" جارة السوء "
" جارة السوء "
حكايتي رواية لم تنته حلقاتها بعد، ولكن في ذكرها عظة وعبرة، فأحببت أن أصوغها لكم لعل ذلك يخفف من آلامي وأحزاني.
تعرفت عليها.. جمعتنا أرض الغربة وقربتنا البيوت أكثر، كنا جارتين بل أختين استهوتني بحسن تصرفاتها واجتذبتني بمعسول كلامها كلا.. بل إن كلامها لسحر كل عبارات الود والتلطف قد جمعت في لسانها وجميع أساليب الدخول إلى القلوب قد أتقنتها هذه الإنسانة، لقد أحببتها وأخلصت لها من صميم قلبي لدرجة أنني كنت أصحبها معي في شراء ما أريده وخاصة حليّ وملابس وكنت أثق بذوقها حتى وإن قال لي الأخريات عكس ذلك، لا أطبخ شيئًا إلا وتتذوق منه، بل وأنتقيه لها بنفسي وأحرص أن تأكل منه قبل عائلتي.. أصبحت زياراتي محصورة عندها ولا أزور بقية جاراتي إلا بصحبتها، وذات يوم حضرتها الولادة وزوجها غير موجود، احتضنتها بكل لهفة وشفقة ونقلتها برفقة زوجي إلى المستشفى والناس للناس وفعلاً يسر الله لها الولادة، عدت مسرورة بعد أن اطمأننت عليها وعلى مولودها، وعندما حان موعد خروجها توجت إلى المستشفى برفقة زوجي لإخراجها ومع ركوبه في السيارة كانت المفاجأة التي صُعقت لهولها، حيث تعمدت كشف وجهها ونحرها أمام زوجي وبمرأي مني، فما كان منه إلا أن غض بصره وانسحب خارجًا من سيارته مذهولاً، أما أنا فقد صعقت حقًا ولمتها على ذلك، فقالت: وماذا بالأمر؟ إنه أخٌ لي.. كان المفروض أن أتعظ من هذه الحادثة وتكون درسًا لمعرفة ما تطويه نفس هذه الجارة التي قامت بما قامت به.. وكان المفروض أن آخذ الحذر والحيطة.. ولكن نفسي الطيبة التمست لها الأعذار، وأنها قد تكون ندمت على تصرفها ذاك، وأنها لن تعود، وأنها أحست بغلطتها.. إلخ وكانت هذه غلطتي.
مرت الأيام والصفاء بيننا يزداد.. وكدت أنسى ذلك الموقف منها، وذات يوم وبينما أنا عندها، إذ بها تفاجئني بطلب غريب عجيب.. ألا وهو أن أكشف وجهي لزوجها.. امتنعت وبشدة.. وعندما رأت رفضي وإبائي.. قالت: ليس في الأمر شيء، ثم هو أخ لك، ألم يراني زوجك؟!! ذكرتها بأنها هي من تسببت في ذلك وبكامل إرادتها ورغبتها.. بل إن زوجي لم يرض عن تصرفها بدليل خروجه من السيارة وغضه لبصره.
قالت: أنت لا تفهمين وستمكثين طوال حياتك غير متحضرة، وقروية، وكان أسلوبها معي على سبيل المداعبة والمزاد، وإذ بها تنادي ابنتها وبسرعة البرق أمسكت بيدي وأزالت غطاء شعري، ودخلت ابنتها وزوجها، لم أستطع الفكاك منها لصعوبة الموقف، ولشدة قبضتها علي، فهي قوية البنية، وبعد خروج زوجها، قالت لي مسلية وبكل خبث: ليس من العدل أن يراني زوجك، وزوجي لا يراك، في تلك اللحظات لم أستطع الكلام ولا التعبير، بل انحدرت من مقلتي دمعات ساخنة، تأسفت على تلك الثقة العمياء التي أوليتها إنسانة عديمة الإحساس، قليلة الدين، خرجت من بيتها وحرصت على عدم إخبار زوجي بالأمر.. لأنه سيصب علي جم غضبه وسيلومني على ضعفي واختياري لصحبة هذه الإنسانة.. واكتفيت بمقاطعتها.. انشغلت بنفسي وزوجي وابني الوحيد.. فموعد اختباره قد قرب، وذات يوم جاءت إلي هذه الجارة متأسفة متندمة على ما كان منها، وأبدت انزعاجها لمقاطعتي إياها، وطلبت مني العفو والصفح، وكان يلزمني أن أكون حذرة منها.. فالمؤمن لا يلدغ من جحر مرتين، ولكن طيبتي المعهودة جعلتني أقبل تأسفها واعتذارها.. وحرصت أن أقلل زياراتي لها، ولكنها أصبحت هي التي تزورني كل يوم وكنت أتحرَّج كثيرًا عندما أنبهها أن علينا امتحانات، وربما لجأتُ للصراخ على ابني وضربه أحيانًا حتى يذاكر ولكي تفهم.. فلم يكن يؤثر ذلك فيها أبدًا، بل كانت تتجاهل الأمر وبشدة، ثم تثير الحماس في أطفالها لرفع أصواتهم عند اللعب معللة «بأن الطفل إذا لعب كثيرًا نام بهدوء أكثر».. انتهت أيام الامتحانات.. وكانت النتيجة بالطبع رسوب ابني وأظهرت عدم مبالاتها بالأمر، بل وسرورها، وأنه ما زال صغيرًا.
بدأتُ أشمئز من حركاتها، ولبسها الذي لا يكاد يستر جسدها خلاف ما عهدناها عليه ولطالما رددت على مسامعي ومسامع غيري عبارة «أمنيتها أن يتزوج زوجي».
اعتقدت أنها تمزج.. وأنها مجرد مداعبة.. ولكني اكتشفت غايتها وهدفها وهو التفريق بيني وبين زوجي. لكن.. لماذا؟! وأنا مَنْ وهبتها ثقتي وصداقتي.. هل لفارق المستوى المادي بيني وبينها؟ أم لما أنعم به من راحة في أسرتي؟ أم حسدًا مما تراني أرفل فيه من نعيم، أو لقوة شخصية زوجي ومكانته المرموقة على خلاف زوجها عديم الشخصية؟ إنني لم أبخل عليها بشيء من ملابسي وحليي وأدواتي فما سبب هذا الحقد والحسد منها؟!! وبسبب تصرفاتها السيئة تجاهي.. لم أعد أفتح بابي لأحد لا هي ولا غيرها، وانقطعت عن الزيارات، أما هي فقد أحست بذلك وخلال هذه الفترة أصبحت لا تجتمع بأحد من النساء إلا وتهمس في أذنهن بشيء يسيء لي كذبًا وزورًا، وبدأ النساء يتناقلن كلماتها والتي وصل الأمر أن مست عرضي.. أخبرت زوجي بهذا الأمر، فذهب إليها وتحدث معها، فما كان منها إلا أن قالت: إنني أنا التي قلت هذا الكلام عن نفسي وأنها ممن سمع فقط.
فعاد زوجي إلي قائلاً: اتركي مداخلة هذه المرأة إلى الأبد.. ابتعدي عنها وعن وجع الرأس.. ضاقت علي الأرض بما رحبت فقد تركتها لكنها لم تتركني.. فما زالت تشيع عني الأكاذيب في أوساط النساء.. وهن يعرفن قوة علاقتي بها سابقًا، فيصدقنها وكما ذكرت سابقًا فلها أسلوب عجيب في الإقناع فسخرته في الشر والإفساد.. لقد أشاعت أن أحدهم أخذني إلى الخروج يومًا ما.. وآخر يأتي ما بين الساعة الثانية والثالثة ليلاً فأخرج معه.. وأنني أترك باب بيتي مفتوحًا في فترة غياب زوجي و.. و.. و.. وغير ذلك من الأكاذيب التي يشيب منها الولدان، ولا أقول إلا حسبي الله ونعم الوكيل، لقد قالت عني الكثير والكثير فهي تذهب إلى كل امرأة وتعطيها كذبة غير الأخرى.. لنشر الإشاعة وهي بين النساء أكثر انتشارًا من النار في الهشيم.. وكله ظلم وبهتان.. رددت حسبي الله ونعم الوكيل " إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ " [النور:23].
وكان النساء ينقلن لي كثيرًا مما تقوله عني.. فصرختُ بأعلى صوتي.. أسألكم بالله لا تنقلوا لي شيئًا مما تقول كفى نميمة وكذبًا وزورًا.. من كانت تعزني.. وتودني حقًا فلتدافع عن عرضي في مجلسها وحسب.. اتقوا الله وتذكروا.. «من ذب عن عرض أخيه المسلم بالغيب، ذب الله عن وجهه النار يوم القيامة».
عندها استفحل الأمر ووصل عند زوجي ذروته، فقد اتهمتني بأنني أعطيت زوجها نسخة من مفتاح البيت ليقْدُمَ علي في أي وقت شاء وحسبي الله ونعم الوكيل، فقرر زوجي أن يتوقف هذه المهازل، وعزم على التحدث مع الرجال ورجوت من ذلك خيرًا.. أقل ما رجوت أخذ حقي المهضوم منها وإظهار براءتي وفعلاً قرروا الاجتماع والحكم في هذه المسألة، وجاء اليوم المحدد وحضر كل من عرف بالأمر واهتم به، ليحكم بيننا أحد أئمة المساجد، وكان علينا نصف تكاليف العشاء، وجلس الرجال على حدة يتحدثون والنساء على حدة يسمعن ما يحدث ثم جاء الإمام وجلس في مقعده المعد له، ونادى بعد حمد الله والثناء عليه وعلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، نادى على تلك الجارة فأجابته بقولها: يا شيخ (..) إن النساء قبل حضورك بقليل يستهزئن بدينك و.. ومن هؤلاء فلانة (وتقصدني أنا).
سكت الشيخ برهة، وقال بنبرة حادة: ماذا عن المفاتيح يا أم فلان؟ قالت وبكل ثقة: المفاتيح أُعطيت لزوجي من قبل فلانة – تقصدني – وذلك من أجل تعبئة أسطوانات الغاز.
فهالني تقلّبها في الكلام.. وابتكار الألفاظ.. وأصابني غمٌّ عظيم، وسألني الشيخ عن ذلك، فأنكرتُ وبشدة وصوتي مخنوق بالعبرة والدهشة معًا.. وطلب من النساء – اللاتي قمن بنقل الكلام – شهودًا على ما تقوله جارتي تلك.. أو ما أنكره أنا.. فلم يتقدم أحد رغم أن الحضور كثير وكثير جدًا.. عندها أدركت أنهن ما حضرن إلا للتفرجة والمشاهدة فقط ولعدم نصرة الحق.. ومنهن من تعذرت لي بعدم إن زوجها بالتحدث في الموضوع.. وأنا أعلم أن هذا هراء.. ولكن، حسبي الله ونعم الوكيل.
ثم استدعى زوج جارتي وسأله.. فقرر الشيخ (إمام المسجد) أن يحلف الرجل على كلامه، بعد أن أجاب مثل زوجته وبالفعل حلف – عليه من الله ما يستحق – على أنني أعطيته المفتاح ليجعل منه نسخة له.. الخ، وانفض المجلس ولم أستغرب ذلك أبدًا بل توقعته نظرًا لأني أعلم أن لها السلطة عليه.. فهو ينفَّذُ أوامرها بحذافيرها، لكني لا أقول إلا حسبي الله وننعم الوكيل.. حسبي الله ونعم الوكيل، فماذا أصنع؟ وهذا ما جنيته لعشرة دامت ثمان سنوات ولأنني ما وفقت في اختيار الصديقة الصالحة التي تعينني على الخير ولأنني وهبتها الثقة العمياء والمؤمن يلزم أن يكون كيسًا فطنًا.. أصبحت أرى الأحلام المفجعة.. صدري يتأجج من نار الظلم والبهتان، تمر علي ساعات ذعر، وكراهية، وضيق شديد، لجأت للدراسة في إحدى دور القرآن بعدًا عن اجتماع النساء وهروبًا من المشاكل والقيل والقال والتي أفسدت علي حياتي، ألا بذكر الله تطمئن القلوب وما زالت أدعو الله أدعوه وأتضرع إليه «ودعوة المظلوم ليس بينها وبين الله حجاب» بأن يأخذ حقي منها عاجلاً غير آجل.. وحسبي الله ونعم الوكيل.
لقد أبدل الله الحال والمآل فصحبت الخيرات التقيات اللاتي يشع القرآن في قلوبهن ويبع الذكر والتسبيح من ألسنتهن ! إنها صحبة طيبة في مكان طيب، وأدعو الله عز وجل أن يجمعنا في جنة عدن !! (وصلتني هذه القصة من إحدى الأخوات الثقات بإذن الله ) اهـ.
مختارات