"أسماء .. وذات النطاقين "
" أسماء.. وذات النطاقين "
«أسماء» تلك الطفلة الوديعة الهادئة بما تحمله هذه الكلمة ترى من خلف عينيها خجلاً يستحيل جمالاً ورقة ومن على شفتيها ابتسامة عذبة تحيط من حولها حبًا وتضحية تتطلع إلى الحياة مثلها مثل غيرها من الفتيات تنظر إلى الوجود ببسمة وبهجة تضحك مع قريناتها تلعب وتمرح في المدرسة كانت محبوبة من معلماتها زميلاتها، وفي البيت تحتل المكانة والمنزلة في قلوب الجميع تتصف بالرزانة والنضج رغم صغر سنها طموحاتها أكبر من عمرها.. تلاحقت أيام أسماء إلى أن اجتازت مرحلتها الابتدائية وبدأت باستقبال فترة الطيش والمراهقة، ولكن أسماء لم تكن من هذا الصنف من الفتيات بينما أخواتها ممن هي هو أكبر منها يلححْنَ على أمهن بشراء الجديد بل الغالي من الأقمشة والملابس والمستلزمات.. كانت أسماء تأبى على أمها أن تتكلف أو تشتري لها شيئًا.. وإذا ألحت أمها عليها في ذلك قالت: لماذا أشتري الجديد وما لدي يكفيني والحمد لله قناعة ورضًا عجيبين.. قلَّ ما نجده في الكبار فضلاً عن الصغار.. ذات يوم ذهبت أسماء إلى معلمتها ندى – معلمة العلوم الشرعية – تعرض عليها موضوعًا علّها تلقيه في الإذاعة المدرسية.. فشجعتها تلك المعلمة الفاضلة والمربية الناجحة فهي مَنْ أعدتهن لهذه المواقف.. ورددت بينها وبين نفسها بارك الله فيك يا أسماء وكثر من أمثالك.. يعزّ من يوجد مثلك في هذا الزمان العصيب.. إنه المنبت الحسن.. والتربية القويمة.. رعاك الله يا بنيتي..وحفظك من كل مكروه.
في اليوم التالي كانت طوابير الطالبات قد اصطفت وأخذت أماكنها، خيم الهدوء على المكان ووقفت أسماء ممسكة زمام أوراقها وبدأت حديثها والذي كان مؤثرًا إلى حد البكاء فقد استعرضت الموت وسكراته.. والرحيل وعبراته.. استعرضت التفريط في جنب الله وختمت قولها بحديث: «اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدًا، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدًا» تأثر الجميع طالبات معلمات جميع من في المدرسة أخفت معلمتها ندى دمعات تجمعت في مقلتيها وشكرتها على هذه الموعظة البليغة المؤثرة.
هكذا كانت أسماء مكافحة، خلوقة، نشيطة بل ينبوع صغير متدفق بالخير والعطاء لكل من حولها، معروفة بالتسامح والتعاون للجميع لها همة تعانق عنان السماء، نموذج لفتاة صالحة تقية في عمر الزهور، بينما نلتفت لنرى نماذج أخرى يندى لها الجبين لبراعم لا هم لهم إلا التوافه.. أفلام الكرتون، القصص الخيالية، الروايات التافهة، وغير ذلك من سلسلة الخرافات والتي امتلأت به أذهان أبنائنا ولا تربي إلا أطفالاً خياليين ليس لهم هدف ولا غاية.
في نهاية السنة الدراسية أطلت علينا أسماء بوجهها الطفولي وثغرها الباسم وهي تحمل شهادة تفوقها ومعها شهادة شكر وتقدير زفتها لها معلمتها اعترافًا منها بجهودها الطيبة في المدرسة.
كانت فرحة الأهل غامرة بنجاح أسماء وإخوتها.. ولكن فرحة أسماء كانت أعظم عندما سمعت بهدية النجاح.. عمرة إلى مكة.. كم كانت تحلم بالبيت الحرام، تتخيله تشتاق إليه بل لم يهدأ لها بال إلا وتسأل عن طريقة العمرة وما يلزمها فيها وما ينبغي عليها.. بل وتقرأ وتبحث.
حان موعد السفر.. والضحكات الطفولية تنطلق منها في الأجواء.. الأرض من تحتها تهتز طربًا والسعادة تلفها من كل جانب ساقت أمام ناظريها مناظر الحرام.. الكعبة.. الصفا.. المروة.. الحجر الأسود.. لقد هيأت نفسها لهذا السفر.. واستعدت لهذه الرحلة المباركة ولم تدر الصغيرة أنها على موعد مع السفر النهائي لرحلة ثمنها عمرها.. فقد لفظت أنفاسها الأخيرة تحت ركام سيارتهم المحطمة إثر حادث مفجع حصل لهم أثناء عودتهم من العمرة.. نجى من هذا الموت المحقق جميع أفراد الأسرة مع تنوع واختلاف في إصابتهم.. ما عدا أسماء فقد فاضت روحها الطيبة وودعت الدنيا بما فيها من صخب وضجيج وملاهٍ وفتن.. رحلت أسماء وخلفت وراءها قلوبًا مفعمة بالحزن والكآبة على ينبوع صغير متدفق بالخير والعطاء قد جف ونضب.. وبعد أن واروا الجسد الطري في التراب بحثوا عما خلفته وراءها فما وجدوا إلا بعضًا من ملابسها البسيطة وحقيبة مدرستها ودفاترها الممتلئة بالواجبات القديمة ومجموعة من أوراق ضمتها سويًا وقد جمعت فيها أنواع الفوائد والعبر والحكايات والقصص وجعلتها على هيئة مجلة إسلامية، أضفت عليها بعض الأشكال الجميلة الرائعة كانت تنتظر قدوم السنة الدراسية الجديدة لتريها معلمتها ندى.. وليتم بعد ذلك تصويرها وتوزيعها على الطالبات.. ولكن الموت لم يمهلها لتحقيق ذلك.. من مثل همة أسماء.. وأين تجد فتاة تفكر مثل تفكيرها وفي مثل سنها؟!!
مع بداية العام الدراسي الجديد استقبل فيه صديقاتها المدرسة.. ولكن أسماء لم تحضر لقد تأخرت كثيرًا.. فسأل عنها الجميع ومن بينهن معلمتها ندى.. اتصلن على منزلها.. وإذ بالخبر المفجع الحزين والذي نزل على رؤوسهم كالصاعقة.. أسماء.. أسماء ماتت.. ارتجت المدرسة بمن فيها لهذا الخبر الحزين بكت زهرة يانعة كانت مفعمة بالنشاط والحيوية.. وزاد بكاؤهم عندما رأوا خط أسماء وعباراتها العذبة.. والتي صاغتها في مجلتها (ذات النطاقين).. وما كان من معلمتها إلا أن قامت بتصويرها وتوزيعها فأكملت بذلك مشوار أسماء الذي بدأته.. وتحقق لأسماء ما كانت تتمنى.. رحلت أسماء وبقيت آثارها والتي لن تمحوها معايير الزمن.. رحلت الصغيرة بعدما سكبت ما في جعبتها من نصائح وتوجيهات وذلك في ردهات الفصول والممرات.. رحلت يا أسماء وما زالت ذكراك العطرة يفوح شذاها في كل مكان.
يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله ومنهم شاب نشأ في طاعة الله».
مختارات