" قلوب من حجر "
" قلوب من حجر "
كان مريولها باليًا وفيه بعض الشقوق يبدو أنه نفس مريول العام، إنه ملفت للانتباه والعجيب أن أخواتها من أبيها معها في نفس المدرسة ولكنهن على خلاف ذلك تمامًا. المريول جديد، والحقيبة غالية، بل حتى رابطات الشعر من أفخر الأنواع.
كانت فاطمة تبدو هزيلة خائفة مذعورة يكسو وجهها الكآبة والحزن بينما أخواتها يضحكن ملء أفواههن يشترين ما لذ وطاب يسرن بزهو وخيلاء.. شعرت أن في الأمر شيئًا.. ذات يوم وكانت بدايات الشتاء لم يكن على الفتاة أي ملابس تقيها البرد ما عدا ذلك المريول الممزق، وإذا بها ترتعش كعصفور يحتضر.. استدعيتها.. سألتها: لماذا لم تلبس معطفًا يقيك البرد.. أو حتى ملابس داخلية.. ألا تشعرين بالبرد؟!!
ردت بعينين زائغتين.. وعبارات مقطعة.. معلمتي.. ليس عندي معطف أو حتى ملابس داخلية.
سألت الفتاة أين أمك يا فاطمة نظرت إلي باستغراب.. ماذا أمي؟!!
نعم أمك يا عزيزتي.. امتلأت عيناها بدمعات حارة حاولت إخفاءها وتمتمت.. أمي يا أستاذة ليست معنا.. أصابتني غصة في حلقي قلت لها.. لماذا يا بنيتي.. أين هي؟!!
قالت: إنها مطلقة.. طلقها أبي منذ زمن.
قلت: وهل تسكنين مع والدك وزوجته؟!!
أجابت: نعم.
حسنًا.. كيف زوجة أبيك معك؟!!
سرت رعشة غريبة في جسدها الواهن عندما طرحت هذا السؤال وانقلب وجهها وكأنها لا تريدني أن أتحدث عن زوجة أبيها أو آتي بسيرتها.
استكملت قائلة.. فاطمة هل زوجة أبيك تقسو عليك؟!
هزت رأسها بالإيجاب.
هل تضربك؟!! قالت: إيه يا معلمتي.. ليت الأمر يقتصر على ذلك إنها تضربني وتحرمني من الأكل حتى الملابس تشتري لبناتها، أما أنا فلا.. لا تجعلني إلا أكنس وأنظف وأغسل بل تجعلني أغسل حتى ملابس بناتها.
اقشعر جلدي من كلماتها.. إلى هذا الحد وصل الظلم والطغيان ببعض البشر، لا حول ولا قوة إلا بالله ! أكملتُ.. ووالدك هل يعلم بهذا الأمر؟!!
قالت: نعم بل ويشجعها.. أبي يكرهني.. يقول لي دائمًا إنك ستكونين مثل أمك في كل شيء.. بل إنه يضربني إذا اشتكت له زوجته مني.
فاطمة هل تعصين زوجة أبيك؟!!
ردت بكل حماس: أبدًا والله.. فأنا أخاف منها..ولكنها أحيانًا تكذب علي وتقول لأبي إنني فعلت وفعلت، وأنا لم أفعله به حتى بناتها إذا رأوني أذاكر دروسي بعد انتهائي من أشغالي التي أمرتني بها زوجة أبي يحاولن إشغالي فإذا لم ألتفت إليهن يذهبن إلى أمهن ويشكينني ويقلنْ: إنني أعيرهن بالفشل.. وأصفهن بالغباء.. والله كله كذب وبهتان وهي بدورها تأتي وتضربني بل لا أنسى ذلك اليوم وكان علي اختبار نهائي كنت أذاكر دروسي وبسبب وشاية بناتها جاءت إلي ثائرة وسحبت الكتاب من بين يدي بل ومزقته أمامي.. لم أتمالك نفسي من البكاء.. تذكرت أمي الحنون والتي حرموها مني.. ولأن أبي يكرهها صب جم حقده وكرهه علي لأنني ابنتها وأشبهها كثيرًا.
فأنا لا أنسى عندما كنت في السادسة من العمر كان يرسلني في ساعات متأخرة من الليل لأشتري لهم الحاجات.. كنت أجهش بالبكاء لشدة الخوف.. أتوسل إلى أبي أن يعفيني من ذلك فكان يجبرني على الخروج ولا يرق قلبه لحالي.. كم مرة تعرضت للدهس من قبل السيارات.. كم مرة كدت أضيع.. كم.. كم.. وكم.. قلبي ممتلئ بالجراح والأحزان والآلام.. ألا يكفي بُعد أمي عني.. ألا يكفي هذه الحياة المريرة التي أعيشها في كنف أب لا تعرف الرحمة إلى قلبه طريقًا.. وامرأة أب لا تخاف الله ولا تتقيه.
والله يا معلمتي إنني أعاني القسوة.. ولا أستطيع التفوه بكلمة أو أطلب منهم شيئًا لأن مصيري سيكون الحبس في غرفة سفلية من البيت الموحش ليس هذا فحسب، بل والضرب.
لقد تقطع قلبي وأنا أسمع مأساتها واعتصر فؤادي حزنًا لحالها.. أتساءل: كيف أن فتاة تمكث بيننا تعاني كل هذا ولا أحد يشعر بها.. كان الله في عونك يا صغيرتي.. كيف تحملت كل هذا؟!! حينها صبَّرتها.. ونصحتها أن تلتجئ إلى خالقها ووعدتها خيرًا.. اشتريت لها بعض الملابس الداخلية.. ومعطفًا.. وحقيبة جديدة.. وحذاء ودفاتر وبعض المستلزمات الأخرى.. وغلَّفتها على شكل هدية وقدمتها لها، وقلت لها: لك مطلق الحرية في الشراء من مقصف المدرسة باسمي ولا عليك من الحساب.. أحسست أن هذه الأمور بسيطة بالنسبة لفتاة غضة عانت ما عانته.. ولاقت المرارة ولعل الله يحدث بعد ذلك فرجًا ومخرجًا.. كم كانت فرحة فاطمة بهذه الأشياء البسيطة والتي طالما حُرمت منها، وفي اليوم التالي أتفاجأ بالصغيرة وقد أتت حزينة.. والدموع تملأ مقلتيها.. قالت لي: لقد رأى أبي وزوجته تلك الهدايا التي أهديتيها لي.. فجنَّ جنونهم.. وسحبوها مني بل وألقوها في سلة المهملات.. ثم انكبوا علي ضربًا وشتمًا وهددني أبي بأنني لو أخذت مثل هذه الأشياء مرة أخرى فسيطردني من البيت.. اضطررت في هذه الحالة إبلاغ الإخصائية الاجتماعية بهذا الأمر لعل يكون لها دور في نصح الأب وزوجته.. ولعلنا نخفف عن الفتاة قليلاً، وبالفعل بذلنا جهودًا مضنية كي نصلح من هذا الأمر.. ولكن عقلية الأب المتحجرة..وزوجته المتعنتة حالت دون ذلك.. سعينا جاهدين أن نتحدث مع زوجة الأب.. أن نخوفها بالله.. أن.. أن، ولكن كل محاولاتنا باءت بالفشل.. فاضطررنا إلى تخصيص ملابس شتوية للفتاة وجعلها في المدرسة تلبسها إذا حضرت إلى المدرسة.. خاصة بعد اشتداد البرد وأصبح قارسًا لا يطاق ولا يحتمل – وتخلعها إذا كانت ستعود البيت.. وحقيقة كنت بين الحين والآخر أفكر كيف أن الأب نبع العطف والحنان والرحمة والشفقة يكون بهذه القسوة والشدة.. ولكن فعلاً إذا اختفى الوازع الديني عن العبد وغفل عن مراقبة علاّم الغيوب له.. فإنه يفعل أشد من ذلك.. لم ينته الأمر هنا.. بل جاءت فاطمة في إحدى الأيام باكية متألمة ورفضت أن تلبس الملابس التي خصصناها لها.. سألتها: ماذا بك يا فاطمة؟!! هل حدث شيء؟
قالت: أرجوك يا معلمتي لقد أتعبتك معي.. ولاقيت من أجلي الكثير وبصراحة من اليوم وصاعدًا لن ألبس شيئًا؟!! تعجبت منها وقلت لها: لماذا ما السبب؟!!
وبعد محاولات شتى أخبرتني بالسبب وهو أن أخواتها من أبيها رأينها وهي تلبس هذه الملابس الشتوية في المدرسة، فأخبرن والدتهن.. والتي هي بدورها نقلت الأمر إلى زوجها – أبو فاطمة – وبالطبع كان مصيرها الضرب والحبس كالمعتاد والتهديد والوعيد.. حينها توجهت إلى الحي القيوم داعية أن يرأف بالصغيرة وأن يكشف عنها هذا الظلم والضر وعجبًًا أي قلوب هذه التي تستحيل أقسى من الحجر.. ألا يخشون أن يحل عليهم سخط الله وعقابه.. ألا يخافون الله الذي يمهل ولا يهمل..؟!!
كان الله في عونك يا فاطمة.. وألهمك الصبر والثبات..وأصلح لك أباك وزوجه..
مختارات