تابع " الأسباب المعينة على قيام الليل "
تابع " الأسباب المعينة على قيام الليل "
العزيمةُ على مَنْ تكلِّفه بإيقاظك أن لا يتركك حتى تستيقظ ويتأكد من استيقاظك؛ ولو دعاه ذلك إلى نضح الماء في وجهك؛ لما في ذلك من طرد للشيطان وحضور للعقل، وعليك أن لا تغضب إن فعل ذلك؛ حتى لا تَفْتُرَ عزيمته على إيقاظك؛ فإنك لو تعلم مقدار ما أيقظك صاحبُك له لَقَبَّلْتَ رأسَه أن أيقظك ولو أراق عليك الماء.
ولَعَلِّي أضربُ مثلاً يقرِّب المعنى للقلوب بأصحاب ناموا في بيت ملك وعدهم وعدًا، وهو منجزٌ وعده لهم أن يعطيهم مسألتَهم ويسمع شكواهم؛ فيُشكيهم ويأخذ حقَّهم ممَّن ظلمهم، ويصفح عن حقوقه التي قصَّروا فيها باعتذارهم منه، فلما أدركهم التَّعَبُ وكان موعدُ الملك متأخِّرًا ناموا وأمروا من يستيقظُ منهم أن يوقظهم؛ فلما قَرُب موعدُ الملك وجاء ينظر مَن بمجلسه إذا هذا المستيقظُ يوقظُ أصحابَه، فلمَّا غلبَهم النومُ تركهم خشيةَ أن ينغِّص عليهم نومهم، فلما ذهب الملك وفات الموعدُ وأخذ كلُّ حاضر نصيبَه ذهبوا يعاتبون هذا الذي لم يوقظهم وقصَّر في الإلحاح عليهم.
ولو كان أراق عليهم الماءَ وهم مدركون لما له سيقومون وما سينالهم من النصيب الوافر لما تضايقوا ولا عاتبوه؛ وإنما عاتبوه لتقصيره، وهكذا الحريص على قيام الليل؛ يعزمُ على صاحبه أو أهله أو يوقظوه، ولو كان ذلك مزعجًا له، ولو فرَّطوا في إيقاظه لعاتبهم على ذلك.
اتِّباعُ السُّنَّة في النَّوم؛ وذلك في وقت النَّوم وكيفية الاضطجاع وغيرها، كما يلي:
أ) ا لنومُ أولَ الليل؛ فإنَّ في ذلك عونًا كبيرًا على قيام الليل؛ أما مَنْ ينام نصفَ الليل أو بعدَ ذلك فإنه يَشُقُّ عليه القيامُ؛ لأنه لم يستوف راحةَ جسده وحقَّه من النوم، وحقُّ المرء من النوم في اليوم والليلة ثمان ساعات؛ دلَّ على ذلك حديثُ وصف صلاة داود عليه السلام؛ فعن عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: «أحبُّ الصلاة إلى الله صلاةُ داودَ، وأحبُّ الصيام إلى الله صيامُ داودَ؛ كان ينام نصفَ الليل ويقوم ثُلُثَه وينام سدسَه، ويصوم يومًا ويفطر يومًا» (متَّفق عليه).
ولو جمعنا السُّدسَ إلى النِّصف لكان الثُّلُثين، والثلثان ثماني ساعات إذا كان الليلُ اثنتي عشرة ساعة؛ ولمَّا كان المؤمنُ يتأخَّرُ عن النوم في أول اللَّيل لأداء العشاء كانت القيلولةُ عوضًا له عمَّا ينقصه من النوم؛ ليتمَّ له ثماني ساعات أو قريبًا منها؛ فإذا جاء ثلثُ الليل الآخر إذا هو يقظٌ نشيطٌ، وقد كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يقبلُ وينام أولَ الليل، وقد ثبت ذلك عنه؛ رَوَتْ عائشةُ - رضي الله عنها - أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان ينام أولَ الليل ويقوم آخره فيصلي. متَّفقٌ عليه، وكان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يكرهُ الحديثَ بعدَ العشاء كما في البخاريِّ.
ب) ألَّا ينام على فراش وثير؛ بل يكتفي باليسير؛ وذلك لما رُوي أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - نام وقد ثنى فراشَه أربعَ ثنيات وكان يثني اثنين؛ فلمَّا أصبحَ وقد فاته القيامُ سأل: «ماذا صنعتم به؟» فلما أخبروه قال: «رُدُّوه كما كان»(أخرجه التِّرمذيُّ في الشمائل، وضَعَّفَه الألبانيُّ).
كذلك عليه أن لا يَلْتَحف بأغطية كثيرة؛ لأنها تستدعيه إلى الدفء والكسل.
ج) أن ينامَ على وضوء وذكر: فمن توضَّأَ ونام طاهرًا باتَ تحرسُه الملائكةُ وتدعو له وتستغفرُ له؛ عن ابن عمرَ - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ باتَ طاهرًا بات في شعاره ملكٌ؛ فلم يستيقظ إلا قال الملكُ: اللهم اغفر لعبدك فلان؛ فإنَّه بات طاهرًا» (أخرجه ابنُ حبَّان في صحيحه، وقال الألبانيُّ: حسن صحيح).
ويحسن به أن يسأل اللهَ قبل نومه أن يوقظَه للصَّلاة.
د) النَّومُ على الشِّقِّ الأيمن كما أرشد النبي صلى الله عليه وسلم البراءَ بن عازب فقال: «إذا أخذتَ مضجعك فتوضَّأ وضوءَك للصلاة ثم اضطَّجع على شقِّك الأيمن..» (رواه مسلم).
هـ) الحرصُ على أذكار النوم التي وردت في السُّنَّة والآيات والسُّوَر التي كان يقرأ بها قبل نومه؛ فهي حمايةٌ للعبد من الشيطان بإذن الله، ويعينُ على القيام، والنومُ بعدَ القراءة يكون خفيفًا، ويبات صاحبُه على القرآن ويستيقظُ عليه، وإنه لمشاهدٌ أنَّ من نام على القرآن قام يقرأ القرآن، ومن نام على الشِّعر قام يشعر، ومن نام على الغناء قام يغنِّي.. وهكذا.
ومما وردَ من الأذكار و السُّوَر التي تُقرأ قبلَ النوم:
قراءةُ سورتي الزُّمر والإسراء؛ فعن عائشة - رضي الله عنها - قالت: " كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم لا ينام حتى يقرأ الزُّمر وبني إسرائيل " (رواه التِّرْمذيُّ وصحَّحَه الألبانيُّ)، و(بني إسرائيل) اسمٌ لسورة الإسراء.
وعن عائشة - رضي اللهُ عنها - أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كان إذا أوى إلى فراشه كلَّ ليلة جمع كفَّيْه ثم نَفَثَ فيهما يقرأ " قُل هُوَ اللهُ أحَدُ " و " قُل أَعُوذُ برَب الفَلق " و " قُل أَعُوذُ برب النَّاس "، ثم يمسحُ بهما ما استطاعَ من جسده؛ يبدأ بهما على رأسه ووجهه وما أقبلَ من جسده؛ يفعلُ ذلك ثلاثَ مرات (متَّفَقٌ عليه)، وكذلك قراءةُ آية الكرسي.
وما ثبت من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «إذا أوى أحدُكم إلى فراشه، فليأخذ داخلة إزاره فلينفض بها فراشه، وَلْيُسَمِّ اللهَ؛ فإنَّه لا يعلمُ ما خلفه بعده على فراشه، فإذا أراد أن يضطجع فليضطجع على شقِّه الأيمن وليقل: " سبحانك اللهمَّ ربِّي وَضَعْتُ جَنْبي وبك أرفعُه؛ إن أمسكتَ نفسي فاغفر لها، وإنْ أرسلتَها فاحفظْها بما تحفظُ به عبادَك الصالحين» (رواه مسلم).
وما أرشد النبيُّ صلى الله عليه وسلم إليه ابنتَه فاطمةَ - رضي الله عنهما - حينما اشتكت إليه ما تلقى في يدها من الرَّحى فسألته خادمًا، فقال صلى الله عليه وسلم لها ولعليٍّ - رضي الله عنهما: «ألا أَدُلُّكما على خير ممَّا سألتُما؟ إذا أخذتما مضاجعكما أو أَوَيْتُما إلى فراشكما، فسَبِّحا ثلاثًا وثلاثين واحمدا ثلاثًا وثلاثين، وكَبِّرا أربعًا وثلاثين؛ فهو خيرٌ لكما من خادم» (أخرجه البخاريُّ).
وكذلك قراءةُ سورة الكافرون؛ فعن نوفل - رضي الله عنه - أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال له: «اقرأ قل يا أيها الكافرون ثم نم عند خاتمتها؛ فإنَّها براءةٌ من الشِّرك»(أخرجه أبو داود والتِّرمذيُّ وصحَّحه الألبانيُّ).
و) الاكتحالُ قبلَ النوم من هدي نبينا صلى الله عليه وسلم؛ عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: " كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يكتحلُ بالإثمد ثلاثًا قبل أن ينامَ كلَّ ليلة " (أخرجه الإمامُ أحمد وصحَّح إسنادَه أحمدُ شاكر، وضعَّف إسنادَه الأرناؤوط، وأخرجه الحاكم وقال: هذا حديث صحيح الإسناد. ولم يخرِّجاه، وضعَّفه الألبانيُّ في الضَّعيفة).
وله أثرٌ في القيام؛ بيدَ أنَّ أكثرَ الناس عن هذا غافلون، والاكتحالُ بالإثمد يجلو البصرَ ويُذْهبُ الرَّمَدَ؛ والرَّمَدُ يجعل المرءَ ميَّالاً لإغماض عينيه بعدَ النوم؛ مما يكون مدعاةً لغلبة النوم، وقد ورد في الحديث: «وكاءُ السَّه العينان، فمَنْ نام فليتوضأ» (رواه أبو داود وحسَّنَه الألبانيُّ).
وعليه حين الاستيقاظ:
أ) أن يذكرَ اللهَ أولَ ما يدركه وعيُه ويعقلُ يقظتَه، ويلزمُ نفسَه بذلك قبلَ النوم ويستحضر أنَّه إن لم يفعل فإن عدوَّه يتربَّصُ له بالكيد؛ بل قد أَعَدَّ الحبلَ ليوثقه به ويعقدُ عليه ثلاثَ عقد، فإذا أراد العبدُ حلَّ العقد سارع الشَّيطانُ لعقدها مرَّةً أخرى، وهذه العقد تحل بإذن الله، ولكن لكل عقدة حل:
فالعقدة الأولى: حلُّها بذكر الله.
والعقدةُ الثانيةُ: حلها بالوضوء.
والعقدةُ الثالثةُ: حلها بالصلاة.
والشيطانُ ينتهزُ ويتحينُ الفرصَ ليعيدَ العقدَ مرةً أخرى؛ فإذا قام العبدُ وذكر اللهَ وانحلت عقدةٌ عاد الشيطانُ ليعقدها بقوله: عليك ليلٌُ طويلٌ فنم، وقد تقولُ: إذا كان الشيطانُ يعود ليعقدَ عليَّ فكيف أحضنُ نفسي من عقده؟!
إذا أردتَ أن تحصِّن نفسَك من عقده، فعليك أن لا تعطي الشَّيطانَ فرصةً لإعادة العقد؛ وذلك بأن تستمرَّ في ذكر الله، وترفع به صوتك رفعًا ليس بالقَويِّ؛ وإنَّما تسمع نفسك ومن كان مستيقظًا عندك؛ وذلك هدي نبيك محمد صلى الله عليه وسلم.
عن ابن عبَّاس - رضي الله عنه - أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم كان يقول إذا قام إلى الصلاة من جوف الليل: «اللهمَّ لك الحمدُ، أنت نورُ السماوات والأرض، ولك الحمدُ أنت قيَّامُ السماوات والأرض، ولك الحمدُ، أنتَ ربُّ السماوات والأرض ومَنْ فيهنَّ، أنت الحقُّ، ووعدُك الحقُّ، وقولُك الحقُّ، ولقاؤك الحقُّ، والجنةُ حق، والنارُ حق، والساعة حق، اللهمَّ لك أسلمتُ وبك آمنتُ وعليك توكلتُ وإليك أنبتُ وبك خاصمتُ وإليك حاكمتُ، فاغفر لي ما قَدَّمْتُ وأخَّرْتُ وما أسررتُ وما أعلنتُ؛ أنت إلهي لا إله إلا أنت» (رواه البخاريُّ ومسلم)؛ فلو لم يكن رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يرفعُ صوتَه بهذا الدعاء لما سمعه عبد الله بن عباس وحدَّثَ به.
وانظر يا عبدَ الله في هذه الكلمات التي يبادرُ بها صلى الله عليه وسلم أول ما يقوم؛ إنها تجديدٌ للإيمان بعد البعث من المنام، وكأنها حياةٌ جديدة تبدؤها بالإيمان والاستسلام لله، ومن هذا قوله، وهذه حاله عند يقظته؛ فأنَّى للشيطان أن يجد إليه سبيلا.
كما يمكن أن تقرأ شيئا من القرآن عند يقظتك، ويُسَنُّ قراءةُ العشر الأواخر من سورة آل عمران؛ ولكن عليك أن تقرأها جالسًا؛ لئلَّا يغلبَك النَّومُ؛ عن عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما - أنَّه بات عند ميمونة زوج النبيِّ صلى الله عليه وسلم وهي خالته؛ قال: " فاضطجعت في عرض الوسادة، واضطجع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهله في طولها، فنام رسولُ الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا انتصفَ الليلُ أو قبله بقليل أو بعدَه بقليل، استيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجلس يمسح النوم عن وجهه بيديه (
([1])يمكن أن يكون مسح الوجه بعد النوم من الأسباب المعينة على القيام، فتدبَّر ذلك، وفيه طردٌ للكسل وإبعادُ أثر النوم والاستعداد للنهوض وتجلية البصر؛ لأن النومَ له أثر في إطباق الجفون؛ فعندما يصحو النائم قد تراه مفتوح العينين ولكنه لا يرى شيئًا أو لا يدرك ولا يتحقق ما أمامه، ومن الناس من يستيقظ ويمشي وهو مفتوح العينين ولا يدري إلى أي اتجاه يذهب)، ثم قَرَأَ العشرَ آيات الخواتمَ من سورة آل عمرانَ، ثم قام إلى شنٍّ (
شن: القربة القديمة) معلَّقة، فتوضأ منها فأحسنَ الوضوءَ، ثم قام يصلي؛ قال عبدُ الله: فقمتُ فصنعتُ مثلَ ما صنع، ثم ذهبتُ فقمتُ إلى جنبه، فوضع رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يدَه اليُمْنَى على رأسي، فأَخَذَ بأُذُني يفتلُها؛ فصلَّى ركعتين، ثم ركعتين، ثم ركعتين، ثم ركعتين، ثم ركعتين، ثم ركعتين، ثم أوتر، ثم اضطجع حتى جاءه المؤذِّن فقامَ فصلى الصبح (متَّفقٌ عليه)؛ فرسولُ الله صلى الله عليه وسلم قرأ بصوت مسموع سمعه ابنُ عبَّاس - رضي الله عنهما.
ولا يجبُ لقراءتك الوضوءُ ما دمتَ تقرأُ من صدرك، ثم تسارعُ إلى الوضوء لتحلَّ العقدةَ الثانية، وأنت عند وضوئك تستحضر أنَّ الشيطانَ قد بال في أذنيك ومنخريك، فتبالغ في المضمضة والاستنشاق، والمبالغة فيهما - لا سيما عند القيام من النوم - مطردةٌ للنوم ومبعدةٌ للشيطان.
وإياك أن ترجعَ إلى فراشك بعد الوضوء؛ فإنَّ الشيطانَ يريد أن يعيدَك إلى قيده فيزيِّن لك الفراش ويغريك ويوسوسُ لك تارةً بالاستدفاء وتارةً بالرَّاحة.
ب) السُّواكُ من أعظم ما يُذهبُ النومَ ويُعينُ على القيام؛ فله فائدةٌ عجيبةٌ - لا سيما قبل الوضوء ؛ فإذا استقعدت في فراشك فتناول سواكك الذي أعددتَه قبل النوم، وليكن قريبًا منك، ثم استك به؛ فإنَّه سُنَّةُ نبيِّك ومطهرةٌ لفمك ومرضاةٌ لربِّك.
عن حذيفة - رضي الله عنه – قال: " كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يشوصُ(يدلك أسنانه وينقيها ) فاه بالسواك " (متَّفقٌ عليه).
ج) أن تنهضَ من الفراش مباشرةً؛ إن غلب عليك النَّومُ فمارس بعضَ التمارين الرياضية الخفيفة؛ لتستعيدَ نشاطَك؛ وذلك كالمشي و الحركة والقيام والجلوس بسرعة مرَّات متكرِّرة.
د) البدء بركعتين خفيفتين يُذهبُ عنك النَّومَ؛ لأنَّ البدء بركعتين طويلتين إذا كنت ناعسًا قد يغلبك النومُ أثناءها؛ لقلة الحركة؛ فمن هَدْيه صلى الله عليه وسلم بدءُ القيام بركعتين خفيفتين، وأمرَ بذلك لما فيه من فائدة تنشيط الجسم وطرد النوم؛ فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «إذا قام أحدُكم من الليل فليبدأ الصلاةَ بركعتين خفيفتين» (رواه مسلم).
هـ) وحتى لا يملَّ قائمُ الليل أو يغلبَه الشيطانُ فعليه أن ينوِّعَ في صلاته من حيث عدد الركعات وصفتها كما وردت السنةُ بذلك؛ فتارةً يصلِّي إحدى عشرة ركعة مثنى مثنى؛ وهي أكثر صلاته صلى الله عليه وسلم، ولم يزد على هذا العدد؛ لا في رمضان ولا في غيره؛ ولكنها صلاة بطمأنينة وخشوع؛ تقول عائشة - رضي الله عنها: " ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزيدُ في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة؛ يصلِّي أربعًا، فلا تسل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلِّي أربعًا، فلا تسل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلِّي ثلاثًا»(متَّفَقٌ عليه)، وتارةً يصلِّي تسعَ ركعات. وعنها - رضي اللهُ عنها: " وكان يصلِّي من الليل تسعَ ركعات فيهنَّ الوترُ " (رواه مسلم).
وإن شاء أوتر بثلاث وإن شاء أوتر بخمس وإن شاء أوتر بواحدة، وعلى المبتدئ في قيام الليل أن يتدرج فيه؛ فلا يثقلُ على نفسه في بداية الأمر؛ حتى لا يملَّ أو يترك القيام؛ فيبدأ بركعات قليلة لمدة أشهر، ثم إذا اعتاد عليها زاد، وهكذا، وكذلك تطويل القيام يكون بالتَّدَرُّج، ويرى في الجهر والإسرار في القراءة أيهما الأنسبُ له وأخشعُ لقلبه.
وإذا غلبه نعاسٌ تركَ الصلاةَ ونام؛ فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - يرفعه: «إذا قام أحدُكم من الليل فاستعجم القرآنُ على لسانه فلم يدر ما يقوم فليضطجع» (رواه مسلم)، ولم يستكمل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم قيامَ ليلة، وقال لابن عمر - رضي الله عنه: «فإنَّك إذا فعلتَ ذلك هجمت عينُك ونفهت نفسُك؛ وإنَّ لنفسك حقًّا» (رواه البخاري) ونفهت: بمعنى نهكت وتعبت.
الحرصُ على قضاء القيام والورد إذا فات من الليل؛ لأنَّ من علم أن يقضيه في النهار، وقد يكون مشغولاً بطلب رزقه أو دراسته أو وظيفته فلا يستطيع قضاءَه؛ من علم ذلك وكان حقًّا حريصًا على القيام لم يفوت القيامَ إلى مكرهًا وقد نهى النبيُّ صلى الله عليه وسلم عن ترك القيام بقوله لعبد الله بن عمرو: «يا عبدَ الله لا تكن مثلَ فلان كان يقومُ الليلَ فتركَ قيامَ الليل» (رواه البخاري).
وقضاءُ القيام ثَبَتَ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن لم يكن يقضيه وترًا؛ وإنَّما يقضيه شَفْعًا؛ وجاء ذلك في حديث عائشة - رضي الله عنها - قالت: «كان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إذا فاتَتْه الصَّلاةُ من وَجَع أو غيره صَلَّى من النَّهار ثنتي عشرة ركعة» (رواه مسلم)؛ فهذا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم؛ مع أنه غُفرَ له ما تقدَّم من ذنبه وما تأخر يحرص على قضاء القيام إذا غَلَبَه الوجعُ أو النَّومُ.
ومن يفعل ذلك يَنَلْ نصيبَ القائم؛ لأنَّ من نام عن حزبه أو نسيه فصلَّاه ما بين طلوع الشَّمس إلى الزَّوال فكأنَّما صلَّاه من اللَّيل؛ كما ورد ذلك عنه صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم، وعليه أن يُحاسبَ نفسَه ويعاتبها عندَ فواتِ القيام.
مختارات