" نماذج مضيئة من السلف في الخوف من الله تعالى "
" نماذج مضيئة من السلف في الخوف من الله تعالى "
أخي الحبيب الفطن اللبيب... لقد فقه سلفنا الصالح عن الله أمره، وتدبروا في حقيقة الدنيا، ومصيرها في الآخرة، فاستوحشوا من فتنتها، وتجافت جنوبهم عن مضاجعها، وتناءت قلوبهم عن مطامعها، وارتفعت همتهم عن السفاسف، فلا تراهم إلا صوّامين قوّامين، باكين والهين، ولقد زخرت تراجمهم بأخبار زاخرة، وهاك طرفًا من عباراتهم وعباداتهم:
- عن معمر عن قتادة، قال أبو عبيدة بن الجراح – رضي الله عنه -: « وددت أني كنت كبشًا فيذبحني أهلي، فيأكلون لحمي ويحسون مرقي» (طبقات ابن سعد).
أخي الحبيب... أبو عبيدة ممن شهد بدرًا – المغفور لهم – وهو الذي قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم: «إن لكل أمة أمينًا وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح» (أخرجه أحمد والبخاري ومسلم والحاكم وصححه ووافقه الذهبي).
- قال قتادة: بلغني أن عمران بن الحصين قال: [وددت] أني رماد [تذروني الرياح] (ابن سعد) عمران بن حصين كنيته أبو نُجيد الخزاعي.
- قال إبراهيم التيمي، عن أبيه، عن عبد الله بن مسعود قال: لو تعلمون ذنوبي، ما وطئ عقبي اثنان، ولحثيتم التراب على رأسي، ولوددت أن الله غفر لي ذنبًا من ذنوبي، ولوددت أني دُعيت عبد الله بن روتشة (أخرجه الحاكم والفسوى في المعرفة والتاريخ).
أخي الحبيب... إذا كان عبد الله بن مسعود – رضي الله عنه – يقول عن نفسه ذلك، فماذا يقول مثلي ومثلك؟
- عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – على الرغم من شدته في الحق – إلا أنه كان ذا قلب رقيق يتأثر عندما يسمع آيات الرحمن، حتى تسقط دموعه خشية لله تعالى.
يقول علقمة بن أبي وقاص – رحمه الله – كان عمر يقرأ في صلاة العشاء الآخرة بسورة يوسف، وأنا في مؤخرة الصفوف حتى إذا ذكر يوسف سمعت نشيجه (نقلاً عن: التوثيق في حياة الفاروق لمجدي فتحي السيد) والنشيج هو الصوت الذي يرافق البكاء. هذا هو عمر – أخي الحبيب – والمبشر بالجنة والذي إذا رآه الشيطان يسلك فجًا سلك فجًا آخر، إلى غير ذلك من مناقبه المدونة في الصحيحين وغيرهما - حاله هكذا في الخوف من الله تعالى.
قال زهير بن حيان، قال ابن عباس رضي الله عنهما: دعاني عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فأتيته، فإذا بين يديه نطعٌ عليه الذهب منثور نثر الحَثَى.
قال زهير: فقال ابن عباس: يا زهير، هل تدري ما الحثى؟ قلت: لا، قال: التبن.
ثم قال: قال عمر: هلم فاقسم هذا بين قومك، فالله أعلم حيث زوى هذا عن نبيه صلى الله عليه وسلم، وعن أبي بكر، فأعطيتُه، لخير أعطيتُه، أم لشر؟! قال: فأكببت عليه أقسم وأزيل، فسمعت البكاء، فإذا صوت عمر يبكي ويقول في بكائه: كلا، والذي نفسي بيده ما حبسه عن نبيه صلى الله عليه وسلم، وعن أبي بكر إرادة الشر لهما، وأعطاه عمر إرادة الخير له !! (أخرجه ابن سعد في طبقاته).
ويقول ابن عباس – رضي الله عنهما – دخلتُ على عمر حين طُعن، فقلت: أبشر يا أمير المؤمنين، والله لقد مصَّر الله بك الأمصار، وأوسع بك الرزق، وأظهر بك الحق، ودفع بك النفاق، فقال عمر: أفي الإمارة تثنى علي يا ابن عباس؟! قال: نعم يا أمير المؤمنين، وفي غيرها، قال: فوالذي نفسي بيده لوددت أن أنجو منها كفافًا، لا أؤجر ولا أوزر، والله لوددت أني خرجت منها كما دخلت فيها، لا أجر ولا وزر، والله لو كان لي ما طلعت عليه الشمس لافتديت به من هول المطلع (: أخرجه ابن سعد وابن أبي شيبة والبيهقي في سننه الكبرى).
ويقول أبو سعيد مولى أبي أسيد – رضي الله عنه – كان عمر إذا صلى أخرج الناس من المسجد فأخذ إلينا، فلما رأى أصحابه وضع الدرة وجلس فقال: ادعوا، فدعوا، قال: فجعل يدعو ويدعو حتى انتهت الدعوة إليَّ، فدعوت وأنا مملوك فرأيته دعا وبكى بكاءً لا تبكيه الثكلى، فقلتُ في نفسي، هذا الذي تقولون أنه غليظ !! (أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه).
وقال له ابن عباس – رضي الله عنهما – أبشر بالجنة، صاحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأطلت صحبته، ووليت أمر المؤمنين فقويت، وأديت الأمانة، فقال عمر: أما تبشيرك إياي بالجنة، فوالله لو أن لي الدنيا بما فيها لافتديت به من هول ما أمامي قبل أن أعلم الخبر، وأما قولك في أمر المؤمنين، فوالله لوددت أن ذلك كفافًا لا لي، ولا عليَّ، وأما ما ذكرت من صحبة نبي الله صلى الله عليه وسلم فذلك (أخرجه أحمد وعن طريق ابن عساكر في تاريخه).
أخي الحبيب الفطن اللبيب... وهذا هو الخوف الإيجابي الذي يعين المرء على مزيد من طاعة الله، فليس الخائف من يبكي وتسيل دموعه على خديه، ثم يمضي قدمًا في معاصي الله، وإنما الخائف هو من يترك ما يخاف منه.
- يقول إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف – رحمه الله – لما أُتِىَ عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – بكنوز كسرى، قال عبد الله بن الأرقم: ألا تجعلها في بيت المال حتى تقسمها؟ قال: لا والله، لا أظلها سقف بيت حتى أمضيها، فأمر بها فوضعت في صرح المسجد، وباتوا عليها يحرسونها، فلما أصبح أمر بها، فكُشف عنها، فرأى ما فيها من البيضاء والحمراء ما كاد يتلألأ منه البصر، فبكى عمر، فقال له عبد الرحمن بن عوف – رضي الله عنه -: ما يبكيك يا أمير المؤمنين فوالله إن هذا ليوم شكر، ويوم فرح؟! فقال عمر: ويحك إن هذا لم يعطه قوم قط، إلا أُلقي بينهم العداوة والبغضاء (أخرجه ابن المبارك في الزهد، وعبد الرزاق في مصنفه، وعنه ابن عساكر في تاريخه).
أخي الحبيب الفطن اللبيب... ما أحرانا أن نقتدي بالفاروق في البكاء من خشية الله تعالى.
وأجدر بنا أن تسقط دموعنا من خشية الله سبحانه وتعالى.
مختارات