" فوائد الاستقامة وآثارها في الدارين "
" فوائد الاستقامة وآثارها في الدارين "
فوائدها كثيرة عديدة، نكتفي بذكر خمسة منها خشية الإطالة؛ فمنها فوائد عاجلة في الدنيا، وأخرى في الآخرة، ومنها ما هو عند الممات، نسأل الله حسن الخاتمة.
ونقدم الدنيوية؛ لأن النفس جبلت على حب العاجل كما ذكر ابن القيم: والنفس مجبولة على حب العاجل (زاد المعاد بلفظ: والنفوس موكلة بحب العاجل).
أولاً: الحياة الطيبة:
وما أدراك ما الحياة الطيبة؟! إنها السعادة الحقيقية لا الوهمية، إنها سعادة الروح، وصفاء النفس، والأمن في النفس والأهل والمجتمع؛ قال تعالى: " أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ " [الأنعام: 82].
إن كثيرًا من الناس ذهب ذات اليمين والشمال باحثًا عن السعادة ! أنفق الأموال وضحى بحياته بل وباع أهله وكل ما يملك !! ينشد السعادة فلم يجدها ! بحث عنها في الحلال والحرام، بحث عنها في المال، في الشهرة، في المسكرات والمخدرات، في الزنا واللواط والسحاق، في القصور الفاخرة والسيارات الفارهة !! فهل وجدها؟!
وكم جلسنا مع أمثال هؤلاء، فنسأله: لماذا كل هذا؟!
يقولون بحثًا عن السعادة !
أقول لهؤلاء: ماذا عملت من أجل ذلك؟!
يقول: إنه باع أهله، وطلق زوجه، وترك أولاده، ودخل في عالم بل جحيم المخدرات والمسكرات بحثًا عن السعادة، والحياة الطيبة الوهمية كما يظن، ولكنه لم يجدها !!! ولم يحصل عليها !!! كما اعترف لي الكثيرون بذلك ! أحدهم أنفق الملايين على زواجه، وأحضر الطعام بالطائرات من الخارج وأمات ليلته بالمغنيين والمغنيات في ليلة زفافه، ولكنه لم يسعد في زواجه؛ بل طلق زوجته بعد مدة يسيرة !!! والأمثلة كثيرة جدًا !!
فهل وجدوا السعادة؟! والجواب معروف عندك – أخي القارئ – جيدًا؛ وما أحسن قول الشاعر:
ولست أرى السعادة جمع مال ولكن التقي هو السعيد
السعادة كل السعادة، والحياة الطيبة في طاعة الله – عز وجل، ومن ذاق عرف، ومن جرب طعم الطاعة وحلاوة الإيمان علم ذلك جيدًا !
واقرأ معي - أخي الحبيب - هذه الآيات بتدبر وتمهل وتمعن وخشوع وتعقل لمعانيها، قال تعالى: " مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً " [النحل: 97].
إذًا: إيمان صادق + عمل صالح = حياة سعيدة طيبة !
وقال تعالى: " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ " [الأنفال: 24] أي: لما فيه حياتكم وسعادتكم الحقيقية، ولا يكون ذلك إلا بالاستجابة لأمر الله ورسوله بل من أعرض عن ذلك فليس بحي؛ بل هو ميت وإن لبس الثياب، وركب السيارات، ومشى على الأرض !
قال تعالى: " أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ " أي: بالقرآن والسنة والطاعة ونور الإيمان، ثم يقول سبحانه وتعالى: " وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا " [الأنعام: 122] فهذه الروح لا بد لها من غذاء، وغذاؤها القرآن، ولذا سماه الله روحًا، قال تعالى: " وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا " [الشورى: 52] ولا بد لها من نور تهتدي به وتسعد وتسمو، ولهذا وصفه الله بقوله: " نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ " [المائدة: 15] ويقول تعالى: " فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى " [طه: 123] قال ابن عباس: «تكفل الله لمن قرأ القرآن وعمل به أن لا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة» وقال تعالى: " فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ " [الأنعام: 125] فالمستقيم منشرح الصدر مهما كان فقره، ومهما قلَّت معيشته وموارده، فسعادته في قلبه السليم، وصدره المنشرح، وهذا يعدل الدنيا كلها بل أكثر؛ ولهذا يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم عن المؤمن: «من أمسى آمنًا في سربه، معافى في بدنه، عنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها» (رواه الترمذي وقال حديث حسن. ووافقه الألباني في صحيح سنن الترمذي) وهذه القناعة لا تكون إلا عند صاحب الإيمان المستقيم على شرع الرحمن؛ بخلاف غيره صاحب الجشع والطمع، ولهذا أهل الاستقامة يعيشون في نعمة عظيمة وسعادة جليلة يعبر أحدهم عنها بقوله: «نحن في نعمة لو علم بها الملوك وأبناء الملوك لجالدونا عليها بالسيوف» ويقول الآخر: «لئن كان أهل الجنة في مثل ما نحن فيه، إنهم لفي خير عظيم» والآخر: «يبكي فرحًا لما هو فيه من سنة وترك للبدعة» (وانظر قصصهم في: «روضة المحبين، والمدارج». لابن القيم رحمه الله).
هجم السرور علي حتى أنه من فرط ما قد سرني أبكاني
وما أجمل تلك العبارات السلفية التي صدرت من التابعي الزاهد العابد التقي الحسن البصري – رحمه الله - الذي قيل: إن كلامه يشبه كلام الأنبياء، عندما قرأ قوله تعالى: " إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا " إلى قوله تعالى: " وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ " [فصلت: 33] أي استقام على الإيمان والعمل الصالح، قال الحسن البصري رحمه الله: «هذا حبيب الله، هذا ولي الله، هذا صفوة الله، هذا خيرة خلق الله، هذا أحب أهل الأرض إلى الله، أجاب الله في دعوته، ودعا الناس إلى ما أجاب الله فيه من دعوته، وعمل صالحًا في إجابته، وقال: إنني من المسلمين، هذا خليفة الله» (رواه عنه عبد الرزاق في المصنف، ونقله عنه ابن كثير) فهو ولي الله كما قال تعالى: " نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ " [فصلت: 31] وما أدرك من هو ولي الله؟! يقول صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه – جل وعلا: «من عادى لي وليًا فقد آذنته بالحرب» (رواه البخاري) فماذا تريد بعد ذلك؟! ولا تعليق على هذه الكلمات النيّرة في وصف المستقيم على شرع الله الداعي إليه؛ ولكن من هو الولي! قال تعالى: " أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ " [يونس: 62، 63] نسأل الله من فضله (انظر: الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان لابن تيمية).
ثانيًا: حفظ الله للعبد وماله وأهله وسعة الرزق:
وذلك للمستقيم وأهله وولده وماله، كما قال صلى الله عليه وسلم: «احفظ الله يحفظك» (رواه الترمذي وغيره انظر: صحيح الترمذي، وانظر صحيح الجامع).
احفظ الله بالتزام شرعه وأوامره والاستقامة على دينه، يحفظك في الدنيا والآخرة ويحفظ أهلك وذريتك ومالك؛ قال تعالى: " إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آَمَنُوا " [الحج: 38].
وقال في الحديث القدسي: «من عادى لي وليًا فقد آذنته بالحرب».
وقال صلى الله عليه وسلم: «من صلى الفجر فهو في ذمة الله» [رواه مسلم] وفي رواية: «من صلى الفجر في جماعة فهو في ذمة الله» (صحيح الترغيب والترهيب) فأي جوائز أعظم من هذا؟!
وكم وكم من الصالحين من حفظ الله له جوارحه وأعضاءه في كبره؛ لأنه حفظها في الصغر عن المحارم.
وكم قال بعضهم – وقد تجاوز المائة من عمره، وهو نشيط في عقله وبدنه؛ حتى قفز ذات مرة من السفينة قفزة لا يستطيعها الشباب: «تلك جوارح حفظناها في الصغر؛ فحفظها الله لنا في الكبر» (قالها الإمام أبو الطيب الطبري الشافعي).
والجزاء من جنس العمل: «اعمل ما شئت فإنك مجزيٌّ به» (قطعة من حديث رواه الحاكم وصححه الذهبي وغيره عن سهل بن سعد من كلام جبريل عليه السلام لمحمد صلى الله عليه وسلم، وانظر: الصحيحة، وصحيح الجامع) وأما حفظ المال والولد والذرية فيكفي فيها قوله تعالى: " وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا " [النساء: 9] فليس عليهم الرّزق ولا التكفل بهم، وإنما تقوى الله والقول السديد المستقيم الذي هو علامة للقلب والإيمان المستقيم كما تقدم.
ولعلك – أخي القارئ – تحفظ أو تقرأ سورة الكهف خاصة يوم الجمعة؛ فتقرأ فيها حفظ الله لكنز الرجل الذي تحت الجدار، وذلك بإرسال العبد الصالح الخضر عليه السلام لبناء الجدار ليحفظ الله كنز الرجل وماله لأولاده من بعده.
فما هو السبب بعد فضل الله؟ قال تعالى: " وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا " [الكهف: 82].
إذًا صلاح الأب كان سببًا في حفظ المال لأولاده، كما قال ابن عباس رضي الله عنهما فيما صحَّ عنه؛ فلا تأمينات على الحياة أو العقار أو الأولاد، ولا وضع للمال في البنوك الربوية بحجة الخوف على مستقبل الأولاد، ولا تضييع للصلوات والطاعات والانشغال عنها بالعقارات والبيع والشراء للحجة السابقة؛ لأن الله يرزقك وإياهم والعاقبة للتقوى، جعلنا الله من المتقين المستقيمين على شرعه، وصدق الله العظيم الذي يقول: " وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى " [طه: 132].
ولهذا قال تعالى: " وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا " [الجن: 16] أي لو استقام القاسطون على طريقة الإسلام وعدلوا إليها واستمروا عليها لأسقيناهم ماءً غدقًا؛ أي كثيرًا، والمراد بذلك سعة الرزق (انظر: تفسير ابن كثير) والمقصود بالاستقامة الطاعة والإسلام وطريق الحق كما قال أئمة التفسير.
مختارات