" علاج اتباع الهوى "
" علاج اتباع الهوى "
الحق أن هوى النفس لا يكاد ينجو منه أحد، وهذه الأهواء ما دامت حديث نفس فإن صاحبها لا يلام عليها، لكن إن اتبعها وأظهرها قولاً أو فعلاً فإنه يلام على ذلك.
قال شيخ الإسلام – رحمه الله -: ونفس الهوى – وهو الحب والبغض الذي في النفس – لا يلام عليه فإن ذلك قد لا يملك، وإنما يلام على اتباعه كما قال تعالى: " يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ " [ص: 26]. وقال تعالى: " وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ " [القصص: 50] وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ثلاث منجيات: خشية الله في السر والعلانية والقصد في الفقر والغنى، وكلمة الحق في الغضب والرضا، وثلاث مهلكات: شح مطاع، وهوى متبع، وإعجاب المرء بنفسه» (الحديث حسنه المحدث الألبانى انظر صحيح الجامع الصغير) (مجموع الفتاوى).
ويشهد لعدم اللوم على حديث النفس قوله صلى الله عليه وسلم: «إن الله تجاوز عن أمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم» (رواه البخاري ومسلم ).
فمنع ورود الهوى على النفس أمر محال، وإنما يكلف الإنسان بالاحتراز منه وعدم اتباعه.
يقول الشيخ عبد الرحمن المعلمي: «ولم يكلف العالم بأنه لا يكون له هوى، فإن هذا خارج عن الوسع وإنما الواجب على العالم أن يفتش نفسه عن هواها حتى يعرفه ثم يحترز منه، ويمعن النظر في الحق من حيث هو حق، فإن بان له أنه مخالف لهواه آثر الحق على هواه...» (القائد إلى تصحيح العقائد ضمن التنكيل).
وفي الحقيقة فإن كف النفس عن هواها دليل على القوة والحزم، والعكس بالعكس ويمكن أن يمثل لذلك بحال من يغضب فيكظم غيظه ويمنع جوارحه عن التعدي بالقول أو الفعل، ويعفو عمن ظلمه، ويعطي من حرمه، ويصل من قطعه، وغير ذلك مما تضافرت النصوص بمدح فاعله كما قال تعالى: " وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ " [آل عمران: 134] وقال تعالى: " وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ " [الشورى: 43] وقال سبحانه وتعالى: " وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى " [البقرة: 237]. وقال صلى الله عليه وسلم: «ليس الشديد بالصُّرَعة إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب» (رواه مسلم) وغير ذلك من النصوص المعلومة الدالة على هذا المعنى.
ولا شك أن مغالبة الهوى ومجاهدته أمر صعب على النفوس، كما قال أبو العتاهية:
أشد الجهاد جهاد الهوى وما كرَّم المرء إلا التقى
وأخلاق ذي الفضل معروفة ببذل الجميل وكف الأذى (ديوان أبي العتاهية)
ولذا كان الخوف من الله ومنع النفس عن هواها موجبًا لدخول الجنة، كما قال تعالى: " وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى " [النازعات: 40-41] وصار جهاد الهوى أفضل الجهاد، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أفضل الجهاد أن يجاهد الرجل نفسه وهواه» (الحديث صححه المحدث الألباني انظر صحيح الجامع الصغير) وما ذاك إلا لأنه إذا تغلب على هواه عمل الطاعات واجتنب المحرمات، بخلاف ما لو كان إلهه هواه.
وعلى كل حال فإذا داوم الإنسان على مجاهدة نفسه ومغالبة هواه ومخالفته شعر بلذة وأحس بعزة ونطق بالحكمة. وقد قال بعض الحكماء: «أعز العز الامتناع من ملك الهوى» وقال بعض البلغاء: «خير الناس من أخرج الشهوة من قلبه وعصى هواه في طاعة ربه». وقال بعض الأدباء: «من أمات شهوته فقد أحيا مروءته» وقيل لبعض الحكماء: «من أشجع الناس وأحراهم بالظفر في مجاهدته ؟ قال: من جاهد الهوى طاعة لربه واحترس في مجاهدته من ورود خواطر الهوى على قلبه» (انظر هذه الحكم والأقوال في منهاج اليقين شرح كتاب أدب الدنيا والدين).
وقال سفيان الثوري: «أشجع الناس أشدهم من الهوى امتناعًا» (بهجة المجالس، لابن عبد البر).
وقيل ليحيى بن معاذ: من أصح الناس عزمًا؟ قال: الغالب لهواه.
وقال بعض العباد: أشرف العلماء من هرب بدينه من الدنيا واستصعب قيادُه على الهوى.
وقال معاوية: « المروءة ترك اللذة وعصيان الهوى».
وقال بشر الحافي: «من جعل شهوات الدنيا تحت قدميه فرق الشيطان من ظله، ومن غلب علمه هواه فهو الصابر الغالب، واعلم أن البلاء كله في هواك والشفاء كله في مخالفتك إياه» (انظر هذه الأقوال وغيرها في ذم الهوى لابن الجوزي).
والمقصود: أن جهاد الهوى صعب لكن في قهره لذة وعزة تحدو الإنسان إلى الاستمرار في مغالبة هواه وتسهلها عليه متى ما أخلص النية وصدق الطوية.
ويمكن أن يقال – على جهة العموم – بأن علاج الهوى هو في مجانبة الهوى والابتعاد عن التلبس بشيء من مظاهره السابقة ويعين على ذلك معرفة أضراره وأخطاره.
وأما على جهة التفصيل فإن علاج الهوى يكون بأمور منها:
أولاً: خشية الله ومراقبته في القول والعمل وفي السر والعلن وتحري الصدق والعدل والقسط مع الأقربين والأبعدين ومع الموافقين والمخالفين مع الأصدقاء والأعداء، كما قال تعالى: " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا " [النساء: 135].
قال الحافظ ابن كثير: على هذه الآية: «يأمر تعالى عباده المؤمنين أن يكونوا قوامين بالقسط أي العدل فلا يعدلوا عنه يمينًا ولا شمالاً، ولا تأخذهم في الله لومة لائم ولا يصرفهم عنه صارف، وأن يكونوا متعاونين متساعدين متعاضدين متناصرين فيه، وقوله: " شُهَدَاءَ لِلَّهِ " كما قال: " وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ " أي أدوها ابتغاء وجه الله، فحينئذ تكون صحيحة عادلة حقًا خالية من التحريف والتبديل والكتمان، ولهذا قال: " وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ " أي اشهد الحق ولو عاد ضررها عليك، وإذا سئلت عن الأمر فقل الحق فيه ولو عادت مضرته عليك، فإن الله سيجعل لمن أطاعه فرجًا ومخرجًا من كل أمر يضيق عليه. وقوله: " أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ " أي وإن كانت الشهادة على والديك وقرابتك فلا تراعهم فيها بل اشهد بالحق وإن عاد ضررها عليهم، فإن الحق حاكم على كل أحد وقوله: " إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا " أي لا ترعاه لغناه ولا تشفق عليه لفقره، الله يتولاهما، بل هو أولى بهما منك وأعلم بما فيه صلاحهما، وقوله: " فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا " أي فلا يحملنكم الهوى والعصبية وبغض الناس لكم على ترك العدل في أموركم وشؤونكم، بل الزموا العدل على أي حال كان» (تفسير ابن كثير).
وقال سيد قطب: رحمه الله – في تفسيره لهذه الآية: «كونوا قوامين بالقسط – حسبة لله – لا لحساب أحد من المشهود لهم أو عليهم. ولا لمصلحة فرد أو جماعة أو أمة ولا تعاملا مع الملابسات المحيطة بأي عنصر من عناصر القضية ولكن شهادة لله، وتعاملا مع الله، وتجردًا من كل ميل.. ومن كل هوى، ومن كل مصلحة، ومن كل اعتبار.
«ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين»: وهنا يجند المنهج النفس في وجه ذاتها وفي وجه عواطفها تجاه ذاتها أولاً، وتجاه الوالدين والأقربين ثانيًا... وهي محاولة شاقة... أشق كثيرًا من نطقها باللسان. ومن إدراك معناها ومدلولها بالعقل... إن مزاولتها عمليًا شيء آخر غير إدراكها عقليًا... ولكن المنهج يجند النفس المؤمنة لهذه التجربة الشاقة.
والهوى صنوف شتى ذكر منها بعضها... حب الذات هوى...وحب الأهل والأقربين هوى، والعطف على الفقير في موطن الشهادة والحكم هوى... ومجاملة الغني هوى، ومضارته هوى، والتعصب للعشيرة والقبيلة والأمة والدولة والوطن، في موضع الشهادة والحكم هوى، وكراهة الأعداء ولو كانوا أعداء الدين في موطن الشهادة والحكم هوى... وأهواء شتى الصنوف والألوان... كلها مما ينهى الله الذين آمنوا عن التأثر بها، والعدول عن الحق والصدق تحت تأثيرها» (في ظلال القرآن، باختصار).
فالعدل والإنصاف واجب حتى مع الكفار كما قال تعالى: " وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا " [المائدة: 2]. وقال تعالى: " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ " [المائدة: 8].
قال القرطبي في هذه الآية: «واشهدوا بالحق من غير ميل إلى أقاربكم وحيف على أعدائكم... ولا يجرمنكم شنآن قوم على ترك العدل وإيثار العدوان على الحق... ودلت الآية أيضًا على أن كفر الكافر لا يمنع من العدل عليه...» (تفسير القرطبي باختصار).
ويشهد لهذا قول عبد الله بن رواحة – رضي الله عنه – لما بعثه النبي صلى الله عليه وسلم، يخرص على أهل خيبر ثمارهم وزروعهم فأرادوا أن يرشوه ليرفق بهم فقال: والله لقد جئتكم من عند أحب الناس إلي ولأنتم أبغض إلي من عدتكم من القردة والخنازير، ولا يحملني بغضي إياكم وحبي إياه على أن لا أعدل عليكم، فقالوا: بهذا قامت السماوات والأرض (رواه البيهقي، في دلائل النبوة).
والمقصود: أن على الإنسان أن يتحرى الصدق والعدل فيما يأتي وما يذر وفيما يقول ويفعل، لا بهوى النفس ورغبات الناس، وعليه ألا تزيله المواقف العابرة عن الأصول الثابتة.
ففي مقام الولاء والبراء مثلاً عليه أن ينطلق من الأصل الثابت وهو موالاة المؤمنين كما قال تعالى: " وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ " [التوبة: 71] فلا تزول هذه الموالاة بخلاف عابر أو جرم ظاهر لا يخرج عن دائرة الإسلام، وإن كانت هذه الموالاة تزيد وتنقص بحسب الطاعة والمعصية.
كما أن على المسلم أن ينطلق من الأصل الثابت في العداء والبراء من الكافرين، فلا يتولاهم لمعروف صنعوه أو عمل أقاموه لقوله تعالى: " لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ " [المجادلة: 22] وقوله تعالى: " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ " [المائدة: 51].
قال شيخ الإسلام رحمه الله: «وليعلم أن المؤمن تجب موالاته وإن ظلمك واعتدى عليك، والكافر تجب معاداته وإن أعطاك وأحسن إليك، فإن الله – سبحانه – بعث الرسل وأنزل الكتب ليكون الدين كله لله، فيكون الحب لأوليائه والبغض لأعدائه، والإكرام لأوليائه والإهانة لأعدائه، والثواب لأوليائه والعقاب لأعدائه، وإذا اجتمع في الرجل الواحد خير وشر، وفجور وطاعة، ومعصية، وسنة وبدعة، استحق من الموالاة والثواب بقدر ما فيه من الخير، واستحق من المعاداة والعقاب بحسب ما فيه من الشر، فيجتمع له من هذا وهذا، كاللص الفقير تقطع يده لسرقته، ويعطى من بيت المال ما يكفيه لحاجته وهذا هو الأصل الذي اتفق عليه أهل السنة والجماعة. وخالفهم الخوارج والمعتزلة ومن وافقهم» (مجموع الفتاوى).
وبعد هذا فإنه يحق للإنسان أن يعجب من أناس لا يستطيعون – عمليًا وواقعيًا – أن يوالوا الشخص من وجه ويعادوه من وجه آخر بل لا يعرفون إلا الموالاة جملة أو المعاداة جملة، بل ربما يعادون بعض المسلمين كعدائهم للكافرين.
وليس معنى هذا الكلام ترك الإنكار على المبطلين ولا الرضا بعمل المفسدين والعاصين ولا السكوت عن التحذير من ضلال المنحرفين، بل يواجه الزائغون بالطرق المشروعة من الهجر والإنكار أو التأليف حسب ما تقتضيه المصلحة مع كره أعمالهم وقلة الحب لهم وبقاء أصل الموالاة الإيمانية لهم ما داموا في دائرة الإسلام.
وعلى كل حال فالميزان الدقيق في هذه المسألة إنما يحصل بالعلم والعدل والخشية لله، فبالعلم يرتفع الحكم بالجهل، وبالعدل يبعد الإنسان عن الظلم، والخشية لله هي التي تورث الإنسان ورعًا ومراقبة وتحريًا فيما يقوله ويفعله، وتضبط مشاعره وانفعالاته، وتحجزه عن بغيه وعدوانه.
مختارات