" عواقب المنحرف عن الاستقامة "
" عواقب المنحرف عن الاستقامة "
وهي في الحقيقة معلومة معروفة، وهي خلاف وضد ما ذكرناه من فوائد وآثار الاستقامة في الدارين، وكما قيل: (وبضدها تتميز الأشياء) فلا يَعرف طعم الشيء إلا من جرب ضده، ولا يَعرف طعم السعادة والراحة والطمأنينة والرغد إلا من حُرم ذلك كله، فلهذا نذكر طرفًا من عواقب الانحراف عن الجادة من باب الترهيب بعد الترغيب؛ فالترهيب بالمواعظ القرآنية من سياط القلوب، نسأل الله أن ينفع بها، وأن يوقظ بها القلوب، وأن يفتح بها آذانًا صمًا وقلوبًا غلفًا وأعينًا عميًا، إنه سميع مجيب.
أقول: نذكرها لأن البعض قد تؤثر فيه سياط الترهيب أكثر من فواكه وثمار الترغيب... ولله في خلقه شئون ! وقد أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن أناسًا من أمته يُقادون إلى الجنة بالسلاسل (صحيح البخاري) فمن الناس من تنفع معهم الموعظة الحسنة والتذكير بالنعيم المقيم من الجنة، وما أعده الله للصالحين فيها، ومنهم من لا ينفع معه إلا الحزم، وهو في حقه أرحم وأولى وأجد! ولكل وجهة هو موليها، وما علينا إلا استخدام العلاج المناسب للشخص المناسب في الوقت المناسب؛ كما قيل:
البس لكل ساعة لبوسها إما نعيمها وإما بؤسها
فنقول وبالله التوفيق، ومنه نستمد العون: من عواقب المنحرف:
أولاً: الحياة النكدة والشقاء المستمر:
فالمعرض عن شرع الله، والمبتعد عن وحي الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم يعيش في شقاء وضنك وتعب ونصب فهو من شقاء إلى تعاسة إلى هموم وغموم... إلخ، قال تعالى: " أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ " [النور: 40] والشيطان اللعين قرينه وناقله من همٍّ إلى غم، إلى شقاء وتعاسة بسبب إعراضه عن الله وشرعه، قال تعالى: " وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ " [الزخرف: 36] وهو مطرود من رحمة الله، ومن طرده الله من رحمته فمن الذي يؤويه! ومن الذي يسعده ! ومن يرحمه ! وكما قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله تعالى: «من ظن أنه سيهتدي بغير هدى الله ورسوله؛ فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين» وهو كما تقدم في ضنك وضيق في الدنيا وفي البرزخ، أما في الآخرة فيكون أعمى كما عمي قلبه في الدنيا، والجزاء من جنس العمل، قال تعالى: " وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آَيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى " [طه: 124 – 126] (انظر: «الفوائد» لابن القيم).
ومهما حاول الذهاب إلى المصحات النفسية ودور النقاهة، وسافر شرقًا وغربًا لإزالة الشقاء، وصنع كل ما يخطر ولا يخطر ببال أحدنا من متع وشهوات وغيرها! فلن يصل إلى السعادة! بل سيزداد شقاءً إلى شقائه، وتعاسة إلى تعاسته، وهمومًا إلى همه، وهذا أمر معلوم مجرب مقرر عند العقلاء، وهو مصداق قوله تعالى: " فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا " أي ضيقة في الدنيا والبرزخ كما قرر العلماء – رحمهم الله – ويوضح ذلك الآية الأخرى: " فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ " [الأنعام: 125].
وإني سائلك – أخي القارئ:
ما هو حالك بعد مقارفة المعصية؟ هل تشعر براحة وسعادة؟ أم بنكد وهم وغم وتأنيب للضمير وضيق في الصدر...إلخ؟
ثم إني أسألك مرة أخرى: هل تشعر بشيء من هذا بعد صلاة أو قراءة قرآن أو حضور مجلس علم؟! وأظنك – أخي الكريم – قد فهمت جيدًا ما قصدت وأردت !
إن السعادة... كل السعادة... في طاعة الله عز وجل.
ثانيًا: الموت الحقيقي:
فإن المنحرف في حقيقة أمره ميت وإن مشى بين الأحياء ومعهم؛ لأن الموت موت القلب وإذا مات القلب فما الفائدة من الجسم؟
فالحياة الحقيقية حياة القلب، والموت الحقيقي موت القلب، قال تعالى: " أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آَذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ " [الحج: 46].
ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: «مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكر ربه مثل الحي والميت» (رواه البخاري مع الفتح).
ثالثًا: منزلته أردى وأحط من البهائم:
ولهذا يقول تعالى في شأن المنحرفين عن الجادة الذين عطّلوا قلوبهم وعقولهم وأسماعهم عن الحق والعمل به: " وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آَذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ " [الأعراف: 179] بل جعلهم الله شر الدواب ؛ قال تعالى: " إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ " [الأنفال: 22] لماذا؟ لأنهم أعرضوا عن الحق، وحتى لو سمعوه لم يستقيموا عليه، كما قال تعالى بعد الآية السابقة مباشرة: " وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ " [الأنفال: 23].
رابعًا: الضياع لأهله وماله:
أما في الدنيا فهو يتردى في أودية الهلاك يشتت الله شمله، ويمزق جمعه؛ فلا حفظ ولا نصر ولا تأييد، كما قال صلى الله عليه وسلم: «من جعل الهموم همًا واحدًا هم المعاد كفاه الله سائر همومه، ومن تشعبت به الهموم من أحوال الدنيا لم يبال الله في أي أوديتها هلك» (انظر: صحيح الجامع).
وأما في الآخرة فسيسخر نفسه وأهله إن لم يتداركه الله برحمته ويتوب عليه، قال تعالى: " قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ " [الزمر: 15].
وقال تعالى: " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ " [التحريم: 6] فمن أهمل نفسه وأهله ودفعهم إلى مهاوي الانحراف فإنه يخشى عليه وإياهم من نار عظيمة، وشقاء دائم في الدنيا والآخرة، قال صلى الله عليه وسلم: «ما من عبد استرعاه الله رعية، فلم يحطها بنصيحة، إلا لم يجد رائحة الجنة» (متفق عليه).
مختارات