" تعليل اتقاء الشبهات "
" تعليل اتقاء الشبهات "
ذكر الحافظ ابن حجر أن الحلال في حد ذاته مباح، ولكن حيث يؤول فعله مطلقاً إلى مكروه أو محرم ينبغي اجتنابه كالإكثار من الطيبات، فإنه كما يقول العلماء: يحوج إلى كثرة الاكتساب الموقع في أخذ ما لا يحق، أو يفضي إلى بطر النفس، وأقل ما فيه، الاشتغال عن مواقف العبودية، وهذا أمر معلوم عند الناس جميعًا (الحافظ ابن حجر في فتح الباري).
قلت: إذا كان هذا عن الحلال المباح، فإن الشبهات ينبغي اتقاؤها من باب أولى، لأن احتمال الحل قائم، واحتمال الحرمة قائم، ومن يقدم على الشبهة لا يأمن أن تكون حرامًا في نفس الأمر، فيصادف الحرام وهو لا يدري، ويعرِّض دينه وعرضه للقدح والذم.
" أمثلة من المتشابه "
والمسائل المشتبهة هي التي تحتاج إلى البحث والاجتهاد حتى يعلم حقيقتها، والحكم الشرعي بالنسبة لها؛ حيث إن الشبهة غامضة لا يعلم حكمها كثير من الناس، أهي من قبيل الحلال أم من الحرام، ولكن هذا اللبس والاشتباه لا يخفى على بعض الناس، وهم المجتهدون، الفاهمون، الواعون، وفيما يلي أمثلة من الأمور المشتبهة والتي ينبغي اتقاؤها تعاطيًا وتعاملاً وكسباً وإعانة... ورعًا وزهدًا وخوفًا من الوقوع في الحرام.
ومن ذلك:
- من المطعومات: المشتبه في حلها وتحريمها: الخيل والبغال والضب (ابن رجب الحنبلي).. وكل طعام خالطه لحم أو شحم خنزير بحيث لم يغلب عليه، أما إذا غلب عليه فهو محرم اتفاقاً.
- ومن المشروبات: الأنبذة... وما خالطه شيء من الكحول. وما فتَّر البدن.. ومنها المواد التي تدخل إلى الجسم عن طريق حاسة الشم والتنفس (كالدخان وغيره).
- ومن الملبوسات: ما اختلف في إباحة لبسه: كجلود السباع ونحوها... والثياب يلبسها الكافر فيظن نجاستها لعدم تحرزه عن النجاسة في العادة.
- ومن المكاسب: المختلف فيها: كمسائل: العينة والتورق..إلخ.
وكل مال أو كسب فيه شبهة محرمة.
وعلى وجه العموم: فكل ما تردد حكم فعله، أو تركه، بين الكراهة والإباحة، فهو من المتشابه الذي يكون تركه ورعًا وتحفظًا واتقاء للشبهة، أما ما دار حكم فعله أو تركه بين التحريم والكراهة، فينبغي على المسلم تركه واجتنابه.
وهذه قاعدة عامة يدخل تحتها كل ما فيه شبهة.
" أمثلة من المختلف فيه "
وسوف أضرب ثلاثة أمثلة للمسائل المختلف فيها بين الحرمة والكراهة، فأقل درجاتها أنها من المشتبهات التي ينبغي توقيها؛ مخافة أن تكون من الحرام المحض فيقع العبد في المحظور وهذه الأمثلة الثلاثة لمن يستحلها، أو يكتسب عن طريقها، أو يساهم في مجالاتها:
المثال الأول: الدخان:
1- قال تعالى: " يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ " [المائدة: 4].
والدخان ليس من الطيبات باتفاق.
2- والدخان يدخل في عموم قوله تعالى: " وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ " [الأعراف: 157] دخولًا أوليًّا، ولا يخرجه من الخبائث إلا من انقلبت عنده الحقائق.
والعبرة بالطباع السليمة، التي لم تألفه أو تستحسنه بتزيين الشيطان له في أعينهم.
ولا يماري عاقل في أن الله تعالى إذا ميز الخبيث والطيب يوم القيامة فإن الدخان يكون من جملة الخبائث لا الطيبات، وهو خبيث في الدنيا عند غير شاريه ومحبيه.
3- المسرف المبذر قرين الشيطان كما قال تعالى: " إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا " [الإسراء: 27] وصرف القرش الواحد فيما يضر ولا ينفع من الإسراف والتبذير.
4- واتفق الأطباء والعقلاء على أن التدخين ضار للبدن وعددوا أمراضه الخبيثة، والإسلام يحرم كل ما فيه ضرر للنفس أو ضرر للآخرين، «لا ضرر ولا ضرار».
وبالتالي فهو ضار لدين المسلم، لأن فيه مخالفة صريحة لهذه المبادئ الإسلامية المذكورة.
وهو ضار للمال مهما كثر في يد صاحبه، فقد نهينا عن القيل والقال وكثرة السؤال وإضاعة المال.
5- وهو يحدث في الجسم فتوراً واسترخاء.
وإذا قال مدمن في التدخين: إنه لا يحدث فتورًا، قلنا: وكذلك الحشيش من المسكرات بالنسبة لمن تسمم جسمه بها، لا يتأثر منها، ولكن العبرة بالجسم الخام السليم الذي لم يسبق له التدخين، فإذا دخن لأول مرة يحدث له ما هو قريب من السكر.
6- وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه أبو داود عن أم سلمة رضي الله عنها عن كل مسكر ومفتر (ابن الأثير في جامع الأصول، قال محقق الكتاب الأستاذ عبد القادر الأرناؤوط في هامش الصفحة المذكورة. وقد حسنه الحافظ في الفتح).
7- وما دام هذا هو الحكم، والنهي يقتضي الترك دون تردد فإنه لا يجوز تعاطيه ولا المتاجرة فيه، ولا ترويجه، ولا الإعانة على ذلك بتأجير المحل مثلاً للتجارة فيه، أو بشرائه لمتعاطيه، أو بتقديم (الطفاية) له، أو الكسب عن طريقه.
المثال الثاني: الغناء:
1-قال تعالى في خطابه لإبليس: " وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ " [الإسراء: 64].
عن ابن عباس رضي الله عنهما صوت الشيطان: الغناء والمزامير واللهو.
وقال مجاهد: هو اللهو والغناء.
2- وقال تعالى: " وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ " [لقمان: 6].
قال مجاهد: لهو الحديث: الاستماع إلى الغناء؛ والإضلال عن سبيل الله نتيجة طبيعية للغناء والسماع لا تتخلف؛ وقال الحسن البصري، نزلت الآية في الغناء والمزامير.
3- وقال تعالى: " أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ * وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ * وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ " [النجم: 59-61].
والسمود هو الغناء بلغة حِمْير، يقال: اسمُدي يا فلانة، أي غني لنا.
قال عكرمة: وكانوا إذا سمعوا الغناء تغنوا، ليصدوا الناس عن القرآن الكريم بالغناء.
4- وقال تعالى: " فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ " [الأحزاب: 32] والغناء خضوع وخنا بالقول.
5- وقال تعالى في وصف المؤمنين: " وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ " [المؤمنون:3] والغناء لغو بلا شك لخلوه من الفائدة.
6- وروى البخاري عن أبي مالك الأشعري أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف» (نقلاً عن الشيخ أبو بكر الجزائري) والمعازف آلات اللهو.
وغير ذلك كثير من الأحاديث الواردة في الغناء لم نشأ تقصيها لأنه يخرج عن موضوعنا.
7- أما أقوال الأئمة الأربعة في الغناء فهي معلومة من مواطنها بالحرمة وعدم الجواز (راجع السفاريني في غذاء الألباب وما بعدها وإغاثة اللهفان لابن القيم ورسالة الجزائري في الغناء).
8- والغناء إذا صحبه آلات الموسيقى والطرب فهو محرم وإن كان ذِكراً وتسبيحاً.
9- وقد رخص الإسلام في الغناء وضرب الدف في العرس إذا كان الغناء من النساء للنساء وبألفاظ خالية من الفحش والبذاءة.
كما رخص في الغناء واللهو في العيدين في حدود الأدب وعدم الخلاعة والمجون.
كما رخص فيما يقال لتحميس العمال وتشجيعهم على العمل بالكلام الهادف النبيل.
- وليس في وسع مسلم أن يترك كتاب الله وسنة رسوله وإجماع المسلمين إلى أقوال أخرى ممن ينسبون إلى التصوف، أو الذي تولى كبره في الغناء وهو ابن حزم الظاهري، ومن نحا نحوه.
وإنما وضعت الغناء في المتشابه أيضاً نظرًا لما يثار حوله من كلام لبعض المنتسبين إلى العلم بالجواز.
والرخصة فيه إذا خلا من المعازف، والكلام الخارج عن حدود اللياقة، ولم يكن من امرأة أجنبية لرجال، أو سماع اليسير منه لمن يتستر في بيته، وفي هذا كله تفصيل طويل.
وإذا كان الأمر كذلك فإنه لا يجوز العمل في مجال الغناء والموسيقى وآلات اللهو بيعاً وشراءً وتصنيعاً وكسباً وتأجيراً واستخداماً.. فكله كسب غير مشروع، وما أكثر المكاسب من هذا المجال في أيامنا، فأصحابه كما يقال: نجوم المجتمع !! وهم أهل المكاسب العالية والمستوى الرفيع والوجاهة بين الناس.
المثال الثالث: اللحية:
1- أخرج البخاري ومسلم والموطأ والترمذي والنسائي وأبو داود عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «انهكوا الشوارب، واعفوا اللحى» وفي رواية «احفوا الشوارب» وفي أخرى قال: «خالفوا المشركين، وفروا اللحى، وأحفوا الشوارب» (ابن الأثير).
2- وأخرج مسلم عن أبي هريرة رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «جزوا الشوارب، وأوفوا اللحى، خالفوا المجوس» (ابن الأثير).
وغير ذلك كثير من الأحاديث التي تأمر بإعفاء اللحية وتنهى عن حلقها. وقد حرم حلق اللحية الحنفية والمالكية والحنابلة.
وقيل في مذهب الشافعية بالكراهية، ورد عليه بأن الشافعي في كتابه «الأم» نص على التحريم.
وقال الأذرعي: الصواب تحريم حلقها جملة لغير علة (راجع رسالة تحريم حلق اللحى للشيخ عبد الرحمن بن محمد بن قاسم النجدي نشر دار الإفتاء سنة 1354هــ ورسالة حكم اللحية للشيخ محمد الحامد، نشر دار الإفتاء، ورسالة الشيخ محمد بن إبراهيم).
وقال الشيخ علي محفوظ رحمه الله: «وقد اتفقت المذاهب الأربعة على وجوب توفير اللحية، وحرمة حلقها، والأخذ القريب منه» (الإبداع في مضار الابتداع).
وضم إليهم الظاهرية في الفتح الرباني وأحكام الإسلام لا تخضع لعادات الناس، ولألسنتهم، ولا تخص زماناً دون زمان، أو مكاناً دون مكان.
وإنما وضعت التمثيل باللحية في باب الشبهات ولم أضعه في باب المحرمات نظراً للفرق الذي يقول به الأصوليون بين الواجب والسنة المؤكدة بالعقاب على مخالفة الأول دون الثاني، والواجب يقابل السنة المؤكدة في بعض المذاهب.
ويقول بعضهم بوجوب إعفاء اللحية، وبالتالي معاقبة حالقها، وبعضهم يقول: بأنها سنة مؤكدة ويستدل الأولون بأن الأمر للوجوب لم يصرفه صارف ولا صارف له هنا.
ولما في الحديث: «إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم».
فالعمل في مجال حلق اللحية كسب غير مشروع، وعمل غير مشروع، والذي يحتاط لدينه يترك كل كسب يأتي من طريق حرام أو فيه شبهة حرام.
مختارات