" المحنة .. منحة "
" المحنة.. منحة "
تزوجت وهي في ريعان الصبا، كان يعرف حق الله عليه كم كانت سعيدة بعشها الزوجي الهادئ تحس بأنها ملكة في قصرها الصغير، كم حلمت أن يمتلئ هذا العش الهانئ بطيورها الصغار – فلذات الأكباد – فما أجمل عبثهم وما أروع ضجيجهم الطفولي، مرت عليها مدة وهي تحلم بهذه الحياة " الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ".. استيقظت من هذه الأحلام والأماني الجميلة على الآلام أحست بها في قدميها.. ألم غريب.. هاتفت والدتها وأخبرتها بالأمر استشارت الأم صديقتها الطبيبة وأخبرتها بما تحس به ابنتها، فنصحتها بعرضها على استشاريين للتأكد من مرضها، وبعد عرضها عليهم قرروا تنويمها في المستشفى حتى يتم عمل الفحوصات اللازمة لها، بعد إجراء التحاليل تبين أن لديها فيروسًا في نخاع العظم، اضطرهم هذا الأمر إلى تمديد فترة تنويمها تحت العلاج أسابيع عدة، كان خلالها الألم يزداد عليها، ها هي تتحدث عن نفسها قائلة: عندما كان الألم يزداد ويبلغ مداه كنت أصرخ بأعلى صوتي وأتلوى كما تتلوى الحية لما أحس به من طعن الخناجر في عظامي لدرجة أن ملابسي كانت والدتي تتولى تمزيقها حين يشتد بي الألم فلم أعد أطيقها أو حتى أطيق خلعها..
تدهورت حالتي حتى عفْتُ كل شيء فقد أصبحت الحياة مرة مرارة كل قطرة من دواء أتجرعها، فظهرت آثار المرض ومهاجمته لي بقعًا بنية تزداد يومًا بعد يوم.. في هذه الفترة العصيبة كان لا بد من خروجي لأداء اختباراتي النهائية حيث كنت في عام التخرج، خرجت وأديت اختباراتي تحت تشجيع والدتي وزوجي وصديقاتي اللاتي وقفن معي في محنتي، وبالفعل اختبرت وعاودت الرجوع للمستشفى فقد تطور المرض في هذه المرة، واتسعت رقعة البقع البنية.. لازمت السرير الأبيض فقد كان ينتظرني بدأ العد التنازلي في تدهور حالتي الصحية وقبل ذلك حالتي النفسية.. لدرجة فقدان القدرة على ضبط بعض تصرفاتي فأصبحت أتبول لا إراديًا، وكانت أمي أول يد بيضاء تمتد لتساعدني في محنتي.. كانت تمسح دمعتي وتخفف ألم وحدتي.. وهي التي تحتاج إلى من يواسيها ويخفف آلامها.. لا أنسى فضلها علي بعد الله، وأي فضل أعظم من كونها والدتي فهي إن انكمشت آمالي واتسعت آلامي وجدت فيها حضنًا فسيحًا فسحة الأمل.. وما أضيق العيش لولا فسحة الأمل.. وجدت راحة وطمأنينة لا أجدها في أي مكان على وجه هذه الدنيا الصغيرة الحقيرة فقد صغرت في نظري بضآلة مغيراتها وزيف ما فيها.. لقد كانت أمي هي سعادتي.. بل وجنتي حين يضطرم المرض نارًا يلهب جسدي والأوجاع تنخر عظمي نخر السوس.. إنها كوجه الربيع يهش ويبش لي تكسي الخريف بثياب الأمل والصبر والثبات..
كما كان لزوجي دور كبير في متابعة حالتي والوقوف بجانبي، وكذلك صديقاتي اللاتي كن يتناوبن في المكوث معي ومساعدتي خاصة في فترة اختباراتي.. كل هؤلاء أحسست بأثرهم ودورهم الكبير في وقت كنت في أمس الحاجة لبصيص أمل.. لقد غدا جسدي معملاً لتجارب عدة.. فلم يعد هناك موضعًا لحقنة جديدة إلا وفيه كدمة وأثر وخزها.. يدخل الطبيب ويقرع بيده على عظمي فأصرخ بأعلى صوتي وأستغيث ولكن ما من مغيث.. أتضرع.. وأبكي بتوجع.. أرجوه أن يتركني ولكنه لا يتلفت إلي ثم يلف حول عروقي حبلاً غليظًا، فأزداد صراخًا وعويلاً.. وأستنجد بأمي.. والتي تجهش بالبكاء فلا تملك سوى الدعاء لي.. وأنعم به من سلاح.
ثم يدخل حقنة كبيرة ليخرج دمي وأنا أنظر ويتوجه إلى البوابة خارجًا معزيني ببعض العبارات والكلمات التي قد لا أعيها لشدة ما أجده من الألم..
ازداد الأمر من سيئ إلى أسوأ عندما جاءت نتيجة التحاليل الجديدة بتطور المرض الذي أدى لنقص المناعة فأخضعني ذلك لتجرع دفعات وأشكال جديدة من الأدوية.. لقد سلمت أمري لربي منتظرة النهاية.. النهاية المكتوبة علينا بني آدم..
في اليوم التالي كانت الغرفة تعج بكبار الأطباء والطبيبات المختصين يتحركون في سعي دائب يثير في الدهشة والخوف من نتائج هذه الحركة الدؤوب.. لم أنته من هواجسي حتى دخلت الممرضة تدفع أمامها عرفة اصطفت فيها المحاقن بجميع أحجامها وأطوالها المتفاوتة ولاصقات وعقاقير وأوعية للتحاليل.. تدخل بها الممرضة فارغة وتخرج وهي ملأى بالدم.. ووالدتي كعادتها ليس بيدها سوى اللجوء إلى الواحد الديان تدعوه أن يزيل هذا الكرب.. وعيناها احمرتا من كثرة البكاء.. وأصابها الوهن، بل والمرض لحالتي ولسهرها معي وحقًا لا يحس بذلك إلا من وهبه الله عاطفة الأمومة التي تفوق كل العواطف الإنسانية الأخرى.. آه يا أمي الحنون أتعبتُك وأنا صغيرة.. وها أنا ذا أتعبك معي وأنا كبيرة متى ترتاحين؟!! ولكن ما بيدي حيلة.
بعد هذه الضوضاء كان آخر ما وعيته حين همست الطبيبة لوالدتي قائلة: إن المرض قد تطور وبدأت بوادر شلل تغزو الأعصاب.. إذ زاد الألم علي ولم أفق إلا ووالدتي تتأملني وتنظر إلي نظرات المودع.. لاحظت انتباهي لها.. فحاولت أن تخفي مشاعرها قائلة أبشري يا بنيتي فرج الله قريب. لم تنته من عباراتها هذه حتى انفجرت باكية متضرعة برحمة الله الواسعة لقد ضاقت بي الدنيا بما رحبت..
مرت الأيام.. وأخذت أتأقلم مع المرض وحاولت أن أعيش حياتي طبيعية فقد عدت إلى منزلي وآثار المرض ما زالت علي وبرغم الذكرى المؤلمة التي كادت تخنقني خاصة بعد أن أصاب يداي شلل كامل أفقدهما الحراك، سبحان الله من يصدق أن هاتين اليدين كانتا في يوم من الأيام تدب فيهما الحياة واليوم خامدتان لا تتحركان، شهور تتوالى وأيام تنصرم.. وأنا أصبَّر نفسي وأمي تواسيني وزوجي يخفف عني آلامي وأحزاني، حتى جاء ذلك اليوم، يوم المفاجأة حينما جاءت نتيجة آخر التحاليل وكنت أرجع المستشفى بين الحين والآخر فأثبتت التحاليل وجود جنين في أحشائي وما أن علمت بذلك والدتي حتى خافت على صحتي.. وعلى عدم تحملي للحمل ومتاعبه.. خاصة أنني أتعاطي أدوية قوية التأثير فطلبت مني أن أسقطه.. لكني رفضت ورفضت بشدة وحين قال لي بعض الأطباء: من المحتمل أن تكون حياة الجنين مهددة، وإن ولد سيكون مشوهًا من جراء تعاطي أدوية لتقوية المناعة رفعت رأسي بثقل لألقي على الجميع أطباء، طبيبات، ممرضات، أمي، زوجي، ردي الحاسم فقلت بكل ثقة ويقين برحمة الله وفضله ومنته: لن أسقط جنيني فلقد سلمت أمري إلى الله وليكن ما يكون فلن يضيعني الله.
وعاود الأطباء الكرة تلو الأخرى.. وبالطبع لا بد أن أكون تحت الملاحظة الشديدة.. فتجدد العهد بالتحاليل والمحاقن والفحص الداخلي والخارجي.. إلا أن الأمر في هذه المرة يختلف.. لقد دب بصيص أمل في داخل نفسي الممزقة.. فقد أخبر الطبيب والدتي بأن نتيجة التحاليل هذه المرة محيرة جدًا. فالفيروس بدأ يتناقص وتضعف قوته في عَظْمي وازدادت المناعة شيئًا فشيئًا.. إلى أن حان وقت الوضع والولادة.. فقدر الله لي أن أضع مولودي والذي كان سليمًا معافى.. إن فرحة الانتصار في هذه المرة على المرض كانت لا توصف.. والشعور برحمة الله وكرمه وجوده لي لا توصف أيضًا.. لقد انهمرت الدموع من مقلتي وأنا أمسك طفلي (لقد عافاها الله من جميع الأمراض حتى الشلل الذي أصاب يديها فما أعظم رحمة الله بعباده).. لقد كانت لحظة كدت أطير فيها فرحًا عندما وقف الطبيب مذهولاً وهو يمسك بنتيجة التحليل الأخير قائلاً: لقد اكتشفنا أن علاجك كان في مشيمة الطفل فهو لا يوجد سوى في هذه القطعة من الجسد؟!! سبحان الله لقد زرع الله العلاج في داخلي.. وهيأه لي تهيأ.. في حين كان الكثير يشير علي بإسقاط جنيني.. فسبحان الكريم المنان الذي جعل من المحنة منحة.. ومن الشدة والضيق فرجًا ومخرجًا.. اهـ.
مختارات