" أصناف الناس ( صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ ) "
" أصناف الناس (صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ) "
الناس في هذه الآية ثلاث طوائف:
1- المؤمنون من أمة محمد صلى الله عليه وسلم أو من غيرهم من الأمم السابقة في زمن رسلهم.
2- المغضوب عليهم؛ وهم اليهود الذين لم يعملوا بالتوراة في زمن نبيهم، ولم يؤمنوا بعيسى ولا بمحمد عليهما السلام، وكذا كل من شاكلهم.
3- الضالون؛ وهم النصارى الذين لم يتمسكوا بتعاليم الإنجيل الصحيح في زمن نبيهم، ولم يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم بعد بعثته، وكذا كل من كان مثلهم.
وقد أرشدنا الله سبحانه إلى أن نسأله الهداية إلى طريق الصنف الأول: (الذين أنعم عليهم)، وأن نبرأ من الصنفين الآخرين، فكلاهما هالك.
الصنف الأول: المنعم عليهم: هذا تفسير للصراط المستقيم المذكور في الآية السابقة، فالمسلم يطلب من ربه ليل نهار أن يهديه إلى طريق الذين أنعم عليهم، وهم الذين أطاعوا الله والرسول وليس في قلوبهم ذرة إلا وهي معمورة بحب الله تعالى، والذين أنعم الله عليهم، هم النبيون والصديقون والشهداء والصالحون.
فهؤلاء قد أنعم الله عليهم بالسعادة في الدنيا والآخرة؛ لأنهم أهل الهداية والاستقامة والطاعة وامتثال الأوامر واجتناب النواهي، وهذه النعمة، نعمة مطلقة، شاملة، موجبة للفلاح الدائم، وإلا فكل الخلق يعيش في نعمة الله تعالى، ومنهم الكافر، فالنعمة المطلقة لأهل الإيمان، ومطلق النعمة للمؤمن والكافر، وفيه نسبة النعمة إلى الله تعالى دون غيره، حتى لا ينسب الشر إلى الله تعالى، من باب تعليم الأدب مع الله تعالى.
والذين أسبغ الله عليهم نعمه ليسوا من الذين ينحرفون عن صراطه المستقيم، أو يجلبون على أنفسهم نيران غضبه ولعنته، وإنما يستجلبون رضى الله تعالى، ويبتعدون عن أسباب غضبه وتنكب الصراط.
والمنعم عليهم هم صفوة البشر الميطعون لله والرسول، يبدأ وصفهم بالنبوة وينتهي بالصلاح، قال تعالى: " وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَـئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَـئِكَ رَفِيقًا * ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللّهِ وَكَفَى بِاللّهِ عَلِيمًا " [النساء: 69، 70].
وقال سبحانه بعد أن ذكر عددًا من الأنبياء والمرسلين، ممن أنعم الله عليهم من ذرية آدم، وممن حملوا مع نوح، وممن هدى الله: " أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَن خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا " [مريم: 58].
ومن هؤلاء الذين عنتهم الآية: أنبياء وصديقون وشهداء وصالحون.
وصراط الذين أنعم الله عليهم، هو الصراط المستقيم، الذل لا اعوجاج فيه.
وعلى كل مسلم ألا يغفل عن طلب العون من الله تعالى، ونعمة الهداية هي أكبر النعم التي امتن الله بها على عباده، إذ إن الهداية لا ينالها إلا المطيعون الموفقون الصالحون، والمنعم عليهم هم المؤمنون المتقون، الذين عرفوا الحق، فاتبعوه وعملوا به في مقابلة من يأتي ذكرهم، وهم الذين عرفوا الحق ولم يعملوا به وأنكروه، والذين ضلوا عن الصراط وأخطئوا الطريق الصحيح.
الصنف الثاني: اليهود " غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ "
عن عبد الله بن شقيق العقيلي قال: أخبرني من سمع النبي صلى الله عليه وسلم وهو بوادي القرى على فرس له، وسأله رجل من بني القين فقال: من المغضوب عليهم يا رسول الله؟ قال: «اليهود» قال: فمن الضالون: قال: «النصارى» («المسند» بنحوه والبيهقي وعبد الرزاق في تفسيره قال محققو المسند: إسناده صحيح ورجاله ثقات، وأخرجه أيضاً الطبري)).
وعن الشريد بن سويد قال: مر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا جالس هكذا، وقد وضعت يدي اليسرى خلف ظهري، واتكأت على إلية يدي، فقال: «أتقعد قعدة المغضوب عليهم» (صحيح سنن أبي داود» وفي سنن أبي داود).
وقد غضب الله عليهم؛ لأنهم عرفوا الحق ولم يعملوا به، ومن ذلك معرفتهم بأوصاف محمد صلى الله عليه وسلم وعدم الإيمان به.
فغير المنعم عليهم صفنان: صنف خرج عن الحق بعد علمه به، وأعرض عنه بعد أن استبان له، وهم المغضوب عليهم.
وصنف لم يعرفوا الحق أبدًا أو عرفوه على وجه غير صحيح، فهم في عماية وضلال، وكلا المسلكين فاسد؛ لأنه حاد عن صراط الإسلام، فكل من اليهود والنصارى وأمثالهم، ضال مغضوب عليه، لكن أخص أوصاف اليهود الغضب، كما قال تعالى فيهم: " مَن لَّعَنَهُ اللّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ " [المائدة: 60]، وقال تعالى عنهم: " فَبَآؤُواْ بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ " [البقرة: 90].
الصنف الثالث: النصارى " وَلاَ الضَّالِّينَ "
الضال هو الذي حاد عن السبيل وسلك غير المنهج القويم.
والضالون: هم النصارى ومن على شاكلتهم، ممن فقد العلم وأخطأ الطريق الصحيح، فهام على وجهه ولم يهتد إلى الحق.
وأخص أوصاف النصارى الضلال، فهم قد ضلوا عن طريق التوحيد؛ فنسبوا لله تعالى الشريك والولد، فضلوا في أنفسهم وأضلوا غيرهم، كما قال تعالى عنهم: " قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيرًا وَضَلُّواْ عَن سَوَاء السَّبِيلِ " [المائدة: 77].
والضلال سلوك الطريق غير السوي، وهو ضد الهدى والرشاد.
وفي حديث عدي بن حاتم، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن المغضوب عليهم اليهود، وإن الضالين النصارى» (أخرجه الترمذي بإسناد حسن).
وعن أبي ذر رضى الله عنه قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المغضوب عليهم: قال: «اليهود» قلت: الضالين؟ قال: «النصارى» (ينظر هذا وغيره في «الفتح الرباني لترتيب مسند الإمام أحمد» وقد أورد الهيثمي نحوه بسند صحيح والأثر عند ابن مردويه كما في تفسير ابن كثير والدر المنثور).
وهذا من باب التمثيل باليهود والنصارى وليس من باب الحصر، وإلا فإن الآية تشمل كل ما انطبق عليه الوصف.
وفي السيرة عن زيد بن عمرو بن نفيل، أنه لما خرج مع جماعة من أصحابه إلى الشام يطلبون الدين الحنيف، قال له اليهود: إنك لن تستطيع الدخول معنا حتى تأخذ نصيبك من غضب الله، فقال: أنا من غضب الله أفر، وقالت له النصارى: إنك لن تستطيع الدخول معنا حتى تأخذ نصيبك من سخط الله، فقال: لا أستطيعه، فاستمر على فطرته مجانبًا دين المشركين وعبادة الأوثان، ولم يدخل في اليهودية ولا النصرانية.
والآية عامة في كل من غضب الله عليه، وكل من ضل وحاد عن الصواب، ومن عرف حقيقة اليهود والنصارى حاليًا أيقن بانطباق وصف الغضب والضلال عليهم واستحقاقهم له، فاللهم اجعلنا ممن أنعمت عليهم وأبعدنا عن طريق المغضوب عليهم والضالين.
مع الفاتحة آية آية:
ثم يبدأ – المسلم – قراءة الفاتحة متيمنًا ومتبركًا باسم الله تعالى، الذي يبدأ باسمه جميع شئونه، فباسمه تعالى قامت السموات والأرض، وآثار صنعه تعالى في الكون دالة عليه سبحانه، وبيده الحول والطول، وهو جل شأنه الموصوف بالرحمة التي شملت المؤمن والكافر، فرحمته وسعت كل شيء، ونعمته وسعت كل حي، وهو سبحانه الموصوف بالرحمة الخاصة بالمؤمنين، وبالرحمة العامة للخلق أجمعين، وكأن المسلم يشاهد ربه وهو يُحسن إلى جميع خلقه، ويغدق عليهم نعمه، ومنها هذه العبادة، وهذه الرحمة هي التي تصل بين العبد وخالقه، فمنه الرحمة ومنهم العبادة، وكأن المسلم يشاهد نصيبه من الرحمة، وهو قائم بين يدي ربه يدعوه ويعبده ويناجيه " بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ".
ثم يحمد المسلم ربه على عظيم نعمه، وكريم فضله أن هداه للإسلام، ووفقه للإيمان، وتفضل عليه بالتربية والإنعام، وهو يستشعر نعمة الله عليه، وفضله وإحسانه بقلبه وعقله، وهو وحده المستحق لكل الحمد؛ لأن نعمه تعم جميع المخلوقات " الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ".
وهذه النعم تفضل من الله تعالى وإحسان إلى خلقه، فهو سبحانه ليس إلها ظالمًا؛ لأنه رب العالمين وخالقهم ورازقهم، بل تقوم العلاقة بينه سبحانه وبين خلقه على الرحمة فهو جل شأنه: " الرَّحْمنِ الرَّحِيمِِ ".
وهذه الرحمة مقرونة بالعدل، فهناك الحساب والجزاء بعد الفضل والإنعام.
والمسلم يضع نصب عينيه ما يحصل في اليوم الآخر من الأحوال والأهوال، من جزاء المحسنين، وعقاب المسيئين، فيستحضر هذا الملك القاهر، وهذا المجد العظيم الذي لا يليق إلا بالله تعالى، لاسيما يوم يدان الخلائق، وتعنو الوجوه لعظمته سبحانه، وتخشع الأصوات لجبروته، فلا تسمع إلا همسًا، ولا يتكلم أحد إلا بإذنه، فهو سبحانه: " مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ".
فإذا قرأ العبد: " الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمـنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ " فإنه يقف عند نهاية كل آية منها هنيهة، وينتظر جواب الله تعالى له حين يرد عليه قائلًا: «حمدني عبدي» «أثنى علي عبدي» «مجدني عبدي» وقلبه يطير فرحًا وسرورًا بإجابة الله تعالى له، وتقر عينه بمناجاته لربه، وذكر أصول أسماء الله الحسنى وصفاته العليا (الله، الرب، الرحمن).
وهذا الجزاء الأخروي يحتاج إلى بحث عن وسائل النجاة وطرقها، فيلجأ العبد إلى ربه بالعبادة، ويُقبل عليه، ويستغرق في مشاهدة أنواره بمناجاته لربه، وضراعته إليه، ووقوفه بين يديه، فكأنه يرى ربه سبحانه، فإن لم يكن قد وصل إلى هذه الدرجة، فليعلم أن الله تعالى يراه ويطلع عليه، وهي مرتبة الإحسان التي قال عنها النبي صلى الله عليه وسلم: «أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك» وكأن الحجاب الذي بين العبد وبين ربه قد انكشف له وهو يخاطبه بقوله: " إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ".
ثم يستحضر المسلم فاقته وحاجته إلى الهداية، فهو محتاج إليها في كل طرفة عين، وهو أشد ما يكون حاجة إلى من يهديه سواء السبيل، فليسأل ربه الهداية من فضله، وكأنه قد أبصر طريق الإسلام الذي اشتمل على سعادة الدارين، وعليه أن يحرص على التمسك به والتزامه " اهدِنَـا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ ".
وكأن المسلم حين يقرأ: " صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ " يرى بعينه درجات أهل السعادة، وأصحاب الكرامة في الجنة؛ من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحين يقرأ: " غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ " كأنه ينظر إلى دركات الفاسقين والكفار في النار، ويرى بعينه عواقبهم الوخيمة " صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ ".
التأمين (آمين): وحين يفرغ المسلم من هذا الدعاء والثناء يشرع له أن يطبعه بالتأمين، كالخاتم عليه، موافقًا بذلك تأمين إمامه، وتأمين الملائكة الكرام؛ ليحظى بالقبول والإجابة، فاللهم استجب (آمين).
ولفظ آمين من أسماء الأفعال، معناها: اللهم استجب، وليست من الفاتحة بالإجماع، ويستحب الإتيان بها مع رفع الصوت للإمام في الصلاة الجهرية ويندب قولها للمنفرد، ويقولها المأموم فرضًا.
(أ) في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول اللهصلى الله عليه وسلم قال: «إذا أمن الإمام فأمنوا، فإنه من وافق تأمينه تأمين الملائكة غُفر له ما تقدم من ذنبه» (البخاري ومسلم).
وفيه دليل على تأمين الملائكة، وغفران الذنوب، وأن ذلك من أشد المواطن على غيظ الشيطان ودحره.
(ب) وكان النبي صلى الله عليه وسلم يرفع صوته ويمده بها، ويُسمع من يليه، وكان المسجد يرتج بها (سنن ابن ماجة وينظر نص الحديث الذي أخرجه الترمذي في «جامع الأصول» وانظر: «المسند» وأبو داود والنسائي).
والتأمين مستحب بعد كل دعاء، فهو كالطابع على الصحيفة، وبه يُختم الدعاء، ويكون مظنة للإجابة.
(ج) وعن أبي هريرة رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا تلا: " غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ " قال: آمين حتى يسمع من يليه من الصف الأول (أخرجه أبو داود بإسناد حسن، «جامع الأصول» وأخرجه أيضاً ابن ماجة).
(د) وعن عائشة (رضي الله عنها) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما حسدتكم اليهود على شيء ما حسدتكم على السلام والتأمين خلف الإمام» (أخرجه أحمد وابن ماجة بإسناد صحيح، «صحيح الجامع» وهو في «المسند» و«صحيح سنن ابن ماجة»).
ويستحب للمأموم أن يوافق الإمام في التأمين، فلا يسبقه ولا يتأخر عنه، وينبغي على الإمام أن يرفع بها صوته حتى يسمع من خلفه.
مختارات