تضخم الوهم
أتعجّب أحياناً من أناس نقابلهم أو نقرأ لهم لما أجده من غرابة فهمهم لأنفسهم، واضطراب تصورهم لذواتهم، وتوهمهم مكانة في العلم أو الدين أو الدنيا فوق ما هم عليه بمفاوز تقلّ أو تزيد، كما أتعجّب من خلْقٍ آخرين يفوقون أولئك في العلم أو الدين أو الدنيا، ولكنهم لا يرون لأنفسهم قدراً، ولا يعتقدون أنهم على شيء، ثم إنه بان لي أن من جملة أسباب ذلك الافتراق بين هاتيك الطوائف أمر يختص بظروف النشأة، والمقادير في تصاريف أمورهم، ونوع اتصالهم بالناس من حولهم، وأبيّن لك الأمر بحسب ما تخيّلته وتتبعته في بعض من أعرف.إن خير ما يوفق الله له الشاب النابه والفتاة النابغة صحبة من طرازها، وصداقات علمية وعملية عالية النوع، من طبقة النابه أو أرفع، ويزيد التوفيق بتيسير الله له تدبير الاتصال بأعالي الناس في السبيل الذي هو نابغ فيه، وزائد في الاتصاف به على سائر أقرانه، من أساتذة كبار، وعلماء بارعين، وأقران سامقين، من أهل دين أو دنيا، فإنه والحالة هذه لا يزال يحتقر نفسه، بل يكاد يبخسها منزلتها، لما يرى من سموق أحوالهم، ثم هو لا ينفك يسوق نفسه للاستزادة من حاله ومقاله، وهو مع ذلك السوْق والتوْق لا تزال الأكابر تفوقه برتوة.
وهذا الذي رأيت في وصفي له لا يتيسر لكل أحد، فسكنى الأقاليم النائية، والغربة، وسوى ذلك قد تحول دون التحقق به، ولكنه من الأقدار التي يكتبها الله لمن يشاء فيكون بسببها ما نظن من صلاح الخُلق، واعتدال النفس، واستقامة الضمير.
هذا، ثم إذا نظرتَ فيمن وقع له نوع موهبة، أو نصف نبوغ، وهو بين طائفة من أقل الناس اشتغالاً بما هو مشتغل به من علم أو دين أو دنيا، وهو لا يزال يتردد بينهم، وربما شيّخوه وكبّروه وعظّموه، فلا يزالون به حتى يضلّوه عن حقيقة نفسه، وهو مع ذلك -في غالب الأمر- مسرور بحاله، وفرح بإجلالهم له، ومغتبط بوهمه، ولذلك ترى بعضهم لما انتشرت وسائل التواصل، وولجها، لربما ضاقت نفسه من انغمار أمره، أو تكدر خاطره من ضعف التوقير الذي كان يجده، والاحتفاء الذي كان يلقاه، ثم عرف -إن أسعفه عقله وساعدته بقايا الموهبة- سعة جهله، ونزول مقامه، إذا قاس حاله بعموم حال النابغين من أهل زمانه.
والذي وجدته من ذلك أكثر مما ذكرته، وللناظر في قولي هذا مزيد نظائر، فإن عقل عقال تأمله، واتخذ التجربة منظاراً = علم أنه يلزم من يجد في نفسه مزيد اختصاص بعلم أو دين، أو موهبة إلهية قلّت أو كثرت، أن يشتد حرصه على التباعد عن من يغرّه في نفسه، وأن يلزم الكبار، ويصاحب من يفوقه في حاله ومقاله، ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، فإن ذلك يقيه بإذن الله هفوات البدايات، وتنفّج الصغار، وتفيهق المدّعين.
مختارات