" عودة وإنابة "
" عودة وإنابة "
آلام وهموم تمطر بوابلها على تلك الأسرة المسكينة مما جعلها تعيش في متاهات طويلة مع شروق شمس كل يوم.. ها هي شلالات الحزن تداهم ذلك البيت الصغير الكئيب ومما زاد حزنهم وكآبتهم سقوط رب الأسرة وعمادها مغشيًا عليه كان ذلك ليلة البارحة.. فالمرض يزداد عليه يومًا بعد يوم.. بات الكل في حزن وألم ليس بيدهم سوى الدموع واللجوء إلى الله كل ذلك نتيجة لعقوق وطيش قد تأصل في بكرهم أحمد، فقد ملوا وسئموا من تصرفاته الهوجاء وقساوة قلبه رغم توصيات والدته وتوجيهاتها بل ودموعها.. خوفته بالله حذرته من مغبة فعله هذا، ولكنه في كل مرة يقابل كلماتها بصلف وعناد ولا مبالاة.. حذره والده ووجهه بل وأغلظ عليه حرمه من أشياء كثيرة لعله يثوب إلى رشده ولكن لا جدوى من ذلك كله ازدادت حالة أحمد سوءًا والأسوأ من ذلك إخفاقه في دراسته واستهتاره بطاعة ربه وسخريته حتى من والديه، رثى الجميع لحاله وبذل الأقارب ومن حوله قصارى جهدهم في نصحه وإرشاده فهم يعلمون مدى منزلة أحمد عند والديه ولكن جميع محاولاتهم باءت بالفشل.
زارهم يومًا إمام المسجد وأخذ يصبر والد أحمد ودعا لابنه بالهداية بعد الضلال والطاعة بعد المعصية والإنابة والتوبة بعد الغفلة والضياع.. بكى الوالد وقال: ليته كان مطيعًا وبارًا فأنا لا أضمن عمري فإذا رحلت من سيكون عونًا لأمه وأختيه.. بل ليته يموت وأرتاح ويرتاح غيري من شره وأذاه، كم كنت أتمنى أن يكون علمًا شامخًا في الخير.. كنت أتمنى أن يكون داعية صالحًا أو إمامًا مسجد أو مجاهدًا في سبيل الله.. ثم أجهش بالبكاء مرة أخرى فبكى معه الإمام أسى وحرقة لشاب من شباب المسلمين يسلك طريق الضلال وينحرف عن جادة الصواب حدَّث نفسه هذا ما يريده أعداء الإسلام ويسعون جاهدين لأجله كم يسعدهم أن يروا شباب هذه الأمة تائهين ضائعين ضالين لا هدف لهم ولا غاية.. توجه الإمام إلى الأب حاثًا له على الصبر والثبات وأن يدعو لابنه بالهداية والصلاح.
توالت الأيام العصيبة واللحظات المريرة على أسرة أحمد فهو أملهم المنشود بعدالله وأحمد ما زال على حاله يأتي ليأكل ويشرب وينام ويأخذ ما بدا له من نقود ثم يولي خارجًا تاركًا خلفه أبًا حزينًا مريضًا وأمًا تجرعت الهموم من تصرفات ابنها.
يخرج ليعبث بتلك النقود كيف شاء وهكذا.
لقد تبلد حسه وغطت الغفلة قلبه، لقد أصبح كالصخرة الصماء التي لا تؤثر فيها المواعظ ولا الدموع ولا التوسلات التي تنهال عليه من والديه.
ذات يوم وكان يوم جمعة خرج أحمد مبكرًا مع أصدقائه وكعادته فهو لا يعرف لهذا اليوم حرمة ولا فضلاً.. لا يبالي بصلاة ولا صيام ولا عبادة خرج مع رفقة السوء وبعد انتهاء الخطبة والصلاة أراد العودة إلى البيت ليأخذ نقودًا ويكمل بها بقية يومه، اقترب من المنزل وإذ به يرى والده وقد ارتسمت على محياه سيما الوقار والإجلال وروحانية الصلاة.
أما أحمد فقد كان مكفهر الوجه مقطب الجبين تكاد الشرارة تخرج من عينيه، يكسو وجهه الكآبة والظلمة والوحشة قد أصبح قلبه أقسى من الحجر وقف في وجه أبيه قائلاً له: أعطني نقودًا وبسرعة فأصدقائي في انتظاري هيا بسرعة.
تنهد الأب وقد تمالك أعصابه فهما في الشارع.. قال له متسائلاً: هل صليت الجمعة يا أحمد؟ صرخ أحمد في وجه أبيه: أقول لك أعطني نقودًا، وتقول هل صليت الجمعة.. ما هذا التخلف.. يبدو أن كبر سنك قد أثر فيك وفي سمعك.
قال الأب بانفعال: اغرب عن وجهي أيها العاق.. الفاسد، اذهب لا أريد أن أراك هنا مرة أخرى سأدعو الله عليك.. اذهب لا بارك الله في ابن مثلك.. وبينما الأب يتكلم ويصرخ وقد تجمع الناس والجيران يحاولون تهدئة الأب فهو ما زال يعاني وطأة المرض إذ بأحمد تأخذه العزة بالإثم فينسى نفسه.. وينسى من حوله.. بل وينسى ربه.
لترتفع اليد العاقة وتبطش بالأب المسكين وتضربه.. ضرب أحمد والده وعلى مرأى من الجميع لم يخف الله في السماء.. ولم يرق قلبه لوالده الذي أضناه مر السنين في تنشئة وتربيته ولكن ذلك لم يثمر فيه.. كما أنه لم يستحي من الناس والذين كادوا يفتكون به لولا أن رفقة السوء انتشلته فحملوه في سيارتهم ليغادروا المكان إلى حيث الفجور والفساد.. ألأم وابنتها يتصارخن من داخل البيت.. بكى الأب بدل الدموع دمًا، وقبل ذلك بكى قلبه لهذا الموقف المخزي الذي أوقفه ابنه إياه.. لقد أبكى هذا الموقف كل من حضر من الناس.. أي زمن هذا يعيشه هذا العاق.. وبأي قلب متفطر سيكون قلبك أيها الأب المسكين؟
لم يَدْعُ عليه الأب بل دخل منزله واستقبل القبلة ورفع يديه يدعو له: اللهم أهد أحمد، اللهم يسر له سبل الصلاح.. اللهم اغفر له واعف عنه.. اللهم أصلح لي ابني الوحيد.. والأم تؤمن على دعائه.
توالت الأيام.. وانقطعت أخبار أحمد، بل إنه لم يعد يرى في جنبات حيه.. ومضت على تلك الحادثة المخزية قرابة السنة وأحمد مختف لا يبدو للعيان.. أما والده فقد اكتوى قلباهما بنار بُعْده عنهما.. لم يهدأ لهما بال.. ولم يقر لهما قرار بحثًا عنه تحريًا عن أخباره بذلا جهدًا في السؤال عنه وعن أحواله.. وإذ بالأمر يتضح إنه يقبع في السجن بتهمة القبض عليه وبحوزته مخدر (حشيش) وهذه نهاية حتمية للانسياق في طريق الضلال والرفقة السيئة، وقبل ذلك البعد عن الله.
تلاطمت الآلام من جديد على قلب ذلك الأب المكلوم وبدأ يحسب مسافات الحنين والعطف داخل فؤاده وتناسى كل ألوان العقوق والتي تذوق مرارتها من فلذة كبده كما حرقت اللوعة والحسرة فؤاد أمه والتي سكبت الدموع الحرى على مصير ابنها وقرة عينها.. لم يتركوا أحمد وحيدًا في محنته هذه.. بينما تخلى عنه رفاقه، بل وتبرؤوا منه، لقد وقف معه أهله وساندوه في أزمته.. إنهم يدعون الله أن يفرج عن أحمد.. وأنْ يصلح حاله ويفتح على قلبه.. ها هو أحمد.. تتضح له الرؤية وتتكشف له الأمور فيعتصر قلبه حسرة وأسى على تلك الأيام الخوالي في الضلال والضياع.
ها هي تلك الصورة المخزية تتراءى أمام ناظريه بل لا تكاد تفارق مخيلته.. إنه يتأمل تلك اليد الغادرة التي بطشت بأعز الناس إليه كيف فعل ذلك كيف استجرأ على ذلك حدَّث نفسه لو لم يكن حرام علي لقطعتها.
ذرفت دموع الندم من مقلتي أحمد.. لقد كان ضحية سهلة وفريسة مستساغة لقرناء السوء.. ردد أحمد لا شعوريًا لا بارك الله فيهم ولا في صداقتهم وما هي إلا دقائق حتى أعلن نداء الحق من المسجد المجاور وقت دخول الصلاة.. فصرخت آلام السنين من داخل كوامن نفسه وانسابت الدموع مجددًا من مقلتيه علّها تغسل درن الماضي المُر ونتنه.. آه ما أجمل هذا النداء العذب وما أعذب صوت الحق وهو يتردد في الأرجاء سبحان الله وكأني لأول مرة أسمعه لقد كان قلبي ملبدًا بظلمة المعاصي والذنوب أحس بالخفة والنشوة والارتياح فقام للوضوء وصلى الله بخشوع وتأني وأقبل على رب غفور رحيم.
هكذا استمرت حياة أحمد في السجن.. إنابةً وتوبةً وندمًا على ما فات وعودة إلى الله، ما أروع هذه الحياة.. حياة الإيمان والطاعة والطمأنينة.. إنها حقًا الراحة والسعادة.. هذا ما كان يردده أحمد دائمًا.
خرج أحمد للحياة إنسانًا آخر يحمل بين جنبيه قلبًا متفطرًا وجبينًا أغر وهامة شامخة، بل وهمة عالية تعانق عنان السماء ذهب إلى والديه وقبل رأسيهما وخضع بين يديهما وبكى على سالف عهده معهما.. لا يريد من الدنيا سوى رضا الله ثم رضا والديه.
أقسم ألا يبيت تلك الليلة إلا بين جنبات مكة المكرمة ونفحاتها العبقة، استأذن والديه في ذلك فأذنا له بل وشجعاه عليه.. فكم يسعدهما أن يكون لهما ابن صالح يدعو لهما.
ذهب هناك واعتمر وصلى وأناب.. بكى واعتبر.
وعندما عاد إلى الرياض أقسم مرة أخرى ألا يعيش إلا بين مدفع ورشاش وحجر أشم على جبهات أفغانستان.. حمل أمتعته وزاده لسفره ورحل هناك حيث الشهادة والجهاد بالنفس والمال، رحل من ليلته تلك إلى الجبال الشم والحياة الإيمانية والسعادة الحقيقية.
وبعد رحيل أحمد بشهر إلى الجهاد وبعد التدريبات المكثفة على كيفية استخدام الرشاش والمدافع وبعد أن أصبحت النفوس الأبية تتوق، بل وتتشوق لنيل الشهادة في سبيل الله فيتسارع الشباب يقدمون أرواحهم ونفوسهم رخيصة في سبيل الله.. إذا بثلة من الشباب الصالحين يفوح عبق التقى والصلاح والخير من محياهم يزورون بيت أحمد فيستقبلهم والده بالحفاوة والترحاب خاصة بعد أن عرف أنهم أصدقاؤه الصالحون والذين شاركوه الخير في أرض المعركة.. سأل متلهفًا عن حال أحمد وأخباره قالوا له أبشر يا عم أحمد بخير وفضل من الله.. أبشر فقد استشهد أحمد في ساحة الجهاد.. لقد مات وهو يردد الشهادة وقد ارتسمت محياه ابتسامة الرضى والسعادة.. حينها بكى الأب واسترجع ورفع يديه للسماء قائلاً: الحمد لله الذي شرفني بشهادته مع المؤمنين الأفذاذ الأبطال وكأنها جالت بخاطر الوالد صورة أحمد المظلمة عندما كان عاقًا لوالديه.. عاصيًا لخالقه.. تافهًا لا قيمة له ولا قدر.. الكل يخشاه ويحذر منه، ومن ثم صورته المشرقة وعزيمته القوية وإيمانه الصادق، بل وهمته العالية والتي جعلته يأبى إلا أن يموت في أحضان الدبابة والرشاش والمدفع.. يموت لتكون كلمة الله هي العليا وكلمة الذين كفروا هي السفلى.. اهـ.
نحسبه كذلك ولا نزكي على الله أحدًا.
مختارات