" أرض المحشر وصفة الحشر "
" أرض المحشر وصفة الحشر "
ثم انظر كيف يساقون بعد البعث والنشور حفاة عراة غرلا إلى أرض المحشر قال تعالى: " يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ " [إبراهيم: 48] وعن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: يحشر الناس على أرض بيضاء عفراء كقرصة نقي " (رواه البخاري واللفظ له، ومسلم وفيه لفظة " ليس فيها معلم لأحد " من قول النبي صلى الله عليه وسلم) قال سهل أو غيره: ليس فيها معلم لأحد.
أما عن صفة الحشر: ففي حديث أبي هريرة، رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يحشر الناس على ثلاث طرائق؛ راغبين وراهبين، واثنان على بعير، ثلاثة على بعير، أربعة على بعير، عشرة على بعير، يحشر بقيتهم النار، تقيل معهم حيث قالوا، وتبيت معهم حيث باتوا، وتصبح معهم حيث أصبحوا، وتمسي معهم حيث أمسوا» (رواه البخاري ومسلم والنسائي).
وعن قتادة قال حدثنا أنس، رضي الله عنه، أن رجلاً قال يا نبي الله، كيف يحشر الكافر على وجهه يوم القيامة؟ قال: «أليس الذي أمشاه على الرجلين في الدنيا قادرًا على أن يمشيه على وجهه يوم القيامة» قال قتادة: بلى وعزة ربنا (رواه البخاري واللفظ له ومسلم).
وقال تعالى: " يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ * خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ " [المعارج: 43، 44].
الأجداث: هي القبور، والآيتان تصوران خروجهم من القبور في ذلك اليوم منطلقين إلى مصدر الصوت كأنهم يسرعون إلى الأنصاب التي كانوا يعبدونها في الدنيا، ولكنهم اليوم لا ينطلقون فرحين أشرين بطرين كما كان حالهم عندما كانوا يقصدون الأنصاب، بل هم أذلاء، أبصارهم خاشعة، والصغار يعلوهم على النعت الذي كان يعدهم الله عز وجل، به في الدنيا.
الكفار ينادون بالويل والثبور عندما ينفخ في الصور متسائلين عمن أقامهم من رقدتهم: قال الله عز وجل: " وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ * قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ " [يس: 51 -52].
وقد كان أبو محكم الجسري يجتمع إليه إخوانه، وكان حكيمًا، فإذا تلا الآيتين السابقتين بكي، ثم قال: " إن القيامة ذهبت فظاعتها بأوهام العقول، أما والله لئن كان القوم في رقدة مثل ظاهر قولهم، لما دعوا بالويل عند أول وهلة من بعثهم ولم يوقفوا بعد موقف عرض ولا مسألة إلا وقد عاينوا خطرًا عظيمًا، وحقت عليهم القيامة بالجلائل من أمرها، ولكن كانوا في طول الإقامة في البرزخ يألمون ويعذبون في قبورهم، وما دعوا بالويل عند انقطاع ذلك عنهم، إلا وقد نقلوا إلى طامة هي أعظم منه، ولولا أن الأمر على ذلك ما استصغر القوم ما كانوا فيه فسموه رقادًا وإن في القرآن لدليلا على ذلك " فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى " [النازعات: 34] ثم يبكي حتى يبل لحيته ".
ويضيف القرآن ملامح جديدة إلى صورتهم حال بعثهم، فأبصارهم لشدة الهول شاخصة جاحظة، وأفئدتهم خالية إلا من الهول الذي يحيط بهم قال تعالى: " وَلَا تَحْسَبَنَّ اللهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ * مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ " [إبراهيم: 42، 43].
فشتان بين الفريقين وفرق بين الطريقين، أولئك يغدون ركبانًا إلى جنات النعيم ورحمة الرحمن الرحيم، وهؤلاء يسحبون سحبًا إلى نار الجحيم ونكالها الأليم وعذابها المقيم " يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا * وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا " [مريم: 85، 86].
قال ابن عباس رضي الله عنهما: " وفدا: ركبانًا "، وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: " لا والله ما على أرجلهم يحشرون، ولكن بنوق لم ير الخلائق مثلها عليها رحائل من ذهب، فيركبون عليها حتى يضربوا أبواب الجنة (النهاية: للحافظ ابن كثير).
وقوله تعالى: " وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا " أي عطاشًا قاله عطاء وابن عباس، ومجاهد والحسن وقتادة وغير واحد (في ظلال القرآن).
نعم: يحشرون عطاشًا قد اشتد بهم العطش، ولكنهم لا يردون إلى ماء بل إلى جهنم وجحيمها ومهلها وحميمها، والعياذ بالله.
لقد كانوا في الدنيا يرزقون ويسيرون ويذهبون ويجيئون ويشربون من الخمر ما يشاؤون، فلما جاءهم الموت عرف كل منهم سبيله، واتضح له مقيله.
هؤلاء في النور ينظرون، وأولئك في ظلمات لا يبصرون هؤلاء إلى الرحمن يفدون، وأولئك إلى النار يردون.
أهل الإيمان: عندما يبعثون من القبور تستقبلهم ملائكة الرحمن تهدئ من روعهم، وتطمئن قلوبهم " إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ *لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ * لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ " [الأنبياء: 101-103].
الفزع الأكبر: قال ابن عباس، رضي الله عنهما، هو النفخ في الصور (تفسير القرآن العظيم لابن كثير).
وقال الله عز وجل: " يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ *الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِين " [الزخرف: 68، 69].
وعن شداد بن أوس رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «قال الله تعالى: وعزتي وجلالي، لا أجمع لعبدي أمنين ولا خوفين، إن هو أمنني في الدنيا أخفته يوم أجمع عبادي، وإن هو خافني في الدنيا أمنته يوم أجمع عبادي» (حسن صحيح الجامع).
مختارات