" الصلاة صلة حقيقية ومدرسة خلقية "
" الصلاة صلة حقيقية ومدرسة خلقية "
إن الصلاة الخاشعة الخاضعة عبارة عن صلة فريدة وعلاقة حقيقية تقوم بين العبد وربه، يقف العبد فيها بين يدي ربه مكبرا معظما له، يتلو كتابه ويسبحه ويمجده، ويسأله ما شاء من حوائجه الدينية والدنيوية، فهي صلة ومظهر علاقة حقيقية بين الخالق والمخلوق، فالصلاة استجابة لغريزة الافتقار والضعف والدعاء، وغريزة الالتجاء والاعتصام والمناجاة، والاطراح على عتبة القوي الغني الكريم الرحيم السميع المجيب (الأركان الأربعة للندوي).
وقد شرع افتتاح الصلاة بالتكبير، وهو لفظ «الله أكبر» تلك الكلمة البليغة الواضحة، المجلجلة المدوية، القاطعة الفاصلة، التي يخشع أمامها الجبابرة، ويهوي لها كل صنم، فهي شهادة بعظمة الله وكبريائه، وتحطيم للطواغيت والمتجبرين والأدعياء الذين يعتدون على ألوهية الله سبحانه وتعالى، ويريدون أن يغتصبوا سلطانه، فالعبد إذا قال: «الله أكبر» كان الله أكبر عنده من كل شيء (الأركان الأربعة للندوي وفي ظلال القرآن لسيد قطب).
ثم يقرأ المصلي سورة الفاتحة، وفي شأنها قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى: «قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، ولعبدي ما سأل، فإذا قال العبد: " وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ " قال الله تعالى: حمدني عبدي، وإذا قال: " الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ " قال الله تعالى: أثنى علي عبدي، وإذا قال: " مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ " قال: مجدني عبدي، وإذا قال: " إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ " قال: هذا بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل، فإذا قال: " اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ " قال: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل (أخرجه مسلم) ».
فهذا الحديث دليل على أن الله تعالى يستمع لقراءة المصلي حيث كان مناجيا له، ويرد عليه جواب ما يناجيه به كلمة كلمة (فتح الباري) والمراد قسمتها من جهة المعنى؛ لأن نصفها الأول تحميد لله تعالى وتمجيد وثناء عليه وتفويض إليه، والنصف الثاني سؤال وطلب وتضرع وافتقار (شرح مسلم للنووي).
وفي أول آية يقرؤها المصلي وهي: " الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ " يقرر فيها المصلي أن الرب الذي يعبده ويصلي له ليس هو رب أسرة أو قبيلة أو شعب أو بلد، وإنما هو رب العالمين، وبهذا يعلن المصلي وحدتين، وهما الدعامتان اللتان يقوم عليهما الأمن والسلام، وعليهما قام الإسلام في كل زمان ومكان وهما: وحدة الربوبية، والوحدة البشرية، فالرب سبحانه واحد، والناس سواسية، من غير فرق بين بلد وبلد، أو لون ولون (الأركان الأربعة للندوي).
ثم يقرأ المصلي بعد الفاتحة ما تيسر له من القرآن الكريم.
ثم يتدرج المصلي في الخضوع والانحناء، فيفتتح أفعال الصلاة بالقيام، ويثني بالركوع ويثلث بالسجود، فلا يخر من ركوع، بل يقف وقفة خفيفة، ثم ينحني للسجود، ليكون ذلك أبلغ في الخشوع وأوقع في النفس، ويتدرج كذلك في التعظيم والتمجيد، فيقول في ركوعه: «سبحان ربي العظيم»، ويقول في سجوده: «سبحان ربي الأعلى» ثم يضع أشرف أعضائه على أذل شيء في الوجود: الأرض التي هي موطئ الأقدام، فيجتمع للمصلي خضوع القلب، والجوارح، فيسجد بقلبه لله كما يسجد له بوجهه (الأركان الأربعة للندوي وأسرار الصلاة لابن القيم).
قيل لسهل بن عبد الله التستري: أيسجد القلب؟ قال: إي والله سجدة لا يرفع رأسه منها حتى يلقى الله عز وجل (مجموع الفتاوى ومدارج السالكين) وهذه إشارة إلى إخبات القلب وذله وتواضعه وخضوعه وحضوره مع الله أينما كان العبد وكيف ما كان (أسرار الصلاة لابن القيم).
فالصلاة هي العبادة الوحيدة التي يشترك في تأديتها جميع أعضاء الإنسان؛ لأن الصلاة الخاشعة الخاضعة التي أمر الله تعالى بها ليست مجرد أقوال يلوكها اللسان، أو حركات رياضية تؤديها الجوارح بلا تدبر، وليست نظاما عسكريا، لا إرادة فيه، ولا خيار، وإنما هي عمل يشترك فيه الجسم والعقل والقلب، ولكل منها نصيب غير منقوص، وكل فيها ممثل تمثيلًا حكيمًا عادلًا، فللجسم: قيام وركوع وسجود وانتصاب وانحتاء، وللسان: تلاوة وتكبير وتسبيح، وللعقل: تفكير وتدبر وتفهم وتفقه، وللقلب: خشوع وخضوع ورقة وتلذذ (الأركان الأربعة للندوي).
والصلاة مركبة من خمسة أفعال: القراءة، والذكر، والقيام، والركوع، والسجود، ولكل فعا من هذه الأفعال سر وتأثير وعبودية ولا تحصل في غيره، فإذا ذاق المصلي طعم الصلاة علم أنه لايقوم مقام التكبير والفاتحة غيرهما، كما لا يقوم غير القيام والركوع والسجود مقامها (أسرار الصلاة لابن القيم).
وكما أن المصلي يبدأ صلاته بداية عظيمة يدخل بها في حرمة الصلاة، فإنه يختمها خاتمة جميلة يخرج بها من الصلاة، فلا يقوم المصلي من صلاته مسرعا كأنه خرج من سجن، أو فرغ من غم، وإنما يختمها بخاتمة جميلة، مباركة طيبة، فيقول: « السلام عليكم ورحمة الله» يلتفت بها عن يمينه وعن شماله، يسلم على المصلين من المسلمين، وعلى الملائكة الشاهدين، شأنه شأن العائد من سفر، أو الحاضر من غيبة؛ لأنه لما أحرم بالصلاة أقبل على الله تعالى بكليته: بقلبه، وجوارحه، فانقطعت صلته بكل ما يحيط به (الأركان الأربعة للندوي).
الصلاة مدرسة خلقية:
إن الصلاة مع كونها صلة بين العبد، وربه يجني منها العبد كل خير، فهي مدرسة خلقية لها أعظم التأثير في حث الإنسان على الالتزام بالأخلاق الحميدة، وصرفه عن الأخلاق الرذيلة؛ لأنها تصرف صاحبها من حال إلى حال، ومن ذوق إلى ذوق، ومن سفساف الأمور إلى معاليها، وقد تكلفت نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية ببيان هذه الحقيقة وإبرازها في أجلى صورها واظهر معانيها.
1- قال الله جل وعلا: " اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّالصَّلَاةَ تَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِأَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ " (العنكبوت:45).
فالصلاة تنهى المصلي وتحول بينه وبين إتيان الفواحش والمنكرات، وتحثه على فعل الخيرات.
قال ابن عطية – رحمه الله تعالى -: وذلك عندي بأن المصلي إذا كان على الواجب من الخشوع والإخبات وتذكر الله تعالى والتحقق من الوقوف بين يديه، وأن قلبه وإخلاصه مطلع عليه مرقوب، صلحت لذلك نفسه وتذللت وخامرها ارتقاب الله تعالى، فاطرد ذلك في أقواله وأفعاله وانتهى عن الفحشاء والمنكر، ولم يكد يفتر من ذلك حتى تظله صلاة أخرى يرجع بها إلى أفضل حاله... فهذه صلاة تنهى ولا بد عن الفحشاء والمنكر (المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز).
وقال فخر الدين الرازي – رحمه الله تعالى -: من معاني الآية الكريمة: أن من يكون بعيدًا عن الملك كالسوقي ونحوه لا يبالي بما فعل من الأفعال، يأكل في دكان الهراس والرواس، ويجلس مع أحباش الناس، فإذا صارت له قربة يسيرة من الملك كما إذا صارا واحدًا من القواد لم تمنعه تلك القربة من تعاطي ما كان يفعله، فإذا زادت قربته ارتفعت منزلته حتى صار أميرًا حينئذ تمنعه هذه المنزلة عن الأكل في ذلك المكان، والجلوس مع أولئك الخلان، كذلك العبد إذا صلى وسجد صار له قربة ما، لقول الله تعالى: " وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ " (العلق: من الآية 19) فإذا كان ذلك القدر من القربة يمنعه من المعاصي والمناهي، فبتكرر الصلاة والسجود تزداد مكانته، حتى يرى على نفسه من آثار الكرامة ما يستقذر معه من نفسه الصغائر فضلًا عن الكبائر (مفاتيح الغيب).
2- قال الله سبحانه وتعالى: " إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا* وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا *إِلَّا الْمُصَلِّينَ *الَّذِينَ هُمْ عَلَىٰ صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ " (المعارج: الآيات: 19، 20، 21، 22، 23).
الهلع جزع واضطراب يعتري الإنسان عند المخاوف وعند المطامع، فهو أشد الحرص واسوأ الجزع وأفحشه، وهلوع للتكثير، فالهلوع البخيل، الحريص، الضجور، الشحيح، الضيق القلب، الشديد الجزع (النكت والعيون،ومعالم التنزيل في التفسير،والمحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز، والجامع لأحكام القرآن).
قال ابن كثير – رحمه الله تعالى -: يقول تعالى مخبرا عن الإنسان وما هو مجبول عليه من الأخلاق الدنيئة: " إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا " ثم فسره بقوله: " إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا " أي: إذا مسه الضر فزع وجزع وانخلع قلبه من شدة الرعب، وأيس أن يحصل له بعد ذلك خير " وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً " أي: إذا حصلت له نعمة من الله بخل بها على غيره، ومنع حق الله تعالى فيها (تفسير ابن كثير).
ثم استثنى الله سبحانه وتعالى المصلين من هذه الأخلاق الذميمة، مما يدل على الأثر البليغ الذي تحدثه الصلاة في نفوس المصلين؛ لأن الصلاة غذاء روحي يعين المصلي على مقاومة الجزع والهلع عند مسه الضر، والعطاء عند حصول الخير، والتغلب على جوانب الضعف الإنساني، فقال سبحانه وتعالى: " الَّذِينَ هُمْ عَلَىٰ صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ " وقد وصف الله المصلين في السورة الكريمة بصفات بدأها بالمداومة على الصلاة،وختمها بالمحافظة على الصلاة، فالدوام يرجع إلى أنفس الصلوات، أي: يواظبون على أدائها لا يخلون بها ولا يشتغلون عنها بشيء من الشواغل، والمحافظة ترجع إلى أحوالها أي: يحافظون على أوقاتها وشروطها وأركانها وآدابها (الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل، ومفاتيح الغيب).
قال ابن جرير – رحمه الله تعالى -: قوله: " إِلَّا الْمُصَلِّينَ " أي: إلا الذين يطيعون الله بأداء ما افترض عليهم من الصلاة، وهم على أداء ذلك مقيمون لا يضيعون منها شيئا، فإن أولئك غير داخلين في عداد من خلق هلوعا (تفسير الطبري).
مختارات