" من أعمال السائرين "
" من أعمال السائرين "
أذكر بعضا من أعمال السائرين بعثا للهمم وإحياء للعزائم:
* أحدهم يأخذ بين الحين والآخر كتبًا باللغة العربية وباللغات الأخرى ويذهب بها إلى محطات وزن الشاحنات، على الطرق السريعة، وعندما تأتي السيارات الكبيرة يناول كل سائق الكتاب الذي يناسبه، وقد ذكر لي أحد الإخوة أنه وزع أكثر من خمسمائة كتاب في أقل من ثلاث ساعات.
وعلل ذهابه إلى ذلك المكان بأن هؤلاء السائقين لا وقت لديهم في المدن لزيارة مكاتب الجاليات أو الهيئات الدعوية فهم محرومون من الكتيبات، فأنا أذهب إلى مكان وقوفهم الإجباري خارج المدن، أما من لا يجيد القراءة منهم فقد أهديته شريطا بلغته، وإن تعثر عليَّ معرفة لغته، أو لم يتوفر لدي أهديه شريطا به قراءة لأئمة الحرم.
* منذ سبع سنوات بدأ بعض الشباب توزيع الكتب على الحجاج القادمين وكانوا يحملون تلك الكتب في سياراتهم، وتدرج الخير حتى أصبح لهم مكتب مرخص له وتم توزيع أكثر من ثمانية ملايين نسخة في عام واحد عبر مكتبهم بمساندة المؤسسات الدعوية والجهات الخيرية.
* أحدهم فرغ نفسه لكتابة مقتطفات من المطويات المجودة وإرسالها إلى الصحف. يقول: لا يهمني أن تنشر كلها، يكفي البعض، وقد بدأ بإرسال كلمات عن أضرار التدخين، ووصايا لتربية الأبناء، وحقوق الزوج وحقوق الزوجة، وفضل يوم عاشوراء، والتحذير من البدع التي تحدث في رجب وشعبان وهكذا مواضيع كثيرة، فقط يجرد قلمه ويسجل على ورقة أو يطبع على جهاز الكمبيوتر، ويرسل للصحف والمجلات.
كم من الناس يقرءون ما يكتب؟ أعتقد أن من يقرأ هذا النقل في الصحف أكثر ممن يقرءون المطوية نفسها، أليس هذا باب خير عظيم؟
رأيت قبل سنوات داعية أمريكيًّا وتعجبنا من قوله: إن كل ساعات يومي للدعوة، فقط وقت نومي هو الذي لا أدعو فيه، أما الوقت الباقي فكله للدعوة: في السيارة والشركة والطريق والمسجد والبيت، لقد ذكرني بهمته وحماسه ما نقرأه عن حال السلف رحمهم الله، وقد مثل بعض الدعاة أعمال شباب اليوم في الدعوة بأنه مثل البالون ينتفخ بسرعة ولكنه في لحظة ينتهي، وهو واقع بعض الشباب يتحمس لأيام ثم ينطفئ نوره ويخبو أثره، والله المستعان، وحديث النبي صلى الله عليه وسلم نبراس لمن أراد الاستمرار: " أحبَّ العملِ إلى اللهِ تعالى أَدْوَمُه و إن قَلَّ ".
أحد المدرسين ذكر أنه طرح على زملائه المدرسين مشروعًا خيريًّا جيدًا عن طريق إحدى المؤسسات الخيرية قال: فتحمس المدرسون وأثنوا على المشروع ووعدوا بالتبرع، قال المدرس: قلت لهم: لعله أدعى للإخلاص وأبعد عن الرياء أن نجعل صندوقا يمر به أحد الطلبة عليكم فكان كذلك.
يقول المدرس: عاد إلي الصندوق بعد أن مر على أكثر من أربعين مدرسًا لكني لما فتحته لم أجد ريالا واحدا، أليست هذه مصيبة إنا لله وإنا إليه راجعون.
* السفر وسيلة دعوية عظيمة، ومن الاستفادة في السفر حمل كتب لتوزيعها على المحطات والمساجد وكذلك المرور على القرى والهجر التي بجوار الطريق وإعطاء إمام المسجد أو المؤذن هذه الكتب، أو جعلها في مستوصف القرية فإنهم بأمس الحاجة إليها.
* إحداهن رأت أن تخرج بعد سنوات داعية من قعر بيتها، إنها خادمتها التي بدأت معها في حفظ سور القرآن، ثم أتت إليها بالكتب والأشرطة وبدأت تشرح لها العقيدة الصحيحة، وتحذرها من البدع والشركيات، وقالت: أطمع أن تكون داعية في قريتها، دع الكثيرات يخرجن خادمات يجدن الطبخ، ولا يعرفن من الدين إلا مثلما أتين.
لو أن كل امرأة استشعرت الأمر، لخرجنا سنويا مئات الآلاف من الداعيات.
* يعمل في محل لصنع الخبز منذ أن يصبح وهو يفتح على إذاعة القرآن الكريم وجعل لديه من المواعظ الكثير فنفع الله به كل من يأتي للشراء، وهو بعمله هذا خير من كثير من المتعلمين العاطلين.
* امرأة تزوجت زوجًا غير ملتزم وأهله مثله، فكانت صدمة لها جعلتها مذهولة حينا من الزمن، لكن لما أفاقت من الصدمة علمت أن الطريق هو طريق محمد صلى الله عليه وسلم فشمرت في العمل، وبدأت بألين وأسهل من في الأسرة من البنات الصغيرات وبذلت نفسها في خدمتهم جميعًا فكانت لا تكل ولا تمل ولا تتذمر ولا تتشكى حتى أحبها البعض ومع هذا قالت: البعض نعمة؛ مرت سنوات هي على حالها تعاني من الاستهزاء والغمز واللمز، لكنها صابرة محتسبة حتى كبرن الصغيرات، وفرج الله عنها بهداية الأسرة لكن ذلك لم يأت من التشكي والتجزع أو من الضعف وترك الدعوة، بل يأتي من الصبر والهمة العالية والدعاة وتحمل المشاق.
لموسى عليه السلام منزلة عند ربه، وخصوصًا في همته الدعوية، حتى غفر الله له ما غفر لسبب همته الدعوية، كما قرر ابن تيمية رحمه الله فيما يرويه عن ابن قيم الجوزية في كتابه مدارج السالكين قال: انظر إلى موسى عليه السلام رمى الألواح فيها كلام الله الذي كتبه بيده فكسرها، وجر بلحية نبي مثله، ولطم عين ملك الموت ففقأها وعاتب ربه ليلة الإسراء في محمد صلى الله عليه وسلم وربه يحتمل له ذلك كله، ويحبه ويكرمه لأنه قام لله تلك المقامات العظيمة في مقابلة أعدى عدو له، وصدع بأمره، وعالج أمة القبط وبني إسرائيل، فكانت هذه الأمور كالشعرة في البحر،وانظر إلى يونس عليه السلام حيث لم يكن له هذه المقامات التي لموسى غاضب ربَّه مرة، فأخذه وسجنه في بطن الحوت، ولم يحتمل له ما احتمل لموسى.
مختارات