" كيف أستقيم ؟! وسائل الاستقامة "
" كيف أستقيم؟! وسائل الاستقامة "
كيف أستقيم؟ وما السبيل لذلك؟ وما هي الوسائل المعينة للثبات على هذا الدين حتى الممات؟
هي كثيرة، وتبحث في مظانّها، ويستطيع المسلم الكيّس الفطن تأملها من خلال تتبعه وتدبره لكلام الله، وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم وكلام السلف الكرام – رضي الله عنهم.
وقد اجتهدت في اختيار وانتقاء أهمها وأجمعها حسب علمي القاصر، علمًا أنه يمكن أن يكون هناك ما هو أهم، وحسبي بذل الوسع في اختيار الأهم، والله المستعان.
أولها: الإخلاص:
وأمر الإخلاص عظيم وخطورة التهاون به جسيمة، كيف لا وهو المتابعةُ أساسُ وشرطُ قبولِ العمل بعد الإيمان والتوحيد، وهو في الحقيقة أساس وركن بقية العوامل المعينة على الاستقامة؛ فلا تقوم إلا عليه ! فالمخلص لا يلتفت قلبه يمنة ولا يسرة، ولا يشرك مع ربه أحدًا في عمله وعبادته، ولا يعمل من أجل الناس أو يترك العمل من أجلهم، وإنما يراقب الله وحده في سره وعلانيته، في حله وترحاله في جميع الأماكن والشهور ومع كل قوم، ومراقبته لله تدعوه وتدفعه للخوف من الله فيفر إليه ؛ قال تعالى: " فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ " وتحثه على رجاء ما عنده – سبحانه وتعالى - فيجتهد في طاعته ليرضيه، ويعلم أن خالق رمضان والحرمين هو خالق ورب الشهور، والأماكن، والأشخاص كلهم، وأنه مطّلع عليه في كل حين؛ قال تعالى: " يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ " [غافر: 19]؛ فيستحي من الله ويخاف منه ويرجو ثوابه:
وإذا خلوت بريبة في ظلمــــة والنفس داعية إلى الطغيان
فاستح من نظر الإله وقل لها الذي خلق الظــلام يرانـــــي
ولهذا تجد المخلص الموفق يجاهد نفسه ليطهّرها من الآثام والشرور، ويحملها على الطاعات وفعل الخيرات، ويحاسب نفسه في كل ساعة... ماذا قال؟ وماذا عمل؟ وهل كان قوله وعمله موافقًا لشرع الله أم هو مخالف؟ ويتبع في سبيل إصلاح نفسه وتطهيرها وتزكيتها عدة أمور، منها:
* التوبة النصوح بشروطها، والاستغفار الكثير، كما كان يفعل – عليه الصلاة والسلام؛ فلا بد من الندم والعزم على ترك المعصية بعد الإقلاع منها إذا كانت كبيرة.
* مراقبة الله في جميع أعماله كما تقدم في كل زمان ومكان ومع أي قوم.
* المحاسبة على ما تقدم كم ربح وكم خسر؟ قال تعالى: " وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ " [الحشر: 18] حتى يقول يوم القيامة: " يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي " ثم مجاهدة نفسه على ذلك كله.
ومجاهدة النفس بصدق توصله وتفتح له سبل كثيرة وأبواب مغلقة من أبواب العلم والعمل ؛ قال تعالى: " وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا " [العنكبوت: 69] في الدنيا والآخرة، ولذا يقول تعالى: " وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى " [طه: 82] فتوبة صادقة، وإيمان صحيح، وعمل صالح، ثم استقامة على ذلك ومجاهدة للنفس توصل للفلاح بإذن الله.
حماية ووقاية ربانية:
والإخلاص من أهم الأمور التي تعينك على الاستقامة كما ذكرت وتحميك - بإذن الله تعالى - من الوقوع في المعاصي والزلل بفضل الله تعالى، وكلنا يقرأ قوله تعالى في قصة يوسف عليه السلام مع امرأة العزيز والنسوة: " كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ " [يوسف: 24].
فالإخلاص بعد توفيق الله وحفظه كان سببًا في صرف السوء والفحشاء عنه.
ووالله إن ما حدث ويحدث من نظر وسماع، وكلام وأكل محرم ما هو إلا بسبب قلة وضعف إخلاصنا أو عدمه، فإلى الله المشتكى، والله المستعان.
ثانيًا: العلم الشرعي:
فالعلم الشرعي لا البدعي من أعظم الأمور المعينة على الاستقامة الشرعية بعد الإيمان والإخلاص.
والعلم الشرعي هو ما وصفه ابن القيم والقحطاني بقوله:
العلم قال الله قال رسولــــه قال الصحابة ليس بالتمويه
العلم نصبك للخلاف سفاهة الرســـول وبين قول فقيـــه
العلم بالكتاب والسنة على فهم السلف الصالح وهو الذي يورث الخشية من الله وكفى بها مطلبًا فمن خاف من الله وخشي منه، هرب وأناب وفرّ إليه – تعالى.
والخشية والخوف من الله من أعظم الأسباب الموجبة للجنة بعد رحمة الله؛ قال تعالى: " وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ " [الرحمن: 46].
وقال تعالى: " وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ * هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ * مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ * ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ " [ق: 31-34].
فترى في الآيات أن المتقين الأوّابين الحافظين لأمر الله، هم من وصفهم الله بقوله: " مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ " وأنهم أصحاب القلب المنيب: " وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ " والنصوص في ذلك كثيرة.
فما هو طريق الخشية والخوف المحمود من الله (قال شيح الإسلام ابن تيمية – رحمه الله تعالى -: «الخوف المحمود هو ما حجزك عن محارم الله» اهـ المدارج منزلة الخوف)؟
الجواب... قال تعالى: " إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ " [فاطر: 28-33] فأعلم الناس بالله وأسمائه وصفاته وحلاله وحرامه وأحكامه وحدوده وثوابه وعقابه وأمره ونهيه هم أخشى الناس لله – عز وجل؛ لهذا جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين العلم والخشية، وجعل العلم قبل الخشية؛ لأنه سبب لحصولها وطريق لها؛ ففي صحيح البخاري – كما تقدم – قال صلى الله عليه وسلم: «فوالله إني أعلمهم بالله وأشدهم له خشية».
وأهمية وفضل العلم وأهله غير خافية عليك، ويكفي في ذلك أن الله قرن شهادتهم بشهادته والملائكة، قال تعالى: " شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ " [آل عمران: 18].
وقوله تعالى: " قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ " [الزمر: 9] وقوله: " يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ " [المجادلة: 11].
وأما السنة؛ فيكفيك أن تعلم أن علامة إرادة الله الخير لك هو أن تتفقه في الدين كما في حديث معاوية – رضي الله عنه – في الصحيحين: «من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين» بل إن الله وملائكته وأهل السموات والأرض والحيتان في البحر؛ حتى النملة في جحرها، ليصلون على مُعلّم الناس الخير.
فالعلم الشرعيّ الصحيح قبل القول والعمل، وقبل الاستقامة، قال تعالى: " فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ " [محمد: 19] فبدأ بالعلم قبل القول والعمل كما قال البخاري وغيره، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: «قل آمنت بالله ثم استقم» فالعلم من أعظم الطرق الموصلة للاستقامة؛ بل لا بد منه لتحصل عليها، ولا يكفي أن تكون مخلصًا فحسب حتى يقبل العمل؛ بل لا بد من المتابعة، ولا تحصل المتابعة الكاملة إلا بالعلم الشرعي، علم الكتاب والسنة على فهم السلف.
والعلم يحفظك بإذن الله من الوقوع في الزلل والخطل والخطأ والشرك والبدع، يحفظك من الوقوع فيما حذرنا الله منه من الغلو أو الجفو، من الإفراط أو التفريط، من التشدد دون علم أو التساهل، كل هذه النزغات الشيطانية وغيرها، لا يمكن التخلص منها إلا بالعلم الشرعي المقرون بالصدق والإخلاص والتجرد لله، وفي طلب الدليل والتجرد في متابعة النبي صلى الله عليه وسلم وترك الانتساب لكل أحد غير الله ورسوله، كما قال ابن القيم رحمه الله في المدارج.
ولا شك أن الشيطان قد يضل ويغوي الكثير الكثير من العباد الجهال بالكثير من البدع، قال تعالى: " وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا " [الكهف: 104] وقال تعالى: " أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآَهُ حَسَنًا " [فاطر: 8] ولكنه يصعب عليه جدًا أن يفعل ذلك مع عالم تقي صادق قد حصن نفسه بالعلم الشرعي الصحيح، وتخلص من الأهواء والشهوات والشبهات.
ثالثًا: التفكر والتدبر في آيات الله الشرعية والكونية:
فتدبر العبد للقرآن وما فيه من آيات الوعد والوعيد، والأسماء والصفات، وقصص الغابرين السابقين من الصالحين والطالحين، وتدبر نعمه وآلائه وغيرها، كل هذا يورث لينًا في القلب، وانكسارًا للنفس وخضوعًا وإجلالاً ومحبة وتعظيمًا لله رب العالمين، ومن ثمّ يستقيم العبد على شرع من أحب وأجل وعظم وخضع له ؛ ولهذا قال تعالى: " فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ " [الزمر: 22].
والقسوة سببها الشرك والبدع والمعاصي؛ قال تعالى: " كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ " [المطففين: 14] فيجب الحرص على تليينها بتلاوة القرآن وتدبره وفهمه والعمل به، قراءةً بتدبر وخشوع وبكاء وتباكى، وكما قال ابن مسعود – فيما ذكره الآجري في أخلاق أهل القرآن والنووي في التبيان: «لا تهذوا القرآن هذَّ الشعر، ولا تنثروه نثر الدقل؛ (أي التمر الردئ)، قفوا عند عجائبه، وحركوا به القلوب، ولا يكن همّ أحدكم آخر السورة».
وخير منه قوله تعالى: " أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ " [الحديد: 16].
وكذلك تدبّر القرآن سبب لحصول الطمأنينة، والمستقيم – كما ذكرنا – في حياة طيبة، وعيشة سعيدة هنيئة، وقلب مطمئن.
فكيف تحصل الطمأنينة؟
قال تعالى: " الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ " [الرعد: 28] فتدبُّر كلام الله والإكثار من ذكره يلين القلوب ويهبها الطمأنينة الإيمانية والسكينة الربانية بإذن الله – عز وجل كما في الصحيح: «إلا نزلت عليهم السكينة».
وكذلك التفكر في آيات الله الكونية تثبت وترسخ العقيدة، وتجعل العبد يقف مشدوهًا، ثم لا يلبث إلا أن ينحني لربه إجلالاً وتعظيمًا وحبًا ورجاء وخشية، قال تعالى: " أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ * وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ * وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ " [الغاشية: 17-20].
وقال تعالى: " أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا * وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا * وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا " [النبأ: 6-8].
والآيات كثيرة جدًا في هذا الأمر؛ فلا تحتاج المسألة إلى تعقيد، ولا تخصص في عالم الحيوان أو النبات أو الجبال والأرض؛ بل كل مسلم عالم أو عامي، رجل أو امرأة يستطيع النظر في مخلوقات الله وتدبرها وتدبر بديع صنع الله وأسراره في خلقه، قال تعالى: " صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ " [النمل: 88].
كلنا يستطيع تأمل السماء وعظمها والسحاب المسخر، والمطر والأرض والشجر والدواب، وكيف تتناسل وتتعامل، واللغات واللهجات وأنواعها والليل والنهار، والكواكب والشمس والقمر؛ أمور كثيرة وكثيرة كلها تدل على بديع صنع الله وإتقانه – تبارك وتعالى – وكلها تدل على عظمة خالقها، وتسبح بحمده وتسجد له، قال تعالى: " وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ " [الإسراء: 44]؛ فهي تدعونا لعبادة الله والعمل بأوامره وترك نواهيه والاستقامة على شرعه.
ولهذا تعجب الشاعر المسلم من المعاصي وهو يعلم هذا كله، ويشاهد كل يوم وكل صباح ومساء بديع صنع الله الدال عليه:
فيا عجبًا كيف يعصى الإله أم كيف يجحده الجاحد
وفي كـــــل شيء له آيــة تدل علــــى أنــــه واحد
روي عن الإمام أحمد: «يا عجبًا هذه البيضة أما سطحها ففضة بيضاء، وأما بطنها فذهب إبريق ألا تدل على السميع البصير».
رابعًا: الصلوات الخمس:
إقامة الصلاة إقامة حقيقية... ففي الظاهر بشروطها وأركانها، وواجباتها، والحرص على سننها وفي أوقاتها مع الجماعة في المساجد، وفي الباطن بالخشوع والإخلاص والإخبات واستحضار عظمة الله وسكون القلب والجوارح وطمأنينتها.
إن إقامتها إقامة حقيقية من الأمور التي تعين وتساعد على الاستقامة والثبات على الدين، وتسبب البعد عن المعاصي والآثام؛ قال تعالى: " وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ " [العنكبوت: 45] ولهذا كان أول ما يحاسب عنه العبد الصلاة؛ فإن صلحت أفلح ونجح وصلح سائر عمله؛ وإن فسدت خاب وخسر كما صح في الحديث (انظر: صحيح الجامع وانظر: سلسلة الأحاديث الصحيحة).
وما حدث الانحراف والضلال والمعاصي إلا بعد أن ضُيِّعَ الدين. وعمود الدين «الصلاة»، فإذا أقمناها حق الإقامة نهتنا عن كل منكر وفاحشة بإذن الله، ومن حفظ الصلاة فهو لما سواها أحفظ، ومن ضيعها فهو لما سواها أضيع، ولاحظ في الإسلام لمن ترك «الصلاة» كما قال عمر رضى الله عنه.
ولهذا قال ابن مسعود رضى الله عنه عن الصلوات الخمس مع الجماعة أنها من سنن الهدى، وأننا لو تركناها لضللنا وخسرنا، فقال: «لو تركتم سنة نبيكم لضللتم» (رواه مسلم. انظر: مختصر مسلم بتحقيق الألباني – رحمه الله) عياذًا بالله من الضلال والكفر والخسران ؛ قال تعالى: " ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا " [الروم: 41].
وقفة مع السلف:
ونتساءل ما الذي كان سببًا في استقامة السلف على الطاعات، وثباتهم على الحق وفي المحن والفتن بعد فضل الله؟ فالواجب نسوقه إليك واقعًا، وقبل الأمثلة نذكّرك بحديث ربيعة بن كعب الأسلمي عندما سأل رسول الله مرافقته في الجنة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أعنَّي على نفسك بكثرة السجود» (رواه مسلم) فبيَّنَ أن هذا العمل – وهو كثرة السجود – سببٌ لدخول الجنة... ودخولها من أعظم ثمار الاستقامة:
1- فهذا سعيد بن المسيَّب تأتيه ابنته في مرض موته، وتبكي عليه فيقول: لا تبكي عليَّ، فوالله ما فاتتني تكبيرة الإحرام في الصف الأول منذ أربعين سنة !!
2- وهذا الأعمش كذلك ما ترك الصف الأول أربعين عامًا !!
3- وهذا عامر بن عبد الله بن الزبير يدعو الله أن يرزقه الميتة الحسنة، فيُسأل عنها، فيقول: أن يموت العبد وهو ساجد، فكان له ما تمنى؛ فتوفاه الله وهو ساجد، «وأقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد» (رواه مسلم).
ولذا كان أشد ما يخافون منه تركها: «فما كان الصحابة يرون شيئًا من الأعمال تركه كفر إلا الصلاة» (قاله عبد الله بن شقيق، وانظر: الصلاة لابن القيم – رحمه الله).
وكذلك تضييعها – أي تأخيرها عن وقتها – قال تعالى: " فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا " [مريم: 59].
وليس معنى أضاعوها أي تركوها؛ وإنما أخروها عن وقتها، فلا يصلي الفجر إلا بعد طلوع الشمس، ولا الظهر إلا بعد خروج وقتها... إلخ. كما فهمه ابن مسعود رضي الله عنه.
وقال ابن مسعود – رضي الله عنه: «الغيّ واد في جهنم شديد حره، بعيد قعره، خبيث طعمه» (انظر: تفسير ابن كثير).
إذًا إقامتها بأركانها، وشروطها، وواجباتها وخشوعها، والطمأنينة فيها والحرص على سننها؛ مما يعين على الاستقامة ويحفظ - بإذن الله - العبد من الوقوع في المعاصي؛ لأنها تنهاه عن الفحشاء والمنكر.
ولهذا فقلبه معلَّق بالمسجد، وإن كان جسده خارج المسجد في المنزل، والشارع، والمكتب، والسوق... وغيره؛ لكن قلبه موصول بالله – عز وجل – ومعلَّق بالمسجد وبذكر الله وطاعته؛ فلا يمكن أن تسوِّل له نفسه الوقوع في الحرام؛ لأن قلبه المعلّق في المسجد، الموصول بالله، المليء بالإيمان، يمنعه من تعمد المعصية، وفي الصحيحين: «سبعة يظلهم الله تحت ظله يوم لا ظل إلا ظله» ومنهم: «ورجل قلبه معلق بالمساجد» نسأل الله من فضله.
وحتى لو وقع في شيء من القاذورات رجع بسرعة وتاب وأناب، قال تعالى: " وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ " [آل عمران: 135].
وإذا أردت أن تعرف قدرك ومكانك في الآخرة، فانظر كيف أنت في صلاتك؟
قال ابن القيم: «للعبد بين يدي الله موقفان: موقف بين يديه في الصلاة، وموقف بين يديه يوم لقائه؛ فمن قام بحق الموقف الأول هوَّن عليه الموقف الآخر، ومن استهان بهذا الموقف ولم يوفّ حقه، شدد عليه ذلك الموقف، قال تعالى: " وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا * إِنَّ هَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا " [الإنسان: 26، 27]».
خامسًا: النوافل:
فالنوافل - بإذن الله - من أهم ما يحفظ به العبد دينه، ويساعد على مواصلة العمل واستمراريته والمداومة عليه؛ فهي - في الحقيقة - السور المحكم، والجدار المنيع الواقي، والحافظ بعد حفظ الله والإخلاص والمتابعة والفرائض؛ فهي أسوار تحيط بالفرائض، وعقبات أمام الشيطان تحول بينه وبين المساس بالواجبات، فما أجملها من أسوار وسياجات ربانية، ويحفظ الله بها على العبد دينه وفرائضه.
إنها سبب لمحبة الله، ومن ثمّ هي سبب لاستقامة الجوارح كلها، وهي - أي النوافل - بأنواعها سبب لحصول محبة الله - عز وجل، وإذا أحب الله عبده أمر جبريل - عليه السلام - بمحبته، ثم يحبه أهل السماء، فيوضع له القبول في الأرض، ويحبه الناس، وإذا أحبه الله - عز وجل - وفقه للطاعة وسلوك صراطه والاستقامة على شرعه؛ وذلك بأن يرزقه الله استقامة في جميع جوارحه ويهديه لخير الأعمال وأحسنها، كما في صحيح البخاري عن أبي هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قال الله عز وجل: من عادى لي وليًا فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبد بشيء أحب إلي مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي عليها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه» فيا له من فضل وأجر كبير ونعمة لا تقدر بثمن، فلا ينظر إلا بنور من الله، ولا يسمع ولا يتكلم ولا يتحرك إلا بنور من الله، فهو موفق بتوفيق الله، فهو لله وبالله – عز وجل.
«ومن قال بغير هذا التفسير للحديث فقد قال ببدعة وضلالة أهل الحلول والاتحاد» لا ينظر للحرام، بل نظره مرضاة الرحمن من تلاوة وذكر وطلب علم ونحوه، ولا يسمع الحرام؛ بل سماعه للقرآن والحديث والعلم النافع والكلام الطيب، قال تعالى: " وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ " [النور: 26] ولا تمتد يده للحرام؛ بل يده في كل خير سباقة؛ فينفق ويتصدق، ويساعد ويحمل عن الضعيف، وينفع المسلمين، ولا يمشي للحرام؛ بل خطواته لبيوت الله وحلق الذكر، والعلم وزيارة الأرحام والصالحين والعمرة... إلخ.
فأي استقامة للجوارح أعظم من هذه؟ فما الطريق إليها؟ إنها محبة الله – عز وجل – وما السبيل لمحبة الله؟ إنها بأمور منها التقرب إليه بالنوافل، ومعلوم أن النوافل تجبر النقص وتسدّ الخلل في العبادات المفروضة يوم القيامة، يوم العرض على الله، يوم الحساب والجزاء، فإذا حصل في صلاة العبد المفروضة نقص أو خلل، نُظِرَ في تطوعه ونوافله ليجبر بها النقص الحاصل، وكذلك في الصوم والحج والزكاة ونحوها (كما في حديث جبران النقص (انظروا هل لعبدي من تطوع). انظر: صحيح الجامع).
فالنوافل عامل عظيم من عوامل الثبات على الدين والاستقامة على الشرع، والنوافل سبب كبير لحصول محبة الله، والنوافل طريق مهم لجبران النقص والخلل في الفرائض.
فالله الله بها والحرص عليها بجد وإخلاص ومتابعة للرسول صلى الله عليه وسلم وبعد عن الغلو والتنطع الممنوع سواءً بصلاة أو صيام أو صدقة أو نسك أو تلاوة وغيرها.
ولذا قال صلى الله عليه وسلم: «أعنَّي على نفسك بكثرة السجود» وأقواله وأفعاله صلى الله عليه وسلم وكذلك السلف الصالح من الصحب والأتباع وأئمة المسلمين كثيرة مشهورة معلومة في أهمية النوافل؛ بل ومطالعة يسيرة لكتب السير والتراجم «كالإصابة، وسير أعلام النبلاء، وصفة الصفوة»، وغيرها تبين لك حرصهم الشديد عليها.
وقد وصفهم الله بقوله تعالى: " كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ * وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ " [الذاريات: 17-19].
إذا الليل أقبل كابــــــــــــدوه فيسفر عنهم وهم ركـــــــــوع
أطار الخوف نومهم فقامـــوا وأهل الأمن في الدنيا هجــوع
لهم تحت الظلام وهم سجود أنيــــن منـــه تنفـــرج الضلــوع
وقال آخر:
يحيون ليلهم بطاعـــــة ربهــــم بتــــــلاوة وتضـــرع وسؤال
في الليل رهبان وعند لقائهـم لعدوهم من أشجع الأبطال
ولهذا كان أبو مسلم الخولاني يقوم الليل ويجتهد في ذلك كثيرًا حتى إذا تعبت قدماه قال مخاطبًا نفسه: «والله لأزاحمن أصحاب محمد على أبواب الجنة، والله لا يسبقونا بعمل حتى يعلموا أنهم خلَّفوا رجالًا».
مختارات