باقى الطبقات من المسرفين والمنافقين والجن
الطبقة الثالثة عشرة: طبقة أهل المحنة والبلية.
وهؤلاء قوم مسلمون خفت موازينهم، ورجحت سيئاتهم على حسناتهم فغلبتها السيئات.
فهؤلاء يدخلون النار، فيكونون فيها على مقدار أعمالهم السيئة، فمنهم من تأخذه النار إلى كعبيه.. ومنهم من تأخذه النار إلى أنصاف ساقيه.. ومنهم من تأخذه النار إلى ركبتيه.. وهكذا.
فيبقى هؤلاء في النار على قدر أعمالهم، ثم يخرجون منها، فينبتون على أنهار الجنة، فيفيض عليهم أهل الجنة من الماء حتى تنبت أجسادهم، ثم يدخلون الجنة إذا هُذِّبوا ونُقُّوا وطُهِّروا من الذنوب.
وهم الطبقة الذين يخرجون من النار بشفاعة الشافعين، وهم الذين يأمر الله سيد الأنبياء مراراً أن يخرجهم من النار بما معهم من الإيمان.
الطبقة الرابعة عشرة: قوم لا طاعة لهم ولا معصية، ولا كفر ولا إيمان.
وهؤلاء أصناف:
منهم من لم تبلغه الدعوة بحال، ولا سمع بها بخبر.
ومنهم المجنون الذي لا يعقل شيئاً ولا يميز.
ومنهم الأصم الذي لا يسمع شيئاً أبداً.
ومنهم أطفال المشركين الذين ماتوا قبل أن يميزوا، وأما أطفال المسلمين فهم في الجنة.
وأهل هذه الطبقة يمتحنون في عرصات القيامة، ويُرسَل إليهم هناك رسول، فمن أطاع الرسول دخل الجنة، ومن عصاه دخل النار.
وبناء على هذا يكون بعضهم في الجنة، وبعضهم في النار.
قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أَربعةٌ يَومَ القِيامةِ: رَجُلٌ أَصَمُّ لَا يَسْمَعُ شَيْئاً، وَرَجُلٌ أَحْمَقُ، وَرَجُلٌ هَرَمٌ، وَرَجُلٌ مَاتَ فِي فَتْرَةٍ، فَأَمَّا الأَْصَمُّ فَيَقُولُ: رَبِّ لَقَدْ جَاءَ الإسْلَامُ وَمَا أَسْمَعُ شَيْئاً، وَأَمَّا الأَْحْمَقُ فَيَقُولُ: رَبِّ لَقَدْ جَاءَ الإْسْلَامُ وَالصِّبْيَانُ يَحْذِفُونِي بِالْبَعْرِ، وَأَمَّا الْهَرَمُ فَيَقُولُ: رَبِّي لَقَدْ جَاءَ الإسْلَامُ وَمَا أَعْقِلُ شَيْئاً، وَأَمَّا الَّذِي مَاتَ فِي الْفَتْرَةِ فَيَقُولُ: رَبِّ مَا أَتَانِي لَكَ رَسُولٌ، فَيَأْخُذُ مَوَاثِيقَهُمْ لَيُطِيعُنَّهُ، فَيُرْسِلُ إِلَيْهِمْ أَنِ ادْخُلُوا النَّارَ، قال: فَوَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَوْ دَخَلُوهَا لَكَانَتْ عَلَيْهِمْ بَرْداً وَسَلَاماً وَمَنْ لَمْ يَدْخُلْهَا يُسْحَبُ إِلَيْهَا» أخرجه أحمد
الطبقة الخامسة عشرة: طبقة أهل النفاق.
وهؤلاء قوم أظهروا الإسلام ومتابعة الرسل، وأبطنوا الكفر ومعاداة الله ورسوله.
وهؤلاء المنافقون في الدرك الأسفل من النار؛ لغلظ كفرهم، وعظيم خطرهم كما قال سبحانه: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا (145)} [النساء: 145].
وإنما كان أهل هذه الطبقة وهم المنافقون في الدرك الأسفل من النار لغلظ كفرهم، فإنهم خالطوا المسلمين وعاشروهم، ووصل إليهم من معرفة الدين وصحته ما لم يصل إلى المنابذين بالعداوة، فإذا كفروا مع هذه المعرفة والعلم كانوا أغلظ كفراً، وأخبث قلوباً، وأشد عداوة لله ورسوله من غيرهم، ولهذا قال الله فيهم: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (3)} [المنافقون: 3].
الطبقة السادسة عشرة: طبقة رؤساء الكفر ودعاته.
وهؤلاء هم أئمة الكفر الذي كفروا وصدوا عن سبيل الله، يصدون عباد الله عن الدخول في دين الله بالترغيب والترهيب.
فهؤلاء عذابهم مضاعف، ولهم عذابان:
عذاب بالكفر.. وعذاب بصد الناس عن الدخول في الإيمان كما قال سبحانه: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ (88)} [النحل: 88].
فكما أن للداعي إلى الهدى مثل أجور من اتبعه فكذلك للداعي إلى الضلال مثل آثام من اتبعه، واستجاب له.
ولا ريب أن هذا يتضاعف ويتزايد بحسب من اتبعه، وضل به، ولهذا كان فرعون وقومه في أشدالعذاب؛ لعظيم جرمهم وفسادهم كما قال سبحانه: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ (46)} [غافر: 46].
فهؤلاء رؤساء الكفار استحقوا أشد العذاب لغلظ كفرهم.. وصدهم عن سبيل الله.. وعقوبتهم من آمن بالله.. فليس عذاب الرؤساء في النار كعذاب أتباعهم.
ولهذا كان عدو الله إبليس أشد أهل النار عذاباً؛ لأنه إمام كل كفر وشرك وشر، فما عصي الله إلا على يديه وبسببه، ثم الأخبث فالأخبث من نُوَّابه في الأرض ودعاته.
والكفر يتفاوت.. فكفر أغلظ من كفر.. وظلم أعظم من ظلم.. ومعصية أغلظ من معصية.
وكما أن الجنة درجات فكذلك النار دركات، ولكل عامل جزاؤه، ولا ظلم لأحد حين يحكم الله يوم القيامة: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا (40)} [النساء: 40].
ويغلظ الكفر من حيث العقيدة كمن جحد رب العالمين وكفر به، ولم يؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر.
ويغلظ من حيث عناد الإنسان وضلاله وكفره على بصيرة بعد معرفة الحق كقوم ثمود، وقوم فرعون، وكفر أبي جهل، وكفر اليهود بالنبي - صلى الله عليه وسلم -.
ويغلظ كذلك من جهة السعي في إطفاء نور الله، وصد عباده عن دينه بما تصل إليه قدرته.
فهؤلاء أشد الكفار جرماً، وأشدهم عذاباً، وليس عذاب مَنْ دونهم ممن جهل الحق، ولم يؤذ المؤمنين، ولم يصد عن سبيل الله كهؤلاء، فمن الكفار من تجتمع في حقه الجهات الثلاث ومنهم اثنتان، ومنهم واحدة، وعلى حسب غلظ الكفر يكون العذاب.
الطبقة السابعة عشرة: طبقة المقلدين وجهال الكفرة.
فهؤلاء بمنزلة الدواب، يعبدون ما يعبد آباؤهم: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (170)} [البقرة: 170].
فهم لا يحاربون المسلمين ولا يؤذونهم، لكنهم لا يتبعونهم، فهؤلاء كفار جاهلون، ومن قبلهم كفار معاندون.
والمقلد الذي تمكن من العلم ومعرفة الحق فأعرض عنه يختلف عن المقلد الذي لم يتمكن من ذلك بوجه.
والقسمان واقعان في الوجود:
فالمتمكن المعرض مفرط، تارك للواجب عليه، ولا عذر له عند الله.
أما العاجز عن السؤال والعلم، الذي لا يتمكن من العلم بوجه فهم قسمان أيضا:
أحدهما: مريد للهدى مؤثر له محب له غير قادر عليه ولا على طلبه لعدم من يرشده، فهذا حكمه حكم أرباب الفترات، ومن لم تبلغه الدعوة.
الثاني: معرض لا إرادة له، ولا يحدث نفسه بغير ما هو عليه.
ففرق بين عجز الطالب، وعجز المعرض.
فغاية هذه الطبقة أنهم كفار جهال غير معاندين، وعدم عنادهم لا يخرجهم عن كونهم كفاراً، فهم في النار جميعاً، الذين اتَّبعوا، والذين اتُّبِعوا، كما قال سبحانه عن الأتباع أنهم قالوا: {رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ (38)} [الأعراف: 38].
الطبقة الثامنة عشرة: طبقة الجن.
والجن منهم المؤمن والكافر، والبَرّ والفاجر كما قال سبحانه إخباراً عنهم: {وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا (14) وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا (15)}... [الجن: 14، 15].
وكفار الجن في النار كما قال سبحانه: {وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (13)}... [السجدة: 13].
فالجن مكلفون بشرائع الأنبياء، يجب عليهم طاعتهم كما يجب على الإنس، ومؤمنهم في الجنة، وكافرهم في النار، وهم مكلفون بالشريعة الإسلامية، مأمورون منهيون، مثابون ومعاقبون.
فالمحسن منهم في الجنة كالإنس، والمسيء في النار كالإنس كما حكى الله عن مؤمنيهم أنهم قالوا: {وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا (13)} [الجن: 13].
فهذه طبقات المكلفين من الثقلين: الجن والإنس في الدار الآخرة، وكل طبقة منها لها أعلى، وأدنى، ووسط، وهم درجات عند الله:
{وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (19)}... [الأحقاف: 19].
وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - في قصة الإسراء: «ثُمَّ انْطَلَقَ بِي حَتَّى انْتَهَى بِي إلَى سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى، وَغَشِيَهَا ألْوَانٌ لا أدْرِي مَا هِيَ، ثُمَّ أُدْخِلْتُ الْجَنَّةَ، فَإذَا فِيهَا حَبَايِلُ اللُّؤْلُؤِ، وَإذَا تُرَابُهَا الْمِسْكُ» متفق عليه
وقال - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّ أحَدَكُمْ إذَا مَاتَ، عُرِضَ عَلَيْهِ مَقْعَدُهُ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ، إنْ كَانَ مِنْ أهْلِ الْجَنَّةِ فَمِنْ أهْلِ الْجَنَّةِ، وَإنْ كَانَ مِنْ أهْلِ النَّارِ فَمِنْ أهْلِ النَّارِ، فَيُقَالُ: هَذَا مَقْعَدُكَ حَتَّى يَبْعَثَكَ الله يَوْمَ الْقِيَامَةِ» متفق عليه
{رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23)} [الأعراف: 23].
اللهم إنك عفو كريم تحب العفو فاعف عنا.
اللهم إنا نسألك الجنة وما قرب إليها من قول أو عمل، ونعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول أو عمل.
اللهم إنا نسألك نعيماً لا ينفد، وقرة عين لا تنقطع، ونسألك الدرجات العلى من الجنة.
اللهم إنا نعوذ برضاك من سخطك.. وبعفوك من عقوبتك.. وبك منك لا نحصي ثناءً عليك.. أنت كما أثنيت على نفسك.
مختارات