" مقــدمة "
" مقــدمة "
إنَّ الناس يتحولون من هذه الدار التي كتبت الله عليها الفناء إلى دار الجزاء والبقاء، يبدأ ذلك بيوم شاق هائل عسير، يفضي في العباد إلى ربهم، ذلك هو اليوم الآخر الذي أكثر الله من ذكره في القرآن.
والإيمان باليوم الآخر أحد أصول الإيمان الستة التي لا يصح إيمان مسلم بدونها، فالذي ينبغي علينا أن نعتقده ونعلمه علم اليقين أن ذلك اليوم آتٍ لا ريب فيه، وأن الله سيبعث مَنْ في القبور، فتبدأ بعد فناء المخلوقات حياة جديدة يجازى فيها كلٌ بحسب ما قدمت يداه، إن خيرًا فخير وإن شرًا فشر.
قال الله تعالى: " يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا " [ آل عمران: 30] وقال تعالى: " لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى " [النجم: 31].
والقرآن الكريم والسنة المطهرة قد اهتما غاية الاهتمام بتفاصيل ذلك اليوم المشهود، وبأحوال هذا النبأ العظيم، فكما جاء البيان من الله تعالى بحقارة الدنيا وصغرها، فقد جاء البيان بهول الآخرة وعظمها، فحق على كل من بلغه ذلك أن يصغر في عينه ما هو عند الله صغير، وأن يعظم في نفسه ما هو عند الله عظيم ؛ فقد قال الله تعالى عن الدنيا وهو الذي خلقها: " فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا " [لقمان: 33] وقال تعالى عن الآخرة وهو أعلم بها: " أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ " [المطففين: 4، 5].
إن أعظم قضيتين يجب أن ينشغل بهما كل واحد منا هما:
أولاً: قضية تحقيق الغاية التي من أجلها وُجِدَ وهي توحيد الله تعالى وعبادته.
وثانيًا: قضية مستقبله ومصيره وشقائه وسعادته، لأجل ذلك نجد كثيرًا ما يربط القرآن بين هاتين القضيتين كما في قوله تعالى: " ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ " [الطلاق: 2] وغيرها كثير جدًا، فلا يجوز أن يتقدم ذلك شيءٌ مهما كان، فكل أمر دونهما هين، وهل هناك أعظم وأفدح من أن يخسر الإنسان حياته وأهله وسعادته، فماذا يبقى بعد ذلك؟ قال تعالى: " قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ " [الزمر: 15].
وللبحث في هذا الموضوع والتذكير به، والنظر في غيبياته المنصوص عليها أهمية عظيمة بالغة، وله آثار حميدة مباركة.
وهذه الأهمية تتجلى في أمور منها:
1- انفتاح الدنيا الشديد على كثيرٍ من الناس في هذا الزمان: وما صاحب ذلك من مكر الليل والنهار بأساليب جديدة ودعايات خبيثة، تزين الدنيا في أعين الناس وتصدهم عن الآخرة. فطرأ على الناس الغفلة الشديدة عن تذكر ذلك اليوم إلى درجة قد تصل إلى نسيانه، ومع ما كان عليه صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم من الإيمان والتقوى، فقد كان يحذرهم من الاغترار بالدنيا وضرورة الاستعداد للآخرة، مع أن الدنيا لم تنفتح عليهم مثل اليوم، فلا شك أننا أحوج منهم بكثير إلى أن نتذكر الآخرة، ويتعاهد بعضنًا بعضًا بالتذكير بعظمة شأنها وأهمية الاستعداد لها.
2- لما في تذكر ذلك اليوم ومشاهدة العظيمة من حثٍّ على الاستعداد له والمبادرة بالأعمال الصالحة، واتخاذ أسباب الأمن والنجاة فيه، بل ما تكاسل المتكاسلون عن عمل الصالحات سواء الواجب منها أو المسنون إلا بسبب الغفلة عن اليوم ألآخر، يقول الله تعالى في وصف عباده الصالحين: " أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُوالأَلْبَابِ " [الزمر: 9].
3- تذكر الآخرة والرجوع إلى الله يثبّت القلوب أمام فتن الدنيا وشدائدها، وله أكبر الأثر في قوة النفس وراحتها وعدم استسلامها للقلق والحزن والهم والتعاسة، قال تعالى: " وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا للهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ " [البقرة: 155، 156] فهؤلاء هانت عليهم مصائبهم وصبروا لأنهم تذكروا أن هناك يومًا سيرجعون فيه إلى الله فيوفيهم أجرهم، وأنه مهما جاءهم من شدائد الدنيا فهي منقطعة ولها أجل، فهم ينتظرون الفرج والثواب يوم الرجوع إلى الله عز وجل.
4- المداومة على تذكر الآخرة يقوي الإحساس بثقل التبعية وعظم المسئولية، وهو الموجه الحقيقي لسلوك الإنسان إلى سبيل الخير وأداء الحقوق والأمانات، وما حصل في زماننا من كثرة المظالم واعتداء الناس بعضهم على بعض، ومن أكل الأموال بدون وجه حق، وكذلك النيل من الأعراض بالغيبة والسخرية والبهتان والحسد والكبر، كل هذا إنما حصل بسبب نسيان اليوم الآخر والوقوف بين يدي الله تعالى. ولا شك أنه لا شيء مثل تذكر الآخرة واستشعار الوقوف بين يدي الله عز وجل تقويمًا لذلك السلوك وعلاجًا لتلك الأمراض، وهذا الاستشعار هو الذي جعل عمر بن الخطاب رضى الله عنه يقف مع نفسه ويقول: «لو عثرت بغلة في العراق، لظننت أن الله سيسألني عنها: لِمَ لَمْ تُسوِّ لها الطريق يا عمر !!».
5- ثم إن هناك أيضًا أهمية أخرى نجنيها من الإيمان بالله واليوم ألآخر والإكثار من ذكره وتذكره، ألا وهي تكوين همّ الآخرة وامتلاء القلب بذلك الهم، وهذا الأمر له آثار حميدة مباركة على حياة العبد وآخرته كما جاء في الحديث الذي رواه الترمذي عن أنس رضى الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: «من كانت الآخرة همّه، جعل الله غناه في قلبه، وجمع له شمله، وأتته الدنيا وهي راغمة، ومن كانت الدنيا همه، جعل الله فقره بين عينيه، وفرَّق عليه شمله، ولم يأتيه من الدنيا إلا ما قدِّر له».
فهناك فرقٌ كبيرٌ وبونٌ شاسع بين سلوك وحال من كانت الدنيا همه وشغله، وبين من كانت الآخرة همه قد ملأ ذكرها قلبه.
فهو ينظر دائمًا بميزان الآخرة، الخير عنده خير الآخرة، والشر شر الآخرة، فيكون له سلوك فريد يظهر في استقامته ونزاهته وأمانته وحسن خلقه وعفوه وطهارة قلبه، كل ذلك وأكثر منه لأجل ابتغاء ثواب الآخرة وما عند الله من الجزاء الحسن فيها.
فيكون جزاؤه أن الله يهبه الحياة الطيبة والمستقرة في دنياه، ويصلح ذات بينه، ويقوي روابط الأُلفة والود مع من حوله، ويبارك الله له في جميع أموره – وهذا من جمع شمله.
ثم إن الله يهبه القناعة بحيث لا يكترث بزهرة الدنيا، ولا يحزن على فواتها، ولا يمدن عينيه إلى ما متع الله به بعض عباده، ولا تنقطع نفسه لهثًا وراء طلبها، ومهما حرم في هذه الدنيا الفانية فإنه يعلم أن في ذلك رحمة وحكمة بالغة.
وهذا لا يعني انقطاعه عنها وعدم ابتغاء الرزق في أكنافها، بل يقول الله تعالى: " وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا " [القصص: 77]، ومع ذلك فإن الدنيا لا تفوت ذلك الإنسان الذي أشغله فكرُ الآخرة وهمُّها عن الحرص على الدنيا، ومصالحه لا تتعطل، فقد جاء الوعد بأن الله يسوق له رزقه من الدنيا سوقًا.
أما ذلك الإنسان الآخر الذي ألهته وأشغلته دنياه عن تذكر الآخرة وذكرها فهو يقيس الأمور بميزان منفعته الخاصة والعاجلة، لا يهمه إلا نفسه، ولا يراعي حقوق غيره إلا في حدود ما يحقق النفع له، فإذا هو مبعثر الهمة مشتت الأمر، قد ساءت علاقاته، وتبددت أواصر الألفة بينه وبين أقرب الناس له، وإن بقي من علاقاته شيء فهي علاقات باهتة جامدة، ومع كل ذلك الحرص والجمع فلا يزال يشعر أنه في نقص وحاجة ولو حيزت له الدنيا بما فيها.
6- ثم إن في تذكر الآخرة والنظر في أخبارها وأنبائها، تحديث بنعمة الله وفضله إذ كشف لنا من علم الغيب الذي لا سبيل لعقل إدراكه البتة. وهذا فضل الله علينا إذ ميزنا بأنباء هذا الدين العظيم من بين سائر البشر على وجه الأرض، حيث إن التطلع إلى ما يحدث في المستقبل أمر فطري، وتوجد له رغبة شديدة في النفس. لذا نجد البعض يلجأ في معرفة ذلك إلى الكهان والعرافين، أما نحن فقد جاءنا من الله ما فيه غناء وكفاية.
وقد جاءت الأخبار من النبي صلى الله عليه وسلم بما سيكون في آخر الزمان من علامات وأحداث عظام، دالة على قرب الساعة، وقد ظهر الكثير من علاماتها وتحقق ما أخبر به صلى الله عليه وسلم، فكل يوم يزداد فيه المؤمنون إيمانًا وتصديقًا وإشفاقًا من قرب وقوعها، وقد أخبر بذلك صراحة النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «بعثت أنا والساعة كهاتين» ويشير بأصبعيه فيمدهما [متفق عليه].
وقد قال الله تعالى: " اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ " [القمر: 1].
وقال تعالى: " إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا * وَنَرَاهُ قَرِيبًا " [المعارج: 6، 7].
وقال تعالى: " وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا " [الأحزاب: 63].
وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا ذكر الساعة احمرَّت وجنتاه، وعلا صوته واشتد غضبه، كأنه نذير جيش يقول: «صبَّحكم ومساكم» [رواه مسلم].
ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يذكّر أصحابه بالساعة وينذرهم قرب وقوعها، ويخبرهم بعلاماتها حتى أشفق الصحابة رضوان الله عليهم من قيام الساعة عليهم، وقد صرح القرآن أن وقت وقوعها من خصائص علم الله، لذا فإنه لم يُطلع أحدًا على وقت وقوعها، لا ملكًا مقربًا ولا نبيًا مرسلاً قال تعالى: " يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلا هُوَ " [الأعراف: 187].
والحكمة من وراء إخفاء وقتها - والله تعالى أعلم - أن المؤمن بها يظل مترقبًا لها باستمرار، ومن موعدها على حذرٍ دائمٍ وعلى استعداد دائم.
والخوض في وقتها تَقَوُّل على الله بغير علم، ومخالفة للمنهج القرآني والنبوي الذي وجَّه الناس إلى ترك البحث في هذا الموضوع، ودعاهم إلى الاستعداد لهذا اليوم بالإيمان والعمل الصالح.
مختارات