الكهف، فقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقراءة فواتح سورة الكهف على الدَّجَّال، وفي بعض الروايات خواتيمها، وذلك بقراءة عشر آيات من أولها أو آخرها.
ومن الأحاديث الواردة في ذلك ما رواه مسلم من حديث النواس بن سمعان الطويل... (وفيه قوله صلى الله عليه وسلم): " من أدركه منكم؛ فليقرأ عليه فواتح سورة الكهف " (صحيح مسلم).
وروى مسلم أيضًا عن أبي الدرداء رضى الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف؛ عصم من الدَّجَّال " أي: من فتنته.
قال مسلم: " قال شعبة: من آخر الكهف، وقال همام: من أول الكهف (صحيح مسلم).
قال النووي: " سبب ذلك ما في أولها من العجائب والآيات، فمن تدبرها؛ لم يفتتن بالدَّجَّال، وكذلك آخرها قوله تعالى: " أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا " [الكهف: 102] " (شرح النووي لمسلم).
وهذا من خصوصيات سورة الكهف، فقد جاءت الأحاديث بالحث على قراءتها، وخاصة في يوم الجمعة.
روى الحاكم عن أبي سعيد الخدري رضى الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن من قرأ سورة الكهف يوم الجمعة؛ أضاء له من النور ما بين الجمعتين " (صحيح الجامع الصغير).
ولا شك أن سورة الكهف لها شأن عظيم، ففيها من الآيات الباهرات؛ كقصة أصحاب الكهف، وقصة موسى مع الخضر، وقصة ذي القرنين، وبناءه للسد العظيم حائلًا دون يأجوج ومأجوج، وإثبات البعث والنشور والنفخ في الصور، وبيان الأخسرين أعمالًا وهم الذين يحسبون أنهم على الهدى وهم على الضلالة والعمى.
فينبغي لكل مسلم أن يحرص على قراءة هذه السورة، وحفظها، وترديدها، وخاصة في خير يوم طلعت عليه الشمس، وهو يوم الجمعة.
4- الفرار من الدَّجَّال، والابتعاد منه، والأفضل سكنى مكة والمدينة، فقد سبق أن الدَّجَّال لا يدخل الحرمين، فينبغي للمسلم إذا خرج الدَّجَّال أن يبتعد منه، وذلك لما معه من الشبهات والخوارق العظيمة التي يجريها الله على يديه فتنة للناس؛ فإنه يأتيه الرجل وهو يظن في نفسه الإيمان والثبات، فيتبع الدَّجَّال، نسأل الله أن يعيذنا من فتنته وجميع المسلمين.
روى الإمام أحمد وأبو داود والحاكم عن أبي الدهماء قال: سمعت عمران بن حصين يحدث؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من سمع بالدَّجَّال؛ فلينأ عنه، فوالله إن الرجل ليأتيه وهو يحسب أنه مؤمن، فيتبعه مما يبعث به من الشبهات، أو لما يبعث به من الشبهات " (صحيح الجامع الصغير).
* ذكر الدَّجَّال في القرآن:
تساءل العلماء عن الحكمة في عدم التصريح بذكر الدَّجَّال في القرآن مع عظم فتنته، وتحذير الأنبياء منه، والأمر بالاستعاذة من فتنته في الصلاة، وأجابوا عن ذلك بأجوبة؛ منها:
1- أنه مذكور ضمن الآيات التي ذكرت في قوله تعالى: " يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا " [الأنعام: 158].
وهذه الآيات هي: الدَّجَّال، وطلوع الشمس من مغربها، والدابة، وهي المذكورة في تفسير هذه الآية.
فقد روى مسلم والترمذي عن أبي هريرة رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ثلاث إذا خرجن لاينفع نفسًا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرًا: طلوع الشمس من مغربها، والدَّجَّال، ودابة الأرض " (صحيح مسلم).
2- أن القرآن ذكر نزول عيسى عليه السلام، وعيسى هو الذي يقتل الدَّجَّال، فاكتفى بذكر مسيح الهدى عن ذكر مسيح الضلالة، وعادة العرب أنها تكتفي بذكر أحد الضدين دون الآخر.
3- أنه مذكور في قوله تعالى: " لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ " [غافر: 57]، وإن المقصود بالناس هنا الدَّجَّال؛ من إطلاق الكل على البعض.
قال أبو العالية: " أي: أعظم من خلق الدَّجَّال حين عظمته اليهود " (تفسير القرطبي).
قال ابن حجر: " وهذا – إن ثبت – أحسن الأجوبة، فيكون من جملة، ما تكفل النبي صلى الله عليه وسلم ببيانه، والعلم عند الله " (فتح الباري).
4- أن القرآن لم يذكر الدَّجَّال احتقارًا لشأنه؛ لأنه يدعي الربوبية وهو بشر ينافي حاله جلال الرب وعظمته وكماله وكبريائه وتنزه عن النقص، فلذلك كان أمره عند الله أحقر وأصغر من أن يذكر، ومع هذا حذرت الأنبياء منه، وبيَّنتُ خطره وفتنته، كما سبق أن كل نبي أنذر أمته منه، وحذرها من فتنته.
فإن اعترض بأن القرآن ذكر فرعون وهو قد ادعى الربوبية والألوهية، فيقال: إن أمر فرعون انقضى وانتهى، وذكر عبرة للناس وعظمة، وأما أمر الدَّجَّال؛ فسيحدث في آخر الزمان، فترك ذكره امتحانًا به، مع أن ادعاءه الربوبية أظهر من أن ينبه على بطلانه؛ لأن الدَّجَّال ظاهر النقص، واضح الذم، أحقر وأصغر من المقام الذي يدعيه، فترك الله ذكره، لما يعلم تعالى من عباده المؤمنين؛ أن مثل هذا لا يخيفهم ولا يزيدهم إلا إيمانًا وتسليمًا لله ورسوله؛ كما يقول الشاب الذي يقتله الدَّجَّال ويجيبه: " والله ما كنت فيك أشد بصيرة مني اليوم " (صحيح البخاري).
وقد يترك ذكر الشيء لوضوحه؛ كما ترك النبي صلى الله عليه وسلم في مرض موته أن يكتب كتابًا بخلافة الصديق رضى الله عنه لوضوحه، وذلك لعظم قدر أبي بكر عند الصحابة رضى الله عنهم، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: " يأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر " (صحيح مسلم).
وذكر ابن حجر رحمه الله أن السؤال عن عدم ذكر الدَّجَّال في القرآن لا يزال واردًا؛ لأن الله تعالى ذكر يأجوج ومأجوج في القرآن، وفتنتهم قريقبة من فتنة الدَّجَّال (فتح الباري).
هذا؛ ولعل الجواب الأول هو الأقرب، والله أعلم، فيكون الدَّجَّال قد ذكر ضمن بعض الآيات، ويكون النبي صلى الله عليه وسلم تكفل ببيان ذلك المجمل.
* هلاك الدَّجَّال:
يكون هلاك الدَّجَّال على يدي المسيح عيسى بن مريم عليه السلام؛ كما دلَّت على ذلك الأحاديث الصحيحة، وذلك أن الدَّجَّال يظهر على الأرض كلها إلا مكة والمدينة، ويكثر أتباعه، وتعم فتنته، ولا ينجو منها إلا قلة من المؤمنين، وعند ذلك ينزل عيسى بن مريم على المنارة الشرقية بدمشق، ويلتف حوله عباد الله المؤ منون، فيسير بهم قاصدًا المسيح الدَّجَّال، ويكون الدَّجَّال عند نزول عيسى متوجهًا نحوم بيتع المقدس، فيلحق به عيسى عند باب (لد) (بلدة في فلسطين قرب بيت المقدس) فإذا رآه الدَّجَّال؛ ذاب كما يذوب الملح، فيقول له عليه السلام: " إن لي فيك ضربة لن تفوتني " فيتداركه عيسى، فيقتله بحربته، وينهزم أتباعه، فيتبعهم المؤمنون، فيقتلونهم، حتى يقول الشجر والحجر: يا مسلم ! يا عبد الله ! هذا يهودي خلفي، تعال فاقتله؛ إلا الغرقد؛ فإنه من شجر اليهود (انظر: " النهاية).
وإليك بعض الأحاديث الواردة في هلاك الدَّجَّال وأتباعه:
روى مسلم عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يخرج الدَّجَّال في أمتي... (فذكر الحديث، وفيه): فيبعث الله عيسى بن مريم كأنه عروة بن مسعود، فيطلبه، فيهلكه " (صحيح مسلم).
وروى الإمام أحمد والترمذي عن مجمع بن جارية الأنصاري رضى الله عنه يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " يقتل ابن مريم الدَّجَّال بباب لد " (الفتح الرباني تر تيب مسند أحمد، والترمزى- مع تحفة الأحوذي).
وروى مسلم عن النواس بن سمعان رضى الله عنه حديثًا طويلًا عن الدَّجَّال... (وفيه قصة نزول عيسى وقتله للدجال، وفيه قوله صلى الله عليه وسلم): " فلا يحل لكافر يجد ريح نفسه إلا مات، ونفسه ينتهي حيث ينتهي طرفه، فيطلبه، حتى يدركه بباب لد، فيقتله " (صحيح مسلم).
وروى الإمام أحمد عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يخرج الدَّجَّال في خفقة من الدين وإدبار من العلم... (فذكر الحديث، وفيه): ثم ينزل عيسى بن مريم، فينادي من السحر، فيقول: أيها الناس ! ما يمنعكم أن تخرجوا إلى الكذاب الخبيث. فيقولون: هذا رجل جني. فينطلقون، فإذ هم بعيسى بن مريم عليه السلام، فتقام الصلاة، فيقال له: تقدم يا روح الله ! فيقول: ليتقدم إمامكم، فليصل بكم، فإذا صلى صلاة الصبح؛ خرجوا إليه، قال: فحين يرى الكذاب ينماث (ماص الشيء ميثًا أي: مرسه وماث الملح في الماء؛ أي: أذابه) كما ينماث الملح في الماء، فيمشي إليه، فيقتله، حتى إن الشجر والحجر ينادي: يا روح الله ! هذا يهودي، فلا يترك ممن كان يتبعه أحدًا إلا قتله " (الفتح الرباني ترتيب مسند أحمد.قال الهيثمي: رواه أحمد بإسنادين رجال أحدهما رجال الصحيح. انظر: مجمع الزوائد).
وبقتله – لعنه الله – تنتهي فتنته العظيمة، وينجي الله الذين آمنوا من شره وشر أتباعه على يدي روح الله وكلمته عيسى بن مريم عليه السلام وأتباعه المؤمنين، ولله الحمد والمنة.
مختارات