" يوم القيامة.. وما أدراك ما يوم القيامة "
" يوم القيامة.. وما أدراك ما يوم القيامة "
أخي المسلم: مثل لنفسك وقد بعثت من قبرك مبهوتًا من شدة الصاعقة شاخص العين نحو النداء، وقد ثار الخلق ثورة واحدة من القبور التي طال فيها بلاؤهم، وقد أزعجهم الرعب مضافًا إلى ما كان عندهم من الهموم والغموم وشدة الانتظار لعاقبة الأمر قال تعالى: " وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ " [الزمر: 68].
وتفكر في الخلائق وذلهم وانكسارهم واستكانتهم انتظارًا لما يقضى عليهم من سعادة أو شقاوة، وأنت فيما بينهم منكسر كانكسارهم متحير كتحيرهم، فكيف حالك وحال قلبك هنالك وقد بدلت الأرض غير الأرض والسماوات، وطمس الشمس والقمر، وأظلمت الأرض، واشتبك الناس وهم حفاة عراة مشاة وازدحموا في الموقف شاخصة أبصارهم، منفطرة قلوبهم، فتأمل يا مسكين في طول هذا اليوم وشدة الانتظار فيه والخجل من الافتضاح عند العرض على الجبار، تبارك وتعالى، وأنت عار مكشوف ذليل متحير مبهوت منتظر ما يجري عليك من السعادة أو الشقاوة، وأعظم بهذه الحال فإنها عظيمة، واستعد لهذا اليوم العظيم شأنه، القاهر سلطانه، القريب أوانه، يوم تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد.
يوم ترى السماء فيه قد انفطرت، والكواكب من هوله قد انتثرت، والنجوم الزواهر قد انكدرت، والشمس قد كورت، والجبال قد سيرت، والعشار قد عطلت، والوحوش قد حشرت، والبحار قد سجرت، والنفوس إلى الأبدان قد زوجت، والجحيم قد سعرت، والجنة قد أزلفت.
وقد وصف الله عز وجل، دواهي يوم القيامة وأكثر من أساميه؛ لتقف بكثرة أساميه على كثرة معانيه فمن أساميه:
يوم القيامة، ويوم الحسرة، ويوم الزلزلة، ويوم الواقعة، ويوم القارعة، ويوم الغاشية، ويوم الراجفة، ويوم الحاقة، ويوم الطامة، ويوم الصاخة، ويوم التلاق، ويوم الجزاء، ويوم الوعيد، ويوم العرض، ويوم الفصل، ويوم الدين، ويوم النشور.
يقول الحارث المحاسبي، رحمه الله واصفًا ما يقع في ذلك اليوم من أهوال:
حتى إذا تكاملت عدة الموتى، وخلت من سكانها الأرض والسماء، فصاروا خامدين بعد حركاتهم، فلا حس يسمع، ولا شخص يرى، وقد بقي الجبار الأعلى كما لم يزل أزليًا واحدًا منفردًا بعظمته وجلاله، ثم لم يفجأ روحك إلا بنداء المنادي لكل الخلائق معك للعرض على الله، عز وجل، بالذل والصغار منك ومنهم.
فتوهم كيف وقوع الصوت في مسامعك وعقلك وتفهم بعقلك بأنك تدعى إلى العرض على الملك الأعلى، فطار فؤادك، وشاب رأسك للنداء، لأنها صيحة واحدة بالعرض على ذي الجلال والإكرام والعظمة والكبرياء فبينما أنت فزع للصوت إذ سمعت بانفراج الأرض على رأسك، فوثبت مغبرًا من قرنك إلى قدمك بغبار قبرك، قائم على قدميك، شاخص ببصرك نحو النداء، وقد ثار الخلائق كلهم معك ثورة واحدة وهم مغبرون من غبار الأرض التي طال فيها بلاؤهم.
فتوهم ثورتهم بأجمعهم بالرعب والفزع منك ومنهم، فتوهم نفسك بعريك ومذلتك وانفرادك بخوفك وأحزانك وغمومك وهمومك في زحمة الخلائق، عراة حفاة صموت أجمعون بالذلة والمسكنة والمخافة والرهبة، فلا تسمع إلا همس أقدامهم والصوت لمدة المنادي، والخلائق مقبلون نحوه، وأنت فيهم مقبل نحو الصوت، ساع بالخشوع والذلة، حتى إذا وافيت الموقف ازدحمت الأمم كلها من الجن والإنس عراة حفاة، قد نزع الملك من ملوك الأرض، ولزمتهم الذلة والصغار.
ثم أقبلت الوحوش من البراري وذرى الجبال منكسة رؤوسهم لذل يوم القيامة بعد توحشها وانفرادها من الخلائق ذليلة ليوم النشور لغير بلية نابتها ولا خطيئة أصابتها، فتوهم إقبالها بذلها في اليوم العظيم ليوم العرض والنشور.
وأقبلت السباع بعد ضراوتها وشهامتها منكسة رؤوسها ذليلة ليوم القيامة حتى وقفت من وراء الخلائق بالذل والمسكنة والانكسار للملك الجبار، وأقبلت الشياطين بعد عتوها وتمردها خاشعة لذل العرض على الله سبحانه، فسبحان الذي جمعهم بعد طول البلاء واختلاف خلقهم وطبائعهم وتوحش بعضهم من بعض قد أذهلهم البعث وجمع بينهم النشور.
حتى إذا تكاملت عدة أهل الأرض من إنسها وجنها وشياطينها ووحوشها وسباعها وأنعامها وهوامها، واستووا جميعًا في موقف العرض والحساب تناثرت نجوم السماء من فوقهم وطمست الشمس والقمر، وأظلت الأرض بخمود سراجها وإطفاء نورها.
فبينما أنت والخلائق على ذلك إذ صارت السماء الدنيا من فوقهم، فدارت بعظمها من فوق رؤوسهم وأنت بعينك تنظر إلى هول ذلك، ثم انشقت بغلظها خمسمائة عام، فيا هول صوت انشقاقها في سمعك، ثم تمزقت وانفطرت بعظيم هول يوم القيامة، والملائكة قيام على أرجائها وهي حافات ما يتشقق ويتفطر، فما ظنك بهول تنشق فيه السماء بعظمها فأذابها ربها.
حتى إذا وافى الموقف أهل السماوات السبع والأرضين السبع واشتد حر الشمس وأدنيت من رؤوس الخلائق، ولا ظل لأحد إلا ظل عرش رب العالمين، فما بين مستظل بظل العرش، وبين مضحو بحر الشمس قد صهرته بحرها واشتد كربه وقلقه من وهجها، ثم ازدحمت الأمم وتدافعت، واجتمع حر الشمس ووهج أنفاس الخلائق وتزاحم أجسامهم، ففاض العرق منهم سائلا حتى استنقع على وجه الأرض ثم على الأبدان على قدر مراتبهم ومنازلهم عند الله، عز وجل، بالسعادة والشقاء، فمنهم من بلغ العرق كعبيه، وبعضهم حقويه، وبعضهم إلى شحمة أذنيه.
فتوهم نفسك وقد علاك العرق، وأطبق عليك الغم: وضاقت نفسك في صدرك من شدة العرق والفزع والرعب، والناس معك منتظرون لفصل القضاء إلى دار السعادة أو إلى دار الشقاء، قال الحسن: ما ظنك بأقوام قاموا لله عز وجل، على أقدامهم خمسين ألف سنة لم يأكلوا فيها أكلة ولم يشربوا فيها شربة.
فتوهم نفسك وأنت واقف بين الخلائق وكل منهم ينادي نفسي نفسي، فيا هول ذلك اليوم وأنت تنادي معهم بالشغل بنفسك والاهتمام بخلاصها من عذاب ربك وعقابه (راجع كتاب " التوهم والأهوال " بتصرف بسيط).
مختارات