تابع " من أشراط السَّاعة الكبرى : المسيح الدَّجاَّل "
تابع " من أشراط السَّاعة الكبرى: المسيح الدَّجاَّل "
* هل الدجال حي؟ وهل كان موجودًا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم؟
وقبل الجواب عن هذين السؤالين لا بد من معرفة حال ابن صياد؛ هل هو الدجال أو غيره؟
وإذا كان الدجال غير ابن صياد؛ فهل هو موجود قبل أن يظهر بفتنته أو لا؟
وقبل الإجابة عن هذه الأسئلة نعرف بابن صياد:
* ابن صياد:
اسمه هو صافي – وقيل: عبد الله – بن صياد أو صائد (انظر: " فتح الباري).
كان من يهود المدينة، وقيل: من الأنصار، وكان صغيرًا عند قدوم النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة.
وذكر ابن كثير أنه أسلم، وكان ابنه عمارة من سادات التابعين، روى عنه الإمام مالك وغيره (انظر: " النهاية/ الفتن والملاحم).
وترجم له الذهبي في كتابه " تجريد أسماء الصحابة " فقال: " عبد الله بن صياد، أورده ابن شاهين وقال: هو ابن صائد، كان أبوه يهوديًا، فولد عبد الله أعور مختونًا، وهو الذي قيل: إنه الدجال، ثم أسلم، فهو تابعي، له رؤية " (تجريد أسماء الصحابة).
وترجم له الحافظ ابن حجر في " الإصابة " فذكر ما قاله الذهبي، ثم قال: " ومن ولده عمارة بن عبد الله بن صياد، وكان من خيار المسلمين، من أصحاب سعيد بن المسيب، روى عنه مالك وغيره ".
ثم ذكر جملة من الأحاديث في شأن ابن صياد؛ كما سيأتي ذكرها فيما بعد.
ثم قال: " وفي الجملة لا معنى لذكر ابن صياد في الصحابة؛ لأنه إن كان الدجال؛ فليس بصحابي قطعًا؛ لأنه يموت كافرًا، وإن كان غيره؛ فهو حال لقيه النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن مسلمًا " (تهذيب التهذيب).
لكن إن أسلم بعد ذلك؛ فهو تابعي له رؤية؛ كما قال الذهبي.
* أحواله:
كان ابن صياد دجالًا، وكان يتكهن أحيانًا فيصدق ويكذب، فانتشر خبره بين الناس، وشاع أنه الدجال؛ كما سيأتي في ذكر امتحان النبي صلى الله عليه وسلم له.
* امتحان النبي صلى الله عليه وسلم له:
لما شاع بين الناس أمر ابن صياد، وأنه هو الدجال؛ أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يطلع على أمره، ويتبين حاله، فكان يذهب إليه مختفيًا حتى لا يشعر به ابن صياد؛ رجاء أن يسمع منه شيئًا، وكان يوجه إليه بعض الأسئلة التي تكشف عن حقيقته.
ففي الحديث عن ابن عمر رضي الله عنهما؛ أن عمر انطلق مع النبي صلى الله عليه وسلم في رقط قبل ابن صياد، حتى وجدوه يلعب مع الصبيان عند أطم (بناء مرتفع كالحصن) بن مغالة (بطن من الأنصار) وقد قارب ابن صياد الحلم، فلم يشعر حتى ضرب النبي صلى الله عليه وسلم بيده، ثم قال لابن صياد: " أتشهد أني رسول الله؟ " فنظر إليه ابن صياد، فقال: أشهد أنك رسول الأميين، فقال ابن صياد للنبي صلى الله عليه وسلم: أتشهد أني رسول الله؟ فرفضه، وقال: " آمنت بالله وبرسله " فقال له: " ما ترى؟ " قال ابن صياد: يأتيني صادق وكاذب، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " خلط عليك الأمر " ثم قال له النبي صلى الله عليه وسلم: " إني خبأت لك خبيئًا؟ " فقال ابن صياد: هو الدخ (يريد الدخان لكنه قطمها على طريقة الكهان) فقال: " اخسأ فلن تعدو قدرك " فقال عمر رضى الله عنه: دعني يا رسول الله أضرب عنقه. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " إن يكنه؛ فلن تسلط عليه، وإن لم يكنه؛ فلا خير لك في قتله " (صحيح البخاري).
وفي رواية أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: " ما ترى؟ " قال: أرى عرشًا على الماء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ترى عرش إبليس على البحر، وما ترى؟ " قال: أرى صادقين وكاذبًا، أو كاذبين وصادقًا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لبس عليه، دعوه " (صحيح مسلم).
وقال ابن عمر رضي الله عنهما: انطلق بعد ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بن كعب إلى النخل التي فيها ابن صياد، وهو يختل أن يسمع من ابن صياد شيئًا قبل أن يراه ابن صياد، فرآه النبي صلى الله عليه وسلم وهو مضطجع – يعني: في قطيفة له فيها رمزة أو زمرة - فرأت أم ابن صياد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يتقي بجذوع النخل، فقالت لابن صياد: يا صاف – وهو اسم ابن صياد -! هذا محمد صلى الله عليه وسلم، فثار ابن صياد، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " لو تركته بين " (صحيح البخاري).
وقال أبو ذر رضى الله عنه: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثني إلى أمه؛ قال: " سلها كم حملت به؟ " فأتيتها، فسألتها، فقالت: حملت به اثني عشر شهرًا. قال: ثم أرسلني إليها، فقال: " سلها عن صيحته حين وقع؟ " قال: فرجعت إليها، فسألتها، فقال: صاح صيحة الصبي ابن شهر، ثم قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إني قد خبأت لك خبئًا " قال: خبأت لي خطم شاة عفراء والدُّخان، قال: فأراد أن يقول الدُّخان، فلم يستطع فقال: الدخ، الدخ (مسند أحمد، بهامشه منتخب الكنز) قال ابن حجر في سنده: " صحيح ". فتح الباري).
فامتحان النبي صلى الله عليه وسلم له بـ(الدُّخان) ليتعرف على حقيقة أمره.
والمراد بالدُّخان هنا قوله تعالى: " فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ (10) " [الدُّخان: 10] فقد وقع في رواية ابن عمر عند الإمام أحمد: " إني قد خبأت لك خبيئًا، وخبأ له: " يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ " (مسند أحمد " تحقيق أحمد شاكر، وقال: " إسناده صحيح).
قال ابن كثير: " إن ابن صياد كاشف على طريقة الكهان، بلسان الجان، وهم يقرطو – أي: يقطعون – العبارة، ولهذا قال: هو الدخ؛ يعني: الدُّخان، فعندها عرف رسول الله صلى الله عليه وسلم مادته، وأنها شيطانية، فقال له: (اخسأ؛ فلن تعدو قدرك) " (تفسير ابن كثير).
* وفاته:
عن جابر رضى الله عنه قال: " فقدنا ابن صياد يوم الحرة " (سنن أبي داود – مع عون المعبود).
وقد صحح ابن حجر هذه الرواية، وضعف قول من ذهب إلى أنه مات في المدينة، وأنه كشفوا عن وجهه، وصلوا عليه (انظر: " فتح الباري).
* هل ابن صيَّاد هو الدَّجَّال الأكبر؟
مضى في الكلام على أحوال ابن صياد وامتحان النبي صلى الله عليه وسلم له ما يدلُّ على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان متوقفًا في أمر ابن صياد؛ لأنه لم يوح إليه أنه الدجال ولا غيره.
وكان عمر رضى الله عنه يحلف عند النبي صلى الله عليه وسلم أن ابن صياد هو الدجال، ولم ينكر عليه ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكان بعض الصحابة رضى الله عنه يرى رأي عمر، ويحلف أن ابن صياد هو الدجال؛ كما ثبت ذلك عن جابر، وابن عمر، وأبي ذر.
ففي الحديث عن محمدبن المنكدر قال: " رأيت جابر بن عبد الله يحلف بالله إن ابن صياد هو الدجال، قلت: تحلف بالله، قال: إني سمعت عمر يحلف على ذلك عند النبي صلى الله عليه وسلم، فلم ينكره النبي صلى الله عليه وسلم " (صحيح البخاري وصحيح مسلم).
وعن نافع قال: " كان ابن عمر يقول: والله ما أشك أن المسيح الدجال ابن صياد " (سنن أبي داود.قال ابن حجر: " سنده صحيح ". " فتح الباري).
وعن زيد بن وهب قال: " قال أبو ذر رضى الله عنه: لأن أحلف عشر مرات أن ابن صائد هو الدجال أحب إلي من أن أحلف مرة واحدة أنه ليس به " (رواه الإمام أحمد).
وعن ناف؛ قال: لقي ابن عمر ابن صائد في بعض طرق المدينة، فقال له قولًا أغضبه، فانتفخ حتى ملأ السكة، فدخل ابن عمر على حفصة وقد بلغها، فقالت له: رحمك الله ! ما أردت ن ابن صائد؟! أما علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إنما يخرج من غضبةٍ يغضبها " (صحيح مسلم) ؟!
وفي رواية عن نافع قال: قال ابن عمر: لقيته مرتين؛ قال: فلقيته، فقلت لعضهم: هل تحدثون أنه هو؟ قال: لا والله، قال: قلت: كذبتني، والله لقد أخبرني بعضكم أنه لن يموت حتى يكون أكثركم مالًا وولدًا، فكذلك هو زعموا اليوم، قال: فتحدثنا، ثم فارقته، قال: فلقيته مرة أخرى وقد نفرت عينيه، قال: فقلت: متى فعلت عينك ما أرى؟ قال: لا أدري، قلت: لا تدري وهي في رأسك؟! قال: إن شاء الله خلقها في عصاك هذه،قال: فنخر كأشد نخير حار سمعت، قال: فزعم بعض أصحابي أني ضربته بعصا كانت معي حتى تكسرت، وأما أنا فوالله ما شعرت، قال: وجاء حتى دخل على أم المؤمنين، فحدثها، فقالت: ما تريد إليه؟! ألم تعلم أنه قد قال: " إن أول ما يبعثه على الناس غضب يغضبه " (صحيح مسلم).
وكان ابن صياد يسمع ما يقوله الناس فيه، فيتأذى من ذلك كثيرًا، ويدافع عن نفسه بأنه ليس الدجال، ويحتج على ذلك بأن ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم من صفات الدجال لا تنطبق عليه.
ففي الحديث عن أبي سعيد الخدري رضى الله عنه قال: " خرجنا حجاجًا أو عمارًا ومعنا ابن صائد، قال: فنزلنا منزلًا، فتفرق الناس، وبقيت أنا وهو، فاستوحشت منه وحشة شديدة مما يقال عليه، قال: وجاء بمتاعه، فوضعه مع متاعي، فقلت: إن الحر شديد، فلو وضعته تحت تلك الشجرة، قال: ففعل، قال: فرفعت لنا غنم، فانطلق، فجاء بعس (وهو القدح الكبير) فقال: اشرب أبا سعيد ! فقلت: إن الحر شديد، واللبن حار، ما بي إلا أني أكره أن أشرب عن يده، أو قال: آخذ عن يده، فقال: أبا سعيد ! لقد هممت أن آخذ حبلًا، فأعلقه بشجرة، ثم أختنق مما يقول لي الناس، يا أبا سعيد ! من خفي عليه حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ما خفي عليكم معشر الأنصار، ألست من أعلم الناس بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أليس قد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هو كافر، وأنا مسلم؟ أوليس قد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هو عقيم لا يولد لهـ وقد تركت ولدي بالمدينة؟ أو ليس قد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يدخل المدينة ولا مكة، وقد أقبلت من المدينة، وأنا أريد مكة؟ قال أبو سعيد الخدري: حتى كدت أن أعذره، ثم قال: أما والله إني لأعرفه وأعرف مولده، وأين هو الآن، قال: قلت له: تبًا لك سائر اليوم " (صحيح مسلم).
وقال ابن صياد في رواية: " أما والله إني لأعلم الآن حيث هو، وأعرف أباه وأمه، قال: وقيل له: أيسرك أنك ذاك الرجل؟ فقال: لو عرض على ما كرهت " (صحيح مسلم).
وهناك بعض الروايات التي جاءت في شأن ابن صياد، تركت ذكرها هنا خشية الإطالة، ولأن بعض المحققين كابن كثير وابن حجر وغيرهما ردوها لضعف أسانيدها (انظر: النهاية).
وقد التبس على العلماء ما جاء في ابن صياد، وأشكل عليهم أمره:
فمن قائل: إنه الدجال، ويحتج على ذلك بما سبق ذكره من حلف بعض الصحابة رضى اله عنهم على أنه الدجال، وبما كان من أمره مع ابن عمر وأبي سعيد رضى الله عنم.
وذهب بعض العلماء إلى أن ابن صياد ليس هو الدجال، ويحتج على ذلك بحديث تميم الداري رضى الله عنه، وقبل أن أسوق أقوال الفريقين أذكر حديث تميم بطوله:
روى الإمام مسلم بسنده إلى عامر بن شراحيل الشعبي - شعب همدان – أنه سأل فاطمة بنت قيس أخت الضحاك بن قيس- وكانت من المهاجرات الأول – فقال: حدثيني حديثًا سمعتيه من رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تستنديه إلى أحد غيره، فقالت: لئن شئت لأفعلن، فقال لها: أجل؛ حدثيني، فذكرت قصة تأيمها من زوجها، واعتدادها عند ابن أم مكتوم، ثم قالت: فلما انقضت عدتي؛ سمعت نداء المنادي منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم ينادي: الصلاة جامعة، فخرجت إلى المسجد، فصليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكنت في صف النساء التي تلي ظهور القوم، فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاته؛ جلس على المنبر وهو يضحك، فقال: " ليلزم كل إنسان مصلاة "، ثم قال: " أتدرون لم جمعتكم؟ " قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: " إني والله ما جمعتكم لرغبة ولا رهبة ولكن جمعتكم لأن تميمًا الداريكان رجلًا نصرانيًا، فجاء، فبايع، وأسلم، وحدثني أنه ركب في سفينة بحرية مع ثلاثين رجلًا من لخم وجذام، فلعب بهم الموج شهرًا في البحر، ثم أرفؤوا (أرفأت السفينة إذا قربتها من الشط، والموضع الذي تشد فيه: المرفأ) إلى جزيرة في البحر، حتى مغرب الشمس، فجلسوا في أقرب (سفن صغار تكون مع السفن الكبار السفينة، فدخلوا الجزيرة، فلقيتهم دابة أهلب كثير الشعر، لا يدرون ما قبله من دبره من كثرة الشعر، فقالوا: ويلك ما أنت؟ فقالت: أنا الجساسة، قالوا: وما الجساسة؟ قالت: أيها القوم ! انطلقوا إلى هذا الرجل في الدير فإنه إلى خبركم بالأشواق، قال: لما سمت لنا رجلًا؛ فرقنا منها أن تكون شيطانة، قال: فانطلقنا سراعًا حتى دخلنا الدير، فإذا فيه أعظم إنسان رأيناه قط خلقًا، وأشده وثاقًا، مجموعة يداه إلى عنقه، ما بين ركبتيه إلى كعبيه بالحديد؛ قلنا: ويلك ما أنت؟ قال: قد قدرتم على خبري، فأخبروني ما أنتم؟ قالوا: نحن أناس من العرب، ركبنا في سفينة بحرية، فصادفنا البحر حين اغتلم (أي: هاج واضطرمت أمواجه) فلعب بنا الموج شهرًا، ثم أرفأنا إلى جزيرتك هذه فجلسنا في أقربها، فدخلنا الجزيرة، فلقينا دابة أهلب كثير الشعر لا يدرى ما قبله من دبره من كثرة الشعر، فقلنا: ويلك ما أنت؟ فقالت: أنا الجساسة، قلنا: وما الجساسة؟ قالت: اعمدوا إلى هذا الرجل في الدير؛ فإنه إلى خبركم بالأشواق، فأقبلنا إليك سراعًا، وفزعنا منها، ولم نأمن أن تكون شيطانة، قال: أخبروني عن نخل بيسان (مدينة بالأردن بالغور الشامي) ؟ قلنا: عن أي شأنها تستخبر؟ قال: أسألكم عن نخلها: هل يثمر؟ قلنا له: نعم، قال: أما إنه يوشك أن لا تثمر، قال: أخبروني عن بحيرة طبرية؟ قلنا: عن أي شأنها تستخبر؟ قال: هل فيها ماء؟ قالوا: هي كثيرة الماء، قال: إن ماءها يوشك أن يذهب، قال: أخبروني عن عين زغر؟ قالوا: عن أي شأنها تستخبر؟ قال: هل في العين ماء؟ وهل يزرع أهلها بماء العين؟ قلنا له: نعم؛ هي كثيرة الماء، وأهلها يزرعون من مائها،قال: أخبروني عن نبي الأميين؛ ما فعل؟ قالوا: قد خرج من مكة ونزل يثرب، قال: أقاتله العرب؟ قلنا: نعم، قال: كيف صنع بهم؟ فأخبرناه أنه قد ظهر على من يليه من العرب وأطاعوه، قال لهم: قد كان ذلك؟ قلنا: نعم، قال: أما إن ذاك خير لهم أن يطيعوه، وإني مخبركم عني: إني أنا المسيح، وإني أوشك أن يؤذن لي في الخروج فأخرج، فأسير في الأرض، فلا أدع قرية إلا هبطتها في أربعين ليلة؛ غير مكة وطيبة، فهما محرمتان علي كلتاهما، كلما أردت أن أدخل واحدة – أو واحدًا- منهما؛ استقبلني ملك بيده السيف صلتًا يصدني عنها، وإن على كل نقب (هو الطريق بين الجبلين) منها ملائكة يحرسونها ".
قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم – وطعن بمخصرته (هي ما يختصره الإنسان بيده، فيمسكه من عصا أو عكازة أو مقرعة أو قضيب، وقد يتكئ عليه) في المنبر -: " هذه طيبة، هذه طيبة، هذه طيبة، يعني: المدينة - ألا هل كنت حدثتكم ذلك؟ " فقال الناس: نعم " فإنه أعجبني حديث تميم أنه وافق الذي كنت أحدثكم عنه، وعن المدينة ومكة، ألا إنه في بحر الشام، أو بحر اليمن، لا بل من قبل المشرق ما هو، من قبل المشرق ما هو، من قبل المشرق ما هو، وأومأ بيده إلى المشرق " قالت: فحفظت هذه من رسول الله صلى الله عليه وسلم (صحيح مسلم).
قال ابن حجر: " وقد توهم بعضهم أنه – أي: حديث فاطمة بنت قيس – غريب فرد، وليس كذلك، فقد رواه مع فاطمة بنت قيس: أبو هريرة، وعائشة، وجابر " (فتح الباري) رضى الله عنهم.
* أقوال العلماء في ابن صيَّاد:
قال أبو عبد الله القرطبي: " الصحيح أن ابن صياد هو الدجال؛ بدلالة ما تقدم، وما يبعد أن يكون بالجزيرة في ذلك الوقت، ويكون بين أظهر الصحابة في وقت آخر (التذكرة).
وقال النووي: " قال العلماء: وقصته مشكلة، وأمره مشتبه في أنه هل هو المسيح الدجال المشهور أم غيره، ولا شك في أنه دجال من الدجاجلة.
قال العلماء: وظاهر الأحاديث أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يوح إليه بأنه المسيح الدجال ولا غيره، وإنما أوحي إليه بصفات الدجال، وكان فيث ابن صياد قرائن محتملة، فلذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يقطع بأنه الدجال ولا غيره، ولهذا قال لعمر رضى الله عنه: " إن يكن هو؛ فلن تستطيع قتله ".
وأما احتجاجه هو بأنه مسلم والدجال كافر، وبأنه لا يولد للدجال وقد ولد له هو، وأنه لا يدخل مكة والمدينة وأن ابن صياد دخل المدينة وهو متوجه إلى مكة؛ فلا دلالة له فيه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أخبر عن صفاته وقت فتنته وخروجه في الأرض.
ومن اشتباه قصته وكونه أحد الدجاجلة الكاذبين قوله للنبي صلى الله عليه وسلم: أتشهد أني رسول الله؟! ودعواه أنه يأتيه صادق وكاذب، وأنه يرى عرشًا فوق الماء، وأنه لا يكره أن يكون هو الدجال، وأنه يعرف موضعه، وقوله: إني لأعرفه وأعرف مولده وأين هو الآن، وانتفاخ حتى ملأ السكة.
وأما إظهاره الإسلام، وحجه، وجهاده، وإقلاعه عما كان عليه؛ فليس بصريح في أنه غير الدجال " (شرح النووي لمسلم).
وكلام النووي هذا يفهم منه أنه يرجح كون ابن صياد هو الدجال.
وقال الشوكاني: " اختلف الناس في أمر ابن صياد اختلافًا شديدًا، وأشكل أمره، حتى قيل فيه كل قول، وظاهر الحديث المذكور أن النبي شرح النووي لمسلم كان مترددًا في كونه الدجال أم لا؟...
وقد أجيب عن التردد منه شرح النووي لمسلم بجوابين:
الأول: أنه تردد شرح النووي لمسلم قبل أن يعلمه الله بأنه هو الدجال، فلما أعلمه؛ لم ينكر على عمر حلفه.
الثاني: أن العرب قد تخرج الكلام مخرج الشك، وإن لم يكن في الخبر شك.
ومما يدلُّ على أنه هو الدجال ما أخرجه عبد الرزاق بإسناد صحيح عن ابن عمر قال: " لقيت ابن صياد يومًا – ومعه رجل من اليهود – فإذا عينه قد طفت وهي خارجة مثل عين الحمار، فلما رأيتها؛ قلت: أنشدك الله يا ابن صياد ! متى طفت عينك؟ قال: لا أدري والرحمن، قلت: كذبت وهي في رأسك، قال: فمسحها ونخر ثلاثًا " (نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار " للشوكاني).
وقد سبق ذكر نحو هذه القصة من رواية الإمام مسلم.
والذي يظهر لي من كلام الشوكاني أنه مع القائلين بأن ابن صياد هو الدجال الأكبر.
وقال البيهقي في سياق كلامه على حديث تميم: " فيه أن الدجال الأكبر الذي يخرج في آخر الزمان غير ابن صياد، وكان ابن صياد أحد الدجالين الكذابين الذين أخبر صلى الله عليه وسلم بخروجهم، وقد خرج أكثرهم.
وكأن الذين يجزمون بأن ابن صياد هو الدجال لم يسمعوا بقصة تميم، وإلا؛ فالجمع بينهما بعيد جدًا، إذ كيف يلتئم أن يكون من كان في أثناء الحياة النبوية شبه محتلم، ويجتمع به النبي صلى الله عليه وسلم ويسأله؛ أن يكون في آخرها شيخًا كبيرًا مسجونًا في جزيرة من جزائر البحر، موثقًا بالحديد، يستفهم عن خبر النبي صلى الله عليه وسلم هل خرج أو لا؟! فالأول أن يحمل على عدم الاطلاع.
أما عمر؛ فيحتمل أن يكون ذلك منه قبل أن يسمع قصة تميم، ثم لما سمعها؛ لم يعد إلى الحلف المذكور.
وأما جابر؛ فشهد حلفه عند النبي صلى الله عليه وسلم، فاستصحب ما كان اطلع عليه من عمر بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم " (فتح الباري).
قلت: لكن جابر رضى الله عنه كان من رواة حديث تميم؛ كما جاء في رواية أبي داود، حيث ذكر قصة الجساسة والدجال بنحو قصة تميم، ثم قال ابن أبي سلمة: " إن في هذا الحديث شيئًا ما حفظته؛ قال: شهد جابر أنه هو ابن صائد، قلت: فإنه قد مات، قال: وإن مات، قلت: فإنه قد أسلم، قال: وإن أسلم، قلت: فإنه قد دخل المدينة، قال: وإن دخل المدينة " (سنن أبي داود "، كتاب الملاحم، باب في خبر الجساسة، مع عون المعبود) قال ابن حجر على هذا الحديث: " ا بن أبي سلمة اسمه عمر فيه مقال، ولكن حديثه حسن، ويتعقب به على من زعم أن جابرًا لم يطلع على قصة تميم " فتح الباري).
فجابر رضى الله عنه مصر على أن ابن صيَّاد هو الدجال، وإن قيل: إنه أسلم، ودخل المدينة، ومات.
وقد تقدم أنه صح عن جابر رضى الله عنه أنه قال: " فقدنا ابن صيَّاد يوم الحرة ".
وقال ابن حجر: " أخرج أبو نعيم الأصبهاني في " تاريخ أصبهان " (ذكر أخبار أصبهان لأبي نعيم) ما يؤيد كون ابن صياد هو الدجال، فساق من طريق شبيل بن عرزة عن حسان بن عبد الرحمن عن أبيه؛ قال: لما افتتحنا أصبهان؛ كان بين عسكرنا وبين اليهودية فرسخ، فكنا نأتيها فنختار منها، فأتيتها يومًا، فإذا اليهود يزفنون ويضربون، فسألت صديقًا لم منهم؟ فقال: ملكنا الذي نستفتح به على العرب يدخل، فبت عنده على سطح، فصليت الغداة، فلما طلعت الشمس؛ إذا الرهج من قبل العسكر، فنظرت، فإذا رجل عليه قبة من ريحان، واليهود يزفنون ويضربون، فنظرت، فإذا هو ابن صياد، فدخل المدينة فلم يعد حتى السَّاعة " (فتح الباري).
قال ابن حجر: " ولا يلتئم خبر جاب هذا (أي: فقدهم لابن صياد يوم الحرة) مع خبر حسان بن عبد الرحمن؛ لأن فتح أصبهان كان في خلافة عمر؛ كما أخرجه أبو نعيم في " تاريخها " وبين قتل عمل ووقعة الحرة نحو أربعين سنة.
ويمكن الحمل على أن القصة إنما شاهدها والد حسان بعد فتح أصبهان بهذه المدة، ويكون جواب (لما) في قوله: " لما افتتحنا أصبهان " محذوفًا تقديره: صرت أتعاهدها، وأتردد إليها، فجرت قصة ابن صياد، فلا يتحد زمان فتحها وزمان دخولها ابن صيَّاد " (فتح الباري).
وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية " أمرابن صياد قد أشكل على بعض الصحابة، فظنوه الدجال، وتوقف فيه النبي صلى الله عليه وسلم حتى تبين له فيما بعد أنه ليس هو الدجال، وإنما هو من جنس الكهان أصحاب الأحوال الشيطانية، ولذلك كان يذهب ليختبره (انظر: " الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان).
وقال ابن كثير: والمقصود أن ابن صيَّاد ليس بالدجال الذي يخرج في آخر الزمان فطعًا؛ لحديث فاطمة بنت قيس الفهرية، وهو فيصل في هذا المقام " ([النهاية).
هذه هي طائفة من أقوال العلماء في ابن صياد، وهي – كما ترى - متضاربة في شأن ابن صياد، ومع كل دليله.
ولهذا فقد اجتهد الحافظ انب حجر في التوفيق بين الأحاديث المختلفة، فقال: " أقرب ما يجمع به بين ما تضمنه حديث تميم وكون ابن صياد هو الدجال أن الدجال بعينه هو الذي شاهده تميم موثقًاُ، وأن ابن صياد شيطان تبدى في صورة الدجال في تلك المدة، إلى أن توجه إلى أصبهان، فاستتر مع قرينه، إلى أن تجيء المدة التي قدر الله تعالى خروجه فيها، ولشدة التباس الأمر في ذلك؛ سلك البخاري مسلك الترجيح، فاقتصر على حديث جابر عن عمر في ابن صيَّاد، ولم يخرج حديث فاطمة بنت قيس في قصة تميم " (فتح الباري).
مختارات