" العمل في حياة الصحابة رضي الله عنهم "
" العمل في حياة الصحابة رضي الله عنهم "
ولقد كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يسعون على أرزاقهم، ويسلكون طرق الكسب في غير كسل ولا تواكل، فكان منهم التجار البارعون، وهذه أسواق الجاهلية، تشهد بذلك: سوق عكاظ، ومجنة، وذو المجاز، وبنو قينقاع، وحباشة..
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «كانت عكاظ، ومجنة، وذو المجاز، أسواقاً في الجاهلية، فتأثموا أن يتجروا في المواسم، فنزلت: " لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ " [البقرة: 198] في مواسم الحج» (رواه البخاري).
وكانوا يتاجرون في البر والبحر تجارة داخلية وخارجية.
وهاتان رحلتا الشتاء والصيف تشهدان بذلك.
وكان من الصحابة رضي الله عنهم الصناع والزراع ومحترفو سائر الحرف والأعمال.
واشتهر الأنصار بأنهم أهل زرع وبساتين ونخيل.
كما اشتهر المهاجرون بأنهم أهل تجارة وصفق في الأسواق.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يشجعهم على ذلك.
وهذه الأعمال جعلتهم أهل عفة وكرامة واكتفاء، وأصحاب فضل ونفع للآخرين.
وجعلتهم أيضًا في غنى عن الحرام، وفي وقاية من طرق الكسب غير المشروع كالربا والرشوة..الخ.
وفي الحديث الآتي مثال لهمتهم العالية، وأخلاقهم النبيلة:
قال البخاري: حدثنا إسماعيل بن عبد الله قال: حدثني إبراهيم بن سعد عن أبيه عن جده قال: لما قدموا المدينة آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين عبد الرحمن وسعد بن الربيع، قال عبد الرحمن: إني أكثر الأنصار مالاً، فأقسم مالي نصفين، ولي امرأتان، فانظر أعجبهما إليك، فسمها لي، أطلقها، فإذا انقضت عدتها فتزوجها، قال: بارك الله لك في أهلك ومالك؟ أين سوقكم؟ فدلوه على سوق بني قينقاع، فما انقلب إلا ومعه فضل من أقط وسمن، ثم تابع الغدو، ثم جاء يوماً وبه أثر صفرة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «مهيم؟ ( مهيم: سؤال عن الحالة) » قال: تزوجت، قال: «كم سقت إليها؟» قال: نواة من ذهب - أو وزن نواة من ذهب - شك إبراهيم (البخاري بشرح فتح الباري) يعني راوي الحديث.
وقد مات عبد الرحمن بن عوف رضى الله عنه عن ثروة ضخمة من تجارته.
وإعجاب المرء بإيثار سعد وسماحته لا يقل عن إعجابه بنبل عبد الرحمن الذي أبى إلا أن يتاجر، ويزاحم اليهود في أسواقهم، ويكتسب من عرقه ما يعف به نفسه، ويحصِّن به فرجه.
وهذا خباب بن الأرت كان حدادًا، وعبد الله بن مسعود كان راعيًا، وسعد بن أبي وقاص كان يصنع النبال، والزبير بن العوام كان خياطًا، وبلال بن رباح وعمار بن ياسر كانا خادمين، وسلمان الفارسي كان حلاقًا ومؤبرًا للنخل، وخبيرًا بفنون الحرب، والبراء بن عازب وزيد بن أرقم كانا تاجرين (راجع الحافظ ابن حجز في فتح الباري).
ولقد عاب أعداء الإسلام على المسلمين أن الأساكفة كانوا من الأنصار (كما قال ابن قتيبة في المعارف) مما يفيد حرصهم على اكتفائهم الذاتي في مجتمعهم، واحترامهم للعمل المشروع مهما كان شأن المهنة أو الحرفة التي تقيهم من الوقوع في الحرام وطرقه غير المشروعة.
مختارات