مناقشة في تغطية الوجه
المسائل المطروقة في المقال ما يلي:
1- العادات والتقاليد وعلاقتها بالحجاب.
2- آية الحجاب، هل هي خاصة بأمهات المؤمنين؟.
3- عورة النظر وعورة الصلاة.
4- رأي الشيخ الألباني في التغطية حال الفتنة.
5- حديث الخثعمية.
-----------------------
1- العادات والتقاليد وعلاقتها بالحجاب.
* قال صاحب المقال: " لأن هذا الرأي لم يبن على مجرد الدليل الشرعي فقط بل للخلفية الاجتماعية دور في تكوين نظرة المجتمع لهذه القضية وهي في الحقيقة قضية شائكة في مجتمع نشأ على قول واحد ولم تسعفه الدراسة النظامية والإعلام المقنن من الاطلاع على الرأي الآخر ". أقول:
هذا هو قولهم دائما: خلفية اجتماعية، عادات وتقاليد... ألخ..
وهو مجانف للحقيقة تماما.. بل نحن نستدل على وجوب التغطية بآيات الكتاب والسنة، قال تعالى: {وإذا سألتموهن متاعا فسألوهن من وراء حجاب ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن}.
وهذا نص صريح في وجوب تغطية الوجه وسائر البدن، ولما كان كذلك ادعى المخالفون أنه خاص بأزواج النبي صلى الله عليه وسلم، وسيأتي تفصيل الكلام في هذا.
وقال: {يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن}.
وقد فسر ابن عباس رضي الله عنه الآية بقوله: " أمر الله نساء المؤمنين إذا خرجن من بيوتهن في حاجة أن يغطين وجوههن من فوق رؤوسهن بالجلابيب، ويبدين عينا واحدة "، ومثله عن عبيدة السلماني.
وقال: { ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها وليضربن بخمرهن على جيوبهن}.
قال ابن مسعود: " الثياب "، أي العباءة أو الجلباب، فلا يمكن ستره، فمعفو عنه، وكذا إذا ما حرك الريح العباءة فظهر منها شيء دون قصد.
وقال: { والقواعد من النساء اللاتي لا يرجون نكاحا فليس عليهن جناح أن يضعن ثيابهن غير متبرجات بزينة وأن يستعففن خير لهن}.
فالآية دالة على إباحة كشف الوجه للمرأة الكبيرة اليائسة من النكاح، قال الجصاص: " أباح لها كشف وجهها ويدها لأنها لا تشتهى ".
وقال صلى الله عليه وسلم: (إن المرأة عورة، فإذا خرجت استشرفها الشيطان) رواه الترمذي وهذا نص صريح في وجوب ستر سائر البدن من غير استثناء.
فهذا النصوص وغيرها تدل بوضوح على أن ستر الوجه والكفين من الدين لا من العادات أو التقاليد الاجتماعية.
ويكفي أن تتأمل بعقلك وتفكر: أيهما أعظم فتنة: آلوجه أم القدم، فهل يعقل أن يأمر الشارع بحجب القدم ويأذن بكشف الوجه؟!.
بالنسبة للأعراف والتقاليد؛ فهي على قسمين:
قسم أصله الدليل الشرعي؛ فهو محمود، كحجاب المرأة وجهها..
وقسم لا أصل له، بل هو محرم في الشريعة؛ فهو مذموم، كدخول الرجل على الأجنبية.
إذن الأعراف والتقاليد التي نشأ عليها الناس لا يطلق عليها وصف الذم بإطلاق، ولا المدح، بل يستفصل فيها، فإن كان لها أصل من الشرع، نقبل بها ونعمل بها على جهة التدين، لا التقليد، وإن لم يكن لها أصل من الشرع فلا.
وعلى ذلك فما يوجد في المجتمع من عادات وتقاليد، فمنها المحمود الموافق للشرع، ومنها المذموم المخالف للشرع، لكن كلامنا هنا خاص بقضية تغطية الوجه.
فما نشأ ودرج عليه المجتمع من التغطية إنما هي عادة محمودة لها أصل شرعي؛ فمن الناس من يعمل بها على أنها عادة وتقليد، وهكذا كان أكثر الناس، ومنهم من يعمل بها على أنها دين وشريعة، وهذا ما صار إليه كثير من الناس اليوم.
والغرض من هذا بيان أن دعاة السفور ونزع الحجاب، يلبسون على الناس أمرهم، فيزعمون أن تغطية الوجه نتاج العادة والتقاليد التي ليس لها أصل في الدين، ويصرحون بهذا، أي أنه من قسم العادة المذمومة، يقصدون بذلك التهوين من شأن الحجاب، ليسهل نزعه، لأن العادات قد يستعاض عنها بغيرها من غير حرج ولا تأثم، وهذا بخلاف الدين، حيث إن المستعيض عنه بغيره آثم خاطيء.
وليس معنى هذا أن كل من قال: التغطية عادة؛ فبالضرورة أن يكون داعية لنزع الحجاب والسفور، كلا، بل قد يقول ذلك ظنا منه أن ذلك هو الحقيقة، وقوله ناتج عن قلة علمه بأدلة وجوب التغطية وأقوال العلماء فيها، وإلا لو تفقه في المسألة فلن يقول هذا أبدا.
وكيف يقول هذا، والعلماء مجمعون أن التغطية أفضل في كل حال، وأن الفتنة موجبة للتغطية؟!..
--------------------------
2- آية الحجاب، هل هي خاصة بأزواج النبي صلى الله عليه وسلم؟.
ذكرنا أن آية الحجاب صريحة في وجوب تغطية الوجه، ولما كان المخالفون يدركون هذا، ادعوا أنها خاصة بأزواج النبي صلى الله عليه وسلم، ونحن نجيب على هذه الشبهة فنقول:
المقصود من الحجاب، هو طهارة قلب الرجل والمرأة، وهذا لا مرية فيه، وإذا تأملنا وجدنا نساء المؤمنين أحوج إلى طهارة القلب من أمهات المؤمنين، والسبب:
أنه لا مقارنة بين أمهات المؤمنين ونساء المؤمنين، فنحن لا نقدر أن نشهد لنساء المؤمنين بمثل ما نشهد به لأمهات المؤمنين من الصلاح والتقوى، ثم إن الرجال لا مطمع لهم في أمهات المؤمنين، خاصة في ذلك الزمن الذي كان الصلاح فيه غالبا، والصحابة متوافرون، بخلاف غيرهن، فإن مطمع الرجال فيهن متحقق، والأزمنة غير ذلك الزمان.
فإذا كان أمهات المؤمنين مأمورات بالحجاب فمن باب أولى نساء المؤمنين، لأن المعنى الذي لأجله أمر الأمهات رضوان الله عليهن بالتحجب، وهو طهارة القلب، أظهر وأحرى في نساء المؤمنين، للأسباب الآنفة.
وعلى ذلك فقول من يقول: إنه خاص بأمهات المؤمنين؛ قول مرجوح ضعيف، يخالف مقتضى الأصول الشرعية، بل والنصوص الصريحة، فقوله صلى الله عليه وسلم: (المرأة عورة)، أي كلها، صريح في تغطية الوجه، وكذا آية الإدناء وآية النور، وقد ورد عن ابن مسعود وجوب التغطية، وكذا عن ابن عباس.
وما أشبه قول من يقول: التغطية خاصة بأمهات المؤمنين؛ بقول من يقول: القرار في البيت خاص بأمهات المؤمنين؛ بدعوى أن الخطاب جاء في حقهن، قال تعالى: { وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى}.
وهذا القول غير مقبول إطلاقا، فإن الشريعة طافحة بالأمر بلزوم النساء بيوتهن، وليس الحكم خاصا بالأمهات.
ثم كون الخطاب واقعا في حق أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، لا يمنع من انتشاره وشموله بقية النساء. فقول من يمنع ويخص لا يسنده دليل، إذ لو أخذنا بمثل هذا المفهوم، وقلنا: ما دام الخطاب موجها إلى الأمهات فهو يقتصر عليهن؛ كان ذلك قاضيا بأن يكون ما بعده كذلك خاصا بهن: { ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى}، فيكون حينذاك التبرج غير جائز في حقهن، جائز في حق غيرهن من سائر النساء؛ ولا قائل بهذا أبدا.
فكيف استثني التبرج فصار عاما شاملا، وقيد القرار والتغطية فصار خاصا؟!.
هذا هو التناقض..
فإن قيل: إن التبرج فيه نصوص أخرى تحرمه.
قيل: والتغطية والقرار فيه نصوص أخرى كذلك.
ثم نحن نقول نفس الخطاب فيه دلالة على أنه شامل لمن هن دون الأمهات، فإذا الطاهرات المتقيات الصالحات زوجات النبي صلى الله عليه وسلم، أمهات المؤمنين رضوان الله عليهن، أمرن بالحجاب، بتغطية الوجه، والقرار في البيت، فغيرهن ممن لا يعلم صلاحن ولا تقواهن من باب أولى.
ومثل هذا قوله تعالى: { فلا تقل لهما أف}..
فلا يصح في محكم العقول أن يقول قائل: الآية نهت عن التأفف ولم تنه عن السب أو الضرب.
فهذا فهم سقيم، فإن الآية إذ نهت عن أدنى الإثم، فهي ناهية عن الأعلى منه من باب أولى.
ومن فهم هذه المسألة زال عنه الإشكال إن شاء الله...
* قال الكاتب فضل الفضل: " ولكن قبل نقل النصوص لابد أن أشير إلى خطأ علمي يقع فيه كثير من يتكلم عن وجه المرأة وهو ربط الحجاب بالعورة وهذا خطأ شنيع فهناك فرق بين الحجاب وحد العورة " أقول:
استنشاع لا وجه له ولا معنى..
لكنه أراد بهذا المدخل أن يقرر ويؤصل لدعوى خصوصية الحكم بأمهات المؤمنين.. وكما قلت فيما سبق، في التعليق الأول على هذا المقال، أن هذه الآية:
{ وإذا سألتموهن متاعا فسألوهن من وراء حجاب ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن}، نص صريح في وجوب تغطية الوجه لا مدفع له، وقد علم المجوزون للكشف هذه الحقيقة، فصاروا يدّعون الخصوصية، لكن الكاتب جاء بمعنى آخر، هو قصره معنى الحجاب على السترة التي تحجز الشخوص حتى لا تُرى؛ وهذه دعوى لا تسلم له.
فإن الحجاب أعم من ذلك وأشمل، فكل شيء حجز بين شيئين فهو حجاب، وعباءة المرأة وجلبابها حاجز بين النظر وبدن المرأة، ولا شك أن تسمية ذلك حجاب صواب، ومن هنا جاز تسمية الأعمى الضرير محجوبا، لكونه منع من النظر إلى الأشياء، فصار العمى حجابا بينه وبين الأشياء.. وهذا المعنى ذكره صاحب لسان العرب ـ الذي نقل عنه الكاتب ـ فقال: والمحجوب: الضرير "... 3/51
ولو أن الكاتب قرأ قليلا بعد الموضع الذي نقل منه من اللسان لتراجع عن هذا القصر الخاطيء لمعنى الحجاب، والذي بنى عليه أن الحجاب خاص بأمهات المؤمنين، على معنى أنه لا يجوز لهن إظهار شخوصهن إلا للضرورة كما نقل ذلك عن القاضي عياض...... وقد ذهب إلى القول بأن الآية عامة في حق جميع النساء طائفة من المفسرين على رأسهم ابن جرير، الذي قد نقل الكاتب كلامه مجتزأ، حيث نقل آخره، وترك أوله الذي فيه التصريح بأن الآية عامة، وكان ذلك خطأ منه، فإن احتجاجه بقول ابن جرير في هذا الموضع موهم بأن ابن جرير يقول بالخصوص، وليس كذلك، وإليك كلامه بالتمام، قال ابن جرير:
" يقول: وإذا سألتم أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم (ونساء المؤمنين اللواتي لسن لكم بأزواج) متاعا {فاسألوهن من وراء حجاب}، يقول من وراء ستر بينكم وبينهن، ولا تدخلوا عليهن بيوتهن.
{ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن}، يقول تعالى ذكره: سؤالكم إياهن المتاع إذا سألتموهن ذلك من وراء حجاب أطهر لقلوبكم وقلوبهن من عوارض العين فيها، التي تعرض في صدور الرجال من أمر النساء، وفي صدور النساء من أمر الرجال، وأحرى من أن لا يكون للشيطان عليكم وعليهن سبيل "..
إذن، ابن جرير يرى أن الآية تشمل نساء المؤمنين، وليست خاصة بالأمهات رضوان الله عليهن، فكيف ساغ للكاتب أن يستشهد بكلامه في معرض احتجاجه على أن الآية خاصة بالأمهات؟!.
هذا وهناك جمع من المفسرين ذهبوا إلى هذا القول منهم:
- الجصاص قال: " وهذا الحكم وإن نزل خاصا في النبي صلى الله عليه وسلم وأزواجه، (فالمعنى عام فيه وفي غيره) ".
- قال القاضي ابن العربي في هذه الآية: " والمرأة كلها عورة، بدنها وصوتها، فلا يجوز كشف ذلك إلا لضرورة ".
- قال القرطبي: " في هذا الآية دليل على أن الله تعالى أذن في مسألتهن من وراء حجاب في حاجة تعرض، أو مسألة يستفتين فيها،(ويدخل في ذلك جميع النساء بالمعنى) وبما تضمنته أصول الشريعة من أن المرأة كلها عورة، بدنها وصوتها ".
- قال ابن كثير في تفسير قوله: { لا جناح عليهن في آبائهن.. }: " لما أمر الله النساء بالحجاب عن الأجانب بين أن هؤلاء الأقارب لا يجب الاحتجاب عنهم ".
- قال الشنقيطي في أضواء البيان:
" تعليله تعالى لهذا الحكم الذي هو إيجاب الحجاب بكونه أطهر لقلوب الرجال والنساء من الريبة في قوله تعالى: { ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن}، قرينة واضحة على إرادة تعميم الحكم، إذ لم يقل أحد من جميع المسلمين إن غير أزواج النبي صلى الله عليه وسلم لا حاجة إلى أطهرية قلوبهن وقلوب الرجال من الريبة منهن، وقد تقرر في الأصول أن العلة قد تعمم معلولها، وإليه أشار في مراقي السعود بقوله:
وقد تخصص وقد تعمم.... لأصلها لكنها لا تخرم
قال: وبما ذكرنا تعلم أن في هذه الآية الكريمة الدليل الواضح على أن وجوب الحجاب حكم عام في جميع النساء لا خاص بأزواجه صلى الله عليه وسلم، وإن كان أصل اللفظ خاصا بهن، لأن عموم علته دليل على عموم الحكم فيه، ومسلك العلة الذي دل على أن قوله تعالى: { ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن}، هو علة قوله تعالى: { فاسألوهن من وراء حجاب} هو المسلك المعروف في الأصول بمسلك الإيماء والتنبيه، وضابط هذا المسلك المنطبق على جزئياته:
هو أن يقترن وصف بحكم شرعي على وجه لو لم يكن فيه ذلك الوصف علة لذلك الحكم لكان الكلام معيبا عند العارفين..
فقوله تعالى: { ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن}، لو لم يكن علة لقوله تعالى: { فاسألوهن من وراء حجاب}، لكان الكلام معيبا غير منتظم عند الفطن العارف.
وإذا علمت أن قوله تعالى: {ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن}، هو علة قوله: {فاسألوهن من وراء حجاب}، وعلمت أن حكم العلة عام، فاعلم أن العلة قد تعمم معلولها، وقد تخصصه، كما ذكرنا في بيت (مراقي السعود) وبه تعلم أن حكم آية الحجاب عام لعموم علته.
وإذا كان حكم هذه الآية عاما بدلالة القرينة القرآنية، فاعلم أن الحجاب واجب بدلالة القرآن على جميع النساء ".
فهذا الكلام المؤصل لهذه المسألة من حيث الأصول يؤكد أن الآية عامة، ولا خلاف في أنها تدل على وجوب ستر سائر البدن بغير استثناء، ومن ثم فالصواب والحق هو وجوب حجاب الوجه على سائر النساء.
وما نقله الكاتب عن القاضي عياض من قوله: " لا خلاف في أن فرض ستر وجه المرأة مما اختص به أزواج النبي صلى الله عليه وسلم.. "..
قول مردود، وكيف يقول: لا خلاف؛ مع ورود كافة الأقوال السابقة وغيرها المعروفة، التي توجب غطاء الوجه على سائر النساء، وكذا ما ثبت عن ابن مسعود رضي الله عنه، الذي لا يختلف الناس في أنه كان يرى وجوب الستر على جميع النساء وكذا ما ورد عن ابن عباس أيضا؟!.
إضافة...
قررنا فيما سبق أن قوله تعالى: { وإذا سألتموهن متاعا فسألوهن من وراء حجاب}، يدل على وجوب تغطية كل بدن المرأة بما في ذلك الوجه واليدين، وأبطلنا دعوى من يقول أنها خاصة بأمهات المؤمنين.
ونزيد هنا بيانا فنقول:
الآية تنهى عن الدخول على نساء النبي صلى الله عليه وسلم، وأن من أراد سؤال شيء فليكن من خارج البيت، قال ابن جرير: " يقول من وراء ستر بينكم وبينهن، ولا تدخلوا عليهن بيوتهن ".
إذن الآية جاءت في الدخول على النساء بيوتهن، يدل على هذا أن الآية نزلت في ذلك، قال تعالى:
{ يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم... }.. إلى أن قال: { وإذا سألتموهن متاعا..}.. والاعتراض الموجه إلى القائلين بأنها خاصة بأمهات المؤمنين أن يقال:
على مقتضى قولكم بالتخصيص، فإنه يجوز للرجال أن يدخلوا بيوت نساء المؤمنين وسؤالهن من غير حجاب، باعتبار أن الآية واردة في حق الأمهات فحسب..
وهذا من أبطل الباطل، ولا يقوله به أحد أبدا، ولن ينجيكم من هذا المزلق إلا أن تقولوا المنع عام، فلا يجوز دخول الرجال على النساء في بيوتهن وسؤالهن إلا من وراء حجاب، يستوي في ذلك النساء والأمهات. فثبت بذلك أن الآية عامة، تنهى عن دخول الرجال على النساء بيوتهن إذا أرادوا شيئا، وجاء الخطاب في حق نساء النبي صلى الله عليه وسلم، لكن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، كما هو مقرر في الأصول.
3- عورة النظر وعورة الصلاة.
* قال الكاتب: " وفي الحقيقة أن كلامه هو الأكذوبة العلمية التي نالها هو من قلة اطلاعه والنقل عمن أخفى تلك الحقيقة وإليك الدليل على أن هذا القول ليس بأكذوبة علمية. يقول النووي (المشهور من مذهبنا أن عورة الحرة جميع بدنها إلا الوجه والكفين وبهذا كله قال مالك وطائفة وهي رواية عن الإمام أحمد.... ومن قال عورة الحرة جميع بدنها إلا وجهها الأوزاعي وأبو ثور، وقال أبو حنيفة والثوري والمزني قدماها أيضا ليس بعورة، وقال أحمد جميع بدنها إلا وجهها فقط) المجموع ج3 ص 175.
وقال ابن هبيرة - من أعلام المذهب الحنبلي - (قال أبو حنيفة وكلها عورة إلا الوجه والكفين والقدمين... وقال الشافعي: كلها عورة إلا وجهها وكفيها، وقال أحمد في إحدى روايتيه: كلها عورة إلا وجهها وكفيها كمذهبهما، والرواية الأخرى: كلها عورة إلا وجهها خاصة وهي الرواية المشهورة) الإفصاح عن معاني الصحاح ج1 ص 86.
قال ابن عبد البر في التمهيد (قال مالك وأبو حنيفة والشافعي وأصحابهم وهو قول الأوزاعي وأبو ثور على أن المرأة تغطي منها ما سوى وجهها وكفيها) التمهيد لابن عبدالبرج 6 ص364. من هذا النقل يتضح أن هذا القول هو قول الجمهور وليس أكذوبة علمية. "
أقول:
يقولون: " اختلف العلماء في الوجه واليدين بالنسبة للمرأة، فمنهم من أجاز لها كشفها، ومنهم من منع ".. لكن الذي نعتقد أن كثيرا من الناس لم يفهم حقيقة هذا الخلاف بين أهل العلم..
والحقيقة تبرز إذا عرفنا أن الكلام عن عورة المرأة إنما يذكر دائما في " باب شروط صحة الصلاة "، فيقول العلماء:
" وكل المرأة عورة إلا وجهها وكفيها "..
وهم إنما يقصدون عورتها في الصلاة، لا عورتها في النظر..
وعورة الصلاة ليست مرتبطة بعورة النظر لاطردا ولا عكسا، فما يجوز كشفه في الصلاة بالنسبة للمرأة هو الوجه بالإجماع، واليدين عند جمهور العلماء، والقدمين عند أبي حنيفة وهو الأقوى..
أما خارج الصلاة فلا يجوز كشف ذلك أبدا، فإذا قيل: " إن وجه المرأة وكفيها ليستا بعورة "..
فهذا المذهب إنما هو في الصلاة إذا لم تكن بحضرة الرجال، وأما بالنسبة لنظر الأجنبي إليها فجميع بدنها عورة لابد من ستره عن الأجنبي لقوله عليه الصلاة والسلام: (المرأة عورة)..
قال موفق الدين ابن قدامة:
" وقال مالك والأوزاعي والشافعي: جميع المرأة عورة إلا وجهها وكفيها، وما سوى ذلك يجب ستره في الصلاة ".
وقال ابن القيم: " العورة عورتان: عورة في الصلاة، وعورة في النظر، فالحرة لها أن تصلي مكشوفة الوجه والكفين، وليس لها أن تخرج في الأسواق ومجامع الناس كذلك ".
وقال البيضاوي في تفسير قوله تعالى: {ولايبدين زينتهن إلا ماظهر منها}:
" والمستثنى هو الوجه والكفان لأنهما ليستا من العورة، والأظهر أن هذا في الصلاة لا في النظر، فإن كل بدن الحرة عورة، لا يحل لغير الزوج والمحرم النظر إلى شيء منها إلا لضرورة ".
وقال الصنعاني: " ويباح كشف وجهها حيث لم يأت دليل بتغطيته، والمراد كشفه عند صلاتها بحيث لا يراها أجنبي، فهذه عورتها في الصلاة، وأما عورتها بالنظر إلى نظر الأجنبي إليها فكلها عورة كما يأتي تحقيقه ".
فهذه النقول عن أهل العلم كافية لإثبات الفرق بين حدود العورة وحدود الحجاب..
وعليه فلا يصح أبدا ما قد يذكره بعض الناس من إجماع العلماء على جواز كشف الوجه واليدين، فبالإضافة إلى كونه جهلا بمواقف العلماء هو كذلك جهل بحقيقة الخلاف بينهم.
فمن ورد عنهم جواز كشف الوجه واليدين على قسمين:
قسم لا يجيز ذلك بإطلاق، بل يخصه في الصلاة فقط، ويحرمه عند وجود الرجال الأجانب، وهذا القسم لم يفهم بعض الناس قوله، فلما سمعه يقول: " والمرأة كلها عورة إلا وجهها وكفيها "..
ظن أن ذلك بالعموم حتى في النظر، فحمل قوله على جواز الكشف مطلقا، وهذا خطأ، فإنهم لم يقصدوا التعميم. فهذا سبب من أسباب الاختلاف في المسألة. (انظر: عودة الحجاب228-233)
القسم الآخر أجاز الكشف بإطلاق..
والمقصود من هذا تحرير كلام العلماء الذين ورد عنهم جواز الكشف، وأنه لا بد من التدقيق في كلامهم، فكثير منهم قصد الصلاة، ولم يقصد ذلك بإطلاق..
وقد نقل الأخ الكاتب كلاما لابن عبد البر، وهو ما يلي:
* " قال ابن عبد البر في التمهيد (قال مالك وأبو حنيفة والشافعي وأصحابهم وهو قول الأوزاعي وأبو ثور على أن المرأة تغطي منها ما سوى وجهها وكفيها) التمهيد لابن عبدالبرج 6 ص364. من هذا النقل يتضح أن هذا القول هو قول الجمهور وليس أكذوبة علمية. " أقول: الأخ الكاتب قفز كلمات مهمة تبين أن كلام الإمام ابن عبد البر إنما كان في الصلاة، وهاك تمام كلامه: قال ابن عبد البر: " وقد أجمعوا أن المرأة تكشف وجهها في الصلاة، والإحرام، وقال مالك وأبو حنيفة والشافعي، وأصحابهم، وهو قول الأوزاعي وأبي ثور: على أن المرأة تغطي منها ما سوى وجهها وكفيها ".. التمهيد 6/364.
من الواضح جدا أن سياق الكلام في عورة الصلاة لا عورة النظر، ولا أدري كيف غفل الكاتب عن تلك الجملة المهمة السابقة مباشرة لما نقله؟!.
ومما يدلك على أن المقصود عورة الصلاة، ما نقله الكاتب أيضا عن النووي حيث قال: " (وقال أبو حنيفة والثوري والمزني قدماها أيضا ليس بعورة، وقال أحمد جميع بدنها إلا وجهها فقط) " المجموع ج3 ص 175.
موطن الشاهد: ذكر القدمين.. فمعلوم أن أحدا لم يقل أن القدمين ليستا بعورة في النظر، بل هم مجمعون على أنهما عورة في باب النظر، إنما الخلاف في الوجه واليدين، وإنما جاء ذكر القدم في كلامهم هنا، لأن الكلام في عورة الصلاة…
فليتنبه لمثل هذا..
* ذكر الكاتب أن أول من قال بالتفريق بين عورة الصلاة وعورة النظر هو ابن تيمية وتابعه عليه ابن القيم.. هنا يقال:
لا ينبني على هذا كبير فائدة؛ سواء كان كذلك أو غير ذلك، فالأمر واحد، ذلك لأن ابن تيمية لم يخترع شيئا جديدا في الدين أو قولا محدثا، غاية الأمر أنه فصل وفسر وبيّن حقيقة كلام أهل العلم، فنبه إلى أن القول بأن جمهور العلماء يقولون بكشف الوجه اعتمادا على ما جاء عنهم في باب شروط الصلاة، ليس دليلا كافيا في نسبة ذلك القول إليهم؛ وقد صدق في هذا.
فليس قولهم بجواز كشف الوجه في الصلاة دليلا على جواز الكشف مطلقا، لما بين الكشف في الصلاة والكشف خارجها من فرق ظاهر واضح، عكس ما قاله الكاتب، وبيان ذلك:
أن الكاتب أراد أن يبين خطأ التفريق بين عورة الصلاة وعورة النظر من حيثيتين:
ـ من حيث اللغة..
ـ من حيث اتهام من يقول بالتفريق للفقهاء بالخلط بينهما؛ على حد قوله.
وجواب ما ذكره في الأصل اللغوي أن يقال:
(العورة) كذا بأل العهدية ينصرف إذا ذكر إلى العورة المعروفة، وهي عورة النظر.. نعم هو كذلك، لكن ذكرها في باب شروط الصلاة أخرجها من كونها معهودة، فصارت مقيدة بالصلاة، فيقال: عورة المرأة في الصلاة.. فهنا مقيدة وليست عامة ولا عهدية؛ فتبين من هذا أن ما ذكره الكاتب غير صحيح..
فالعلماء إن ذكروا العورة في باب شروط الصلاة فهي مقيدة، ولو ذكرت بأل العهدية، لكونها مدرجة تحت باب شروط الصلاة..
وإن ذكروها بقولهم: عورة المرأة في الصلاة؛ فهي مقيدة في نفس الجملة، كما هو ظاهر، بل الأغلب ذكرها منكرة لا معرفة بأل العهدية، عكس ما ذكره الكاتب بقوله: *** " وهكذا تذكر (العورة) في هذا المبحث الفقهي معرفة بأل العهدية أي إنها العورة المعروفة المعهودة وهي عورة النظر "..
وللتأكد انظر ما نقله الكاتب في مقاله من أقوال أئمة المذاهب:
فقد نقل عن المرغيناني: (بدن المرأة (عورة) كلها إلا وجهها وكفيها..)..
وعن ابن عبد البر في التمهيد: " الحرة كلها (عورة) مجتمع على ذلك إلا وجهها وكفيها)...
وعن الشافعي: " والمرأة كلها (عورة) إلا وجهها وكفيها "..
وعن الشيرازي: " وأما الحرة فجميع بدنها (عورة) إلا وجهها وكفيها "..
وكذا عن أحمد: " كلها (عورة) إلا وجهها وكفيها.. ".
وانظر بقية النقول تجد الأمر كما بينته لك...
ولا أدري هنا أيضا: هل كان الكاتب غافلا وهو يقول: " وهكذا تذكر (العورة) في هذا المبحث الفقهي معرفة بأل العهدية أي إنها العورة المعروفة المعهودة وهي عورة النظر " ؛ عن حقيقة النقولات التي جاء بها، والتي تضاد ما ذكره؟!.
فالأقوال التي نقلها هو بنفسه عن الأئمة تبين أنهم في الغالب يذكرون العورة منكرة خالية من " أل " العهدية.
وقد خلص من قوله هذا إلى أن عورة النظر هي عورة الصلاة، من غير فرق!!!!!!..
أما وقد تبين خطأ دعواه من أن الفقهاء يذكرون العورة معرفة بأل العهدية، وأن الحقيقة أنهم إنما يذكرونها منكرة مضافة مقيدة، فإن ما بنى عليه من اتحاد عورة الصلاة وعورة النظر لا يقوم ولا يصح ولا يثبت، بل الثابت التفريق بينهما، ومما يؤكد هذا: أنه لا خلاف بين المجيزين للكشف أن التغطية ـ خارج الصلاة ـ أفضل من الكشف.
فالتغطية أمام الأجانب إما أن تكون واجبة عند جمع من أهل العلم، أو مفضلة عند غيرهم، أما في الصلاة فالكشف واجب عند الجميع. كما ذكر ابن عبد البر في التمهيد 6/365...
فلو كانت العورتان ـ النظر والصلاة ـ متحدتان لما وجد هذا الفرق فيهما في تغطية الوجه..
--------------------------
أما عن الخطأ الثاني بحسب تعبير الكاتب؛ فإن أحدا لم يتهم الفقهاء المتقدمين بالخلط بين عورة الصلاة وعورة النظر، إنما الخلط فيمن حمل كلامهم على الاتحاد بينهما وجعلهما شيئا واحدا ـ كما تبين من التفصيل الآنف ـ..
وهنا نقول:
لا ننفي أن يكون من يقول بجواز كشف الوجه واليد في الصلاة أن يقول بمثل ذلك خارج الصلاة، إنما الذي نريد بيانه أن قول الإمام من الأئمة في حد عورة النظر لا يؤخذ مما ورد عنه في حد عورة الصلاة بمجرده.. بل لا بد أن يرد عنه قول آخر صريح وواضح في حد العورة خارج الصلاة.. كأن يقول: عورة المرأة مع الرجل، أو عورة المرأة مع الأجانب.. ونحوها...
فهذا النوع من التصريح واضح، وعليه يصح الاعتماد لنسبة القول بجواز الكشف إلى من صدر عنه.. أما ذكر الأئمة حد عورة المرأة في باب شروط الصلاة، بمجرده، فليس كافيا في إثبات أن الإمام يقول بأن عورة الصلاة هي عورة الرجل........ وقبل أن أنهي الكلام على هذه النقطة أذكر ما يلي:
البحث هنا إنما هو في نسبة الكلام إلى الأئمة، هل صح عنهم القول بالكشف؟، وهل ما ورد عنهم في الكشف الصلاة كاف في إثبات أنهم يقولون بالكشف أمام الأجانب؟… وليس البحث في أدلة الكشف..
ننبه إلى هذا، حتى يعلم أن الأصل في معرفة الأحكام الشرعية هي الأدلة الصحيحة، وليس مجرد معرفة الأقوال الواردة.
-----------------
4- رأي الشيخ الألباني في التغطية حال الفتنة.
* قال الكاتب: " وإنما الأكذوبة العلمية هي القول إن القائلين بجواز كشف الوجه يوجبون ستره عندما تكون المرأة شابة ويخشى على غيرها الفتنة بها وعن هذه المسألة يقول الشيخ الألباني في كتابه جلباب المرأة المسلمة (ثم غلا أحد الجهلة من المقلدين المعاصرين فنسب هذا الشرط إلى الأئمة أنفسهم فنتج من ذلك عند بعض من لا علم عنده إلا التحطيب والتحويش أن لا خلاف بين الأئمة) إلى أن يقول (والحقيقة أن هذا الشرط المذكور وإنما ذكره العلماء ومنهم مؤلف كتاب الفقه على المذاهب الأربعة في نظر الرجل إلى وجه المرأة فقالوا (يجوز ذلك بشرط أمن الفتنة) وهذا حق بخلاف ما فعله المقلدة.....) ص 16 "
أقول:
في مقال لي بعنوان:
http://209.39.13.51:81/sahat؟[email protected]^[email protected]
بينت بالأدلة أن تغطية الوجه واجبة بإجماع العلماء في زمن الفتنة، وعلى ذلك قول المجيزين لكشف الوجه..
وقد كنت سردت قول الأحناف لأبين أنهم يقولون بذلك، وكذا بقية المذاهب، فالقول بوجوب التغطية زمن الفتنة حقيقة ثابتة عن القائلين بجواز الكشف، وليست أكذوبة علمية...
والذي يبين هذا، ما ورد عنهم، فما ورد عنهم ليس غيبا، بل هو مكتوب في الكتب، وبيانا للحقيقة سأنقل هنا قول الأحناف، على أن أورد بقية الأقوال إن شاء الله في موضعه..
-------------
هذا إيراد لأقوال أئمة المذاهب الأربعة في وجوب التغطية حال الفتنة (نقل هذه الأقوال وغيرها الشيخ محمد إسماعيل المقدم في كتابه العظيم الذي ننصح بقراءته " عودة الحجاب " ).:
--------------------------------
أولا: قول الحنفية..
1- قال الجصاص في تفسير قوله تعالى: { يدنين عليهن من جلابيبهن}:
" في هذه الآية دلالة على أن المرأة (الشابة) مأمورة بستر وجهها من الأجنبي، وإظهار الستر والعفاف عند الخروج، لئلا يطمع أهل الريب فيهن ".
2- وقال الطحاوي: " وتمنع المرأة (الشابة) من كشف الوجه بين الرجال، لا لأنه عورة، بل لخوف (الفتنة)، كمسه، وإن أمن الشهوة، لأنه أغلظ ". رد المحتار على الدر المختار 1/272
3- قال ابن عابدين في شرحه:
" تمنع من الكشف لخوف أن يرى الرجال وجهها فتقع (الفتنة) ". المصدر السابق
4- نقل ابن عابدين عن صاحب المحيط قوله:
" ودلت المسألة على أن المرأة منهية عن إظهار وجهها للأجانب بلا ضرورة ". المصدر السابق 2/189
5- قال الإمام محمد أنور الكشميري:
" يجوز الكشف عند الأمن عن (الفتنة)، على المذهب، وأفتى المتأخرون بسترها لسوء حال الناس ". فيض الباري على صحيح البخاري 1/254
6- قال ابن نجيم:
" وفي فتاوى قاضيخان: ودلت المسألة على أنها لا تكشف وجهها للأجانب من غير ضرورة " البحر الرائق شرخ كنز الدقائق 2/381
وقال أيضا: " قال مشايخنا: تمنع المرأة (الشابة) من كشف وجهها بين الرجال في زماننا(للفتنة) ". نفس المصدر 1/284
7- وفي الهدية العلائية: " وتمنع (الشابة) من كشف وجهها خوف (الفتنة) "..
8- وفي المنتقى:
" تمنع (الشابة) من كشف وجهها، لئلا يؤدي إلى الفتنة، وفي زماننا المنع واجب، بل فرض لغلبة الفساد ".
وأقوال بقية المذاهب لا تختلف كثيرا عن قول الأحناف..
أما الشيخ الألباني رحمه الله تعالى فقد ذكر أن المتأخرين من الأحناف قيدوا كشف الوجه بشرط أمن الفتنة؛ ومفهوم الكلام أن المتقدمين لم يقيدوا.. وهذا نص كلامه:
" من عجائب المتأخرين من الحنفية المقلدين وغيرهم أنهم ـ تقليدا منهم لأئمتهم ـ يتفقون معنا على المخالفين المتشددين، ولكنهم سرعان ما يتفقون معهم على أئمتهم! وذلك أنهم اجتهدوا ـ وهم المقلدون ـ فقيدوا مذهب الأئمة فقالوا: " بشرط أمن الفتنة " ؛ يعنون: فتنة الرجال بالنساء، ثم غلا أحد الجهلة من المقلدة المعاصرين فنسب هذا الشرط إلى الأئمة أنفسهم! فنتج من ذلك عند بعض من لا علم عنده إلا التحطيب والتحويش: أن لا خلاف بين الأئمة والمخالفين!. " جلباب المرأة المسلمة ص15-16
مفهوم كلام الشيخ أن الأئمة المتقدمين لم يذكروا هذا الشرط؛ لكن عدم الذكر لا يعني عدم قولهم به، إذ الحامل على ذكر الشرط قد لا يكون موجودا في زمانهم، بخلاف الذين ذكروه، فإنهم ما ذكروه إلا لغلبة الفساد، يدل على هذا ما سبق نقله، من ذلك:
- قال الإمام محمد أنور الكشميري:
" يجوز الكشف عند الأمن عن (الفتنة)، على المذهب، وأفتى المتأخرون بسترها (لسوء حال الناس) ". فيض الباري على صحيح البخاري 1/254
- قال ابن نجيم:
" قال مشايخنا: تمنع المرأة (الشابة) من كشف وجهها بين الرجال في زماننا(للفتنة) ". نفس المصدر 1/284
- وفي المنتقى:
" تمنع (الشابة) من كشف وجهها، لئلا يؤدي إلى الفتنة، (وفي زماننا المنع واجب، بل فرض لغلبة الفساد) ".
هذه النقول توضح أن الفتوى جاءت لواقع الحال، والشيخ رحمه الله يوافق على هذا ـ بالرغم مما يظهر عنه من خلاف ذلك ـ فإنه يقرر في الموضع ذاته في كتابه " جلباب المرأة المسلمة " أن الفتنة والخشية على الخلق والدين موجب ـ لا أقول للتغطية فحسب ـ بل للزوم البيت وعدم الخروج منه، انظر ماذا يقول:
" ولو أنهم قالوا: يجب على المرأة المتسترة بالجلباب الواجب عليها إذا خشيت أن تصاب بأذى من الفساق لإسفارها عن وجهها: (أنه يجب عليها في هذه الحالة أن تستره دفعا للأذى والفتنة)، لكان له وجه في فقه الكتاب والسنة..
بل قد يقال: (إنه يجب عليها أن لا تخرج من دارها إذا خشيت أن يخلع الجلباب من رأسها) من قبل بعض المتسلطين الأشرار المدعمين من رئيس لا يحكم بما أنزل الله، كما وقع في بعض البلاد العربية منذ بضع سنين مع الأسف الشديد؛ أما أن يجعل هذا الواجب شرعا لازما على النساء في كل زمان ومكان، وإن لم يكن هناك من يؤذي المتجلببات فكلا ثم كلا.. " جلباب المرأة المسلمة ص17
فهو بالرغم من قوله بجواز كشف الوجه على وجه الإباحة ـ مع كونه يرى الأفضل هو التغطية ـ إلا أنه يرى، لا أقول وجوب التغطية فحسب، بل وجوب القرار في البيت، ألا تخرج أصلا، إذا صار الزمان زمان فتنة، يتعرض فيه السفهاء للصبايا واليافعات.. هذا واضح من كلامه، ونحن نقول:
ألا ترون قدر الفتنة التي تكون اليوم جراء خروج الفتاة من بيتها؟..
الخروج لوحده يستفز السفهاء ليحوموا حول الحمى، من أجل التحرش والأذى، فما بالكم حينما تكشف عن وجهها، وكلكم سمع ورأى من مثل هذا، ما صار معلوما مشهورا؟.
هذا بالإضافة إلى الكيد الكبير الذي يخطط له أعداء الحجاب، وهو معلوم لا يخفى..
إذن، نحن نعيش حالة حرب حقيقة مع أعداء الحجاب، وكل متبصر، أو لديه نصف تبصر يدرك هذا، وعلى هذا ألا تتفقون معي أن:
ـ كل العلماء يجمعون أنه في زمان كهذا يجب التغطية، حتى من أجاز، حتى الشيخ الألباني نفسه في كلامه السابق يقرر هذا؟...
ـ وأن الحكمة والعقل يأمران بالحجاب والتغطية، وأن ندعوا إلى هذه الفضيلة درءا لهذه الفتنة العمياء؟. لو كان هناك من يرى جواز الكشف مطلقا، حتى في حال الفتنة، فإنهم بالنسبة لعموم الأمة شيء لا يذكر، وقولهم لا يقبل في محكم العقول.
--------------
5- حديث الخثعمية.
روى البخاري عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال:
" أردف رسول الله صلى الله عليه وسلم الفضل بن عباس يوم النحر خلفه على عجز راحلته، وكان الفضل رجلا وضيئا، فوقف النبي صلى الله عليه وسلم للناس يفتيهم، وأقبلت امرأة من خثعم وضيئة تستفتي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فطفق الفضل ينظر إليها، وأعجبه حسنها، فالتفت النبي صلى الله عليه وسلم والفضل ينظر إليها، فأخلف بيده فأخذ بذقن الفضل، فعدل وجهه عن النظر إليها ".
في الاستئذان، باب: قول الله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم..}
احتج بهذا من قال بجواز كشف الوجه، وموضع الشاهد قوله: " وضيئة ".
قالوا: لا تعرف الوضاءة إلا بكشف الوجه، فالوجه كان مكشوفا إذن.
وهذا موضع النزاع...
فإننا ننازعهم في أن الوجه كان مكشوفا... فليس في الروايات تصريح بأنه كان مكشوفا، وأما عن دعوى أن معرفة الوضاءة تستلزم كشف الوجه نقول:
الوضاءة تعرف بالوجه، وتعرف كذلك بالقوام من دون رؤية الوجه، ومن تأمل هذا أدرك حقيقة ما نقول، وشاهد هذا من كلام العرب قول الشاعر:
.... طافت أمامة بالركبان آونة... يا حسنها من قوام ما ومنتقبا...
فالوضاءة أو الحسن، كلاهما بمعنى، يدركان بالقوام، وهو أمر محسوس، فقد تمر المرأة بالرجل وهي مستترة بالكامل، فيرجح حسنها ووضاءتها بما يراه من اعتدال قدها وحسن مشيها، فتقع في قلبه، ويتابعها بنظره، ويطير بها، ولو لم ير شيء منها، وقد تمر به أخرى بدينة قصيرة، فلا يلتفت إليها..
هذا أمر...
وأمر آخر: أنه على فرض أن يكون الفضل قد رأى وجهها، فذلك لا يدل على أنه كان مكشوفا على الدوام، إذ لا يمتنع أن يكون الريح حرك خمارها فظهر شيء منها فوقع نظر الفضل على ذلك فأعجب بها..
والنتيجة أنه لا يمكن الجزم بأن المرأة كانت مكشوفة الوجه مع ورود الاحتمالات الآنفة، التي لا يمكن إلغاؤها أو إهمالها، وقد تقرر في قواعد الفقه: أن الدليل إذا تطرق إليه الاحتمال، لبس ثوب الإجمال، وسقط به الاستدلال..
فلا يمكن إذن الاستناد إلى دليل محتمل كهذا الحديث لتقرير حكم شرعي يناقض به نصوصا أخرى محكمة.. والله أعلم..
مختارات