" موقف المسلم من الشبهات "
" موقف المسلم من الشبهات "
وسواء توقفنا في حكم الشبهة، أو قلنا بالكراهة فضلاً عن التحريم، فإن تركها أولى، أخذاً بالحيطة، وخوفاً من أن تفضي إلى الحرام، أو أن تكون حراماً في حد ذاتها، فيكون قد قارف الحرام من حيث لا يدري.
كيف لا؟ وقد كان السلف يتركون بعض الحلال، ولا يستكثرون منه خوفاً من طول السؤال، حيث يسبقهم غيرهم إلى دخول الجنة، ويحبسون عنها بسبب طول السؤال عن مصادر الكسب ووجوه الإنفاق.
ويؤيد هذا المعنى: ما جاء في الحديث: «فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام».
قال الخطابي: «ما شككت فيه، فالورع اجتنابه، وهو على ثلاثة أقسام:
واجب، ومستحب، ومكروه.
فالواجب: ما يستلزم ارتكاب المحرم.
والمندوب: اجتناب معاملة من أكثر ماله حرام.
والمكروه: اجتناب الرخص المشروعة (الإمام الشوكاني، نيل الأوطار).
والمطلوب: اتقاء الشبهات حيطة وورعاً.
وإذن فقد يكون ترك الشبهة واجبًا إذا استلزمت المحرم.
أدلة ترجيح ترك الشبهات:
وفيما يأتي أدلة شرعية على وجوب ترك الشبهات واتقائها وترجيح الترك على الفعل.
1-جاء في الصحيح: «فمن ترك ما يشتبه عليه، كان لما استبان أترك، ومن اجترأ على ما يشك فيه من الإثم أوشك أن يواقع ما استبان» (راجع في هذا: الحافظ ابن حجر، فتح الباري، والشوكاني، نيل الأوطار، وابن رجب الحنبلي في جامع العلوم والحكم. وأخرج الألباني زيادة ابن حبان في سلسلة الأحاديث الصحيحة، وقال إسناده جيد، ورجاله كلهم ثقات معروفون).
2-وفي بعض المراسيل عن النبي صلى الله عليه وسلم: «من يرعى بجنبات الحرام يوشك أن يخالطه، ومن تهاون بالمحقرات، يوشك أن يخالط الكبائر» (راجع في هذا: الحافظ ابن حجر، فتح الباري والشوكاني، نيل الأوطار ج5، وابن رجب الحنبلي في جامع العلوم والحكم. وأخرج الألباني زيادة ابن حبان في سلسلة الأحاديث الصحيحة، وقال إسناده جيد، ورجاله كلهم ثقات معروفون).
3- وقال ابن المنير شيخ البخاري: «المكروه: عقبة بين العبد والحرام، فمن استكثر من المكروه؛ تطرق إلى الحرام، والمباح: عقبة بينه وبين المكروه فمن استكثر من المباح تطرق إلى المكروه» وهو يعني ترك المكروه وعدم إتيانه.
قال ابن حجر: «وهو منزع حسن» (راجع في هذا: الحافظ ابن حجر، فتح الباري والشوكاني، نيل الأوطار، وابن رجب الحنبلي في جامع العلوم والحكم. وأخرج الألباني زيادة ابن حبان في سلسلة الأحاديث الصحيحة، وقال إسناده جيد، ورجاله كلهم ثقات معروفون).
ويؤيد كلام ابن المنير ما جاء في رواية ابن حبان في الزيادة (راجع في هذا: الحافظ ابن حجر، فتح الباري والشوكاني، نيل الأوطار ج5، وابن رجب الحنبلي في جامع العلوم والحكم. وأخرج الألباني زيادة ابن حبان في سلسلة الأحاديث الصحيحة، وقال إسناده جيد، ورجاله كلهم ثقات معروفون).
4 - «اجعلوا بينكم وبين الحرام سترة من الحلال، من فعل ذلك استبرأ لعرضه ودينه، ومن أربع فيه كان كالمرتع إلى جنب الحمى يوشك أن يقع فيه».
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يترك ما فيه شبهة، خوفاً من الوقوع في الحرام.
5 -وأخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إني لأنقلب إلى أهلي فأجد التمرة ساقطة على فراشي، أو في بيتي، فأرفعها لآكلها، ثم أخشى أن تكون صدقة فألقيها» (ابن الأثير، جامع الأصول. والشوكاني، نيل الأوطار عن أنس وراجع ابن خزيمة: الإمام أبو بكر محمد بن إسحاق ابن خزيمة السلمي النيسابوري في صحيحه حققه، وعلق عليه، وخرج أحاديثه الدكتور مصطفى الأعظمي).
فالرسول عليه الصلاة والسلام لم يتأكد لديه أن التمرة من الصدقة، ولما كانت الصدقة محرمة عليه صلى الله عليه وسلم كما هو معلوم، تردد في حقيقتها وتركها، مع حاجته إليها، ورغبته فيها، خشية أن تكون حراماً.
6 - وعن عطية بن عروة السعدي رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين، حتى يدع ما لا بأس به، حذراً مما به بأس» (رواه الترمذي وقال حديث حسن، وابن ماجه والحاكم، وقال صحيح الإسناد، انظر: الحافظ المنذري في الترغيب والترهيب، والشوكاني في نيل الأوطار، وضعفه الألباني في ضعيف الجامع الصغير).
7-وقال صلى الله عليه وسلم لأبي هريرة رضى الله عنه: «كن ورعًا تكن أعبد الناس، وكن قنعًا تكن أشكر الناس..» (الإمام القشيري: أبي القاسم عبد الكريم بن هوازن- الرسالة القشيرية، وانظر صحيح الجامع الصغير حديث رقم 4456 عن البيهقي).
وهذا ما ينبغي أن يكون عليه حال المسلم الحق تجاه الشبهات.
- وفي أقوال الصحابة وأفعالهم الأمثلة الكثيرة على ترك الشبهات خشية الوقوع في الحرام، فمن الورع اتقاء الشبهات، ومن ذلك:
1- ما أخرجه البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: «كان لأبي بكر الصديق رضى الله عنه غلام، يخرج له الخراج، وكان أبو بكر يأكل من خراجه، فجاء يوماً بشيء فأكل منه أبو بكر، فقال له الغلام: أتدري ما هذا؟ فقال أبو بكر: وما هو؟ قال: كنت تكهنت لإنسان في الجاهلية وما أحسن الكهانة، إلا أني خدعته، فلقيني، فأعطاني لذلك هذا الذي أكلته منه، فأدخل أبو بكر يده، فقاء كل شيء في بطنه» (المنذري في الترغيب والترهيب وابن الأثير في جامع الأصول).
وما فعل أبو بكر ذلك إلا لأن كسب التكهن غير مشروع.
2-وقال أبو بكر الصديق رضى الله عنه: «كنا ندع سبعين بابًا من الحلال، مخافة أن نقع في باب الحرام» (القشيري في الرسالة القشيرية).
3- وقال عمر رضى الله عنه: «كنا ندع تسعة أعشار الحلال مخافة الوقوع في الحرام» (الإمام الغزالي، الإحياء).
4 -ولما شرب عمر من لبن إبل الصدقة غلطًا، أدخل إصبعه في فيه وتقيأ(الإمام الغزالي، الإحياء).
فهذه أحاديث وآثار تدل على أن المسلم ينبغي له ترك الشبهات ورعًا وتقوى وخوفًا من مصادفة الحرام.
ويحسن بنا أن نضرب لهذا الورع أمثلة حية.
أمثلة من الورع واتقاء الشبهات:
1- روي أن عمر رضى الله عنه، وصله مسك من البحرين، فقال: وددت لو أن امرأة وزنَتْ حتى أُقَسِّمه بين المسلمين، فقالت امرأته (عاتكة): أنا أجيد الوزن، فسكت عنها، ثم أعاد القول، فأعادت الجواب، فقال: لا، أحببتِ أن تَضَعِيه بكفك، ثم تقولين: فيها أثر الغبار، فتمسحين بها، عنقك، فأصيب بذلك فضلًا على المسلمين (الإمام الغزالي، إحياء علوم الدين).
فهذا ورع عظيم، وتنزه فوق مستوى الشبهة من عمر رضى الله عنه.
2- وروى سليمان التيمي عن نعيمة العطارة، قالت: كان عمر رضى الله عنه، يدفع إلى امرأته طيبًا من طيب المسلمين لتبيعه، فباعتني طيبًا، فجعلت تقوم، وتنقص، وتكسر بأسنانها، فتعلق بأصبعها شيء منه، فقالت به هكذا - نفَّضَتْهُ - ثم مسحت به خمارها؛ فدخل عمر رضى الله عنه، فقال: ما هذه الرائحة؟ فأخبرته، فقال: طيب المسلمين تأخذينه؟! فانتزع الخمار من رأسها، وأخذ يدلكه في التراب ويشمه، ثم يصب الماء، ثم يدلكه في التراب ويشمه، حتى لم يبق له ريح، قالت: ثم أتيتها مرة أخرى، فلما وزنت علق منه شيء بإصبعها فأدخلت إصبعها في فيها، ثم مسحت به التراب» (الإمام الغزالي، إحياء علوم الدين).
فهذا التصرف من عمر رضى الله عنه ورع وتقوى، وزيادة في الحيطة، والحذر من الشبهة، وإلا فإن غسل الخمار، لن يعيد الطيب إلى المسلمين، ولكنه أتلف رائحته على امرأته زجراً وردعاً وخوفاً أن يتعدى هذا إلى غيره.
3 - وكان يوزن بين يدي عمر بن عبد العزيز مسك المسلمين، فأخذ بأنفه حتى لا تصيبه الرائحة، وقال: هل ينتفع منه إلا برائحته (لما استبعد هذا منه) (القشيري، الرسالة القشيرية. والإمام الغزالي في الإحياء).
4 - وجاءت أخت بشر الحافي إلى أحمد بن حنبل، وقالت: إنا نغزل على سطوحنا فتمر بنا مشاعل الظاهرية، ويقع الشعاع علينا، أفيجوز لنا الغزل في شعاعها؟ (يعني: هل يجوز لنا أن نغزل في ضوء شعاع غيرنا؟) فقال أحمد: من أنت عافاك الله؟ قالت: أخت (بشر الحافي) فبكى أحمد !! وقال: من بيتكم يخرج الورع الصادق، لا تغزلي في شعاعها (القشيري، الرسالة القشيرية. والإمام الغزالي في الإحياء).
- قلت: هذه حيطة بالغة، وربما يدخل هذا في باب التنطع في الورع، ولكنه يدل على حرص شديد وورع عظيم واتقاء للشبهات، وبعد في النظر لتحري الحلال المحض، وترك كل ما يأتي عن طريق آخر، مما يشك فيه خشية الوقوع في الشبهات.
5- وقال ابن المبارك: كتب غلام لحسان بن أبي سنان الأهواز: إن قصب السكر، أصابته آفة، فاشتر السكر فيما قبلك في الجهة التي أنت فيها، فاشتراه من رجل، فلم يأت عليه إلا القليل، فإذا فيما اشتراه ربح ثلاثين ألفاً، قال: فأتى صاحب السكر، فقال: يا هذا، إن غلامي كان قد كتب إليَّ، فلم أعلمك، فأقلني فيما اشتريته منك (استرد مني ما اشتريته منك) فقال له الآخر: قد أعلمتني الآن، وقد طيَّبتُه لك: قال: فرجع، فلم يحتمل قلبه، فأتاه فقال: يا هذا، إني لم آت هذا الأمر من قبل وجهه، فأحب أن تسترد هذا البيع؛ قال: فما زال به حتى رده عليه (ابن رجب الحنبلي، جامع العلوم والحكم).
6- وكان الحجاج بن دينار؛ قد بعث طعاماً إلى البصرة، مع رجل وامرأة، أن يبيعه يوم يدخل بسعر يومه، فأتاه كتابه: إني قدمت البصرة، فوجدت الطعام منقصاً فحبسته، فزاد الطعام؛ فازددت فيه كذا وكذا؛ فكتب إليه الحجاج: إنك قد خنتنا وعملت بخلاف ما أمرناك به، فإذا أتاك كتابي هذا، فتصدق منه بجميع ذلك الثمن - ثمن الطعام - على فقراء البصرة فليتني أسلم إذا فعلت ذلك (ابن رجب الحنبلي، جامع العلوم والحكم).
فهذه آثار رائعة في اتقاء الشبهة، وتحري الحلال والمحافظة على الأموال الخاصة والعامة، وإن من يقرأ هذا الورع العظيم، وكان ممن يستحل الشبهات أو يتهاون فيها لحري به أن يقلع من فوره، إن كان عنده قلب، أو ذرة من إيمان، أو بقية من ضمير حي !! فالمسلم القابض على دينه، إذا عرضت له شبهة، ينبغي له أن يقف عندها ويتبين حكمها، فإن أفضت إلى حرام أو مكروه اجتنبها، وكذلك الشأن إن تردد حكمها، فإن أفضت إلى حرام أو مكروه اجتنبها، وكذلك الشأن إن تردد الحكم بين الحرمة والكراهة، فأقل درجاته في هذه الحالة أنه مكروه، والكراهة ليست للتنزيه.
وينطبق هذا على الشبه المالية والأخلاقية وغيرهما، فما دام الحكم متموجاً بين الحلال والحرام، غير بيِّن الوجه، فإن الواقع فيه مجازف بنفسه في الوقوع في الحرام لسببين:
أحدهما: احتمال أن يكون في هذا الأمر عناصر محرمة قطعًا فهو يقع فيها مع خليط من الحلال، وينبغي ترك الحلال المخالط للحرام براءة للذمة من الإثم والنقيصة.
ثانيهما: أن تكون الشبهة آتية من مجاورة حدود الحرام فيهون عليه القرب من الحرام والدخول فيه شيئًا فشيئًا (عبد الرحمن حسن حبنكة الميداني، الأخلاق الإسلامية وأسسها).
مختارات