35. عقبة بن عامر الجهني
عقبة بن عامر الجهني
"لقد جعل عقبة بن عامر همه في أمرين اثنين: العلم والجهاد"
هذا رسول الله ﷺ؛ يبلغ مشارف "يثرب" (١)، بعد طول لهفة وترقب …
وها هم أولاء رجال المدينة الطيبة؛ يتزاحمون في الدروب مهللين (٢) مكبرين فرحا بلقاء نبي الرحمة وصاحبه الصديق …
وها هن نسوة المدينة المخدرات (٣) وصباياها الصغيرات علون سطوح المنازل، وجعلن يتراءين (٤) الرسول ﷺ ويقلن:
أيهم هو؟ … أيهم هو؟
وهذا موكب الرسول الكريم ﷺ يتهادى (٥) بين الصفوف؛ تحفه المهج المشتاقة، وتحوطه الأفئدة التواقة، وتنثر حواليه دموع الفرح، وبسمات السرور.
* * *
لكن عقبة بن عامر الجهني لم يشهد موكب رسول الله صلوات الله عليه ولم يسعد باستقباله مع المستقبلين.
ذلك، لأنه كان قد خرج إلى البوادي بغنيمات له؛ ليرعاها هناك، بعد
أن اشتد عليها السغب (٦) وخاف عليها الهلاك، وهي كل ما يملك من حطام الدنيا (٧).
لكن الفرحة التي غمرت المدينة المنورة ما لبثت أن عمت بواديها القريبة والبعيدة، وأشرقت في كل بقعة من بقاعها الطيبة، وبلغت تباشيرها عقبة بن عامر الجهني؛ وهو مع غنيماته بعيدا في الفلوات.
فلنترك الكلام لعقبة بن عامر ليروي لنا قصة لقائه مع رسول الله ﷺ.
قال عقبة:
قدم رسول الله ﷺ المدينة وأنا في غنيمة لي أرعاها، فما إن تناهى إلي (٨) خبر قدومه حتى تركتها ومضيت إليه لا ألوي على شيء (٩) فلما لقيته قلت: تبايعني يا رسول الله؟ قال: (فمن أنت؟) قلت: عقبة بن عامر الجهني، قال ﷺ: (أيما أحب إليك: تبايعني بيعة أعرابية أو بيعة هجرة؟).
قلت: بل بيعة هجرة، فبايعني رسول الله ﷺ على ما بايع عليه المهاجرين، وأقمت معه ليلة ثم مضيت إلى غنمي.
* * *
وكنا اثني عشر رجلا ممن أسلموا نقيم بعيدا عن المدينة لترعى أغنامنا في بواديها.
فقال بعضنا لبعض: لا خير فينا إذا نحن لم نقدم على رسول الله ﷺ يوما بعد يوم، ليفقهنا في ديننا، ويسمعنا ما ينزل عليه من وحي السماء، فليمض كل يوم واحد منا إلى "يثرب"، وليترك غنمه لنا فترعاها له.
فقلت: اذهبوا إلى رسول الله ﷺ واحدا بعد آخر وليترك لي الذاهب
غنمه؛ لأني كنت شديد الإشفاق (١٠) على غنيمتي من أن أتركها لأحد.
* * *
ثم طفق أصحابي يغدو (١١) الواحد منهم بعد الآخر على رسول الله ﷺ، ويترك لي غنمه أرعاها له، فإذا جاء، أخذت منه ما سمع، وتلقيت عنه ما فقه، لكنني ما لبثت أن رجعت إلى نفسي وقلت: ويحك!! … أمن أجل غنيمات لا تسمن ولا تغني تفوت على نفسك صحبة رسول الله ﷺ، والأخذ عنه مشافهة من غير واسطة؟! … ثم تخليت عن غنيماتي، ومضيت إلى المدينة لأقيم في المسجد بجوار رسول الله ﷺ.
* * *
لم يكن عقبة بن عامر الجهني يخطر له على بال - حين اتخذ هذا القرار الحاسم الحازم - أنه سيعدو بعد عقد من الزمان عالما من أكابر علماء الصحابة، وقارئا من شيوخ القراء، وقائدا من قواد الفتح المرموقين، وواليا من ولاة الإسلام المعدودين.
ولم يكن يتخيل - مجرد تخيل - وهو يتخلى عن غنيماته، ويمضي إلى الله ورسوله أنه سيكون طليعة الجيش الذي يفتح أم الدنيا "دمشق" ويتخذ لنفسه دارا بين رياضها النضرة عند "باب توما" (١٢).
ولم يكن يتصور - مجرد تصور - أنه سيكون أحد القادة الذين سيفتحون زمردة الكون الحضراء "مصر"، وأنه سيغدو واليا عليها، ويختط لنفسه دارا في سفح جبلها "المقطم" (١٣)، فتلك كلها أمور مستكنة (١٤) في ضمير الغيب، لا يعلمها إلا الله.
* * *
لزم عقبة بن عامر الجهني رسول الله ﷺ لزوم الظل لصاحبه، فكان يأخذ له بزمام بغلته أينما سار، ويمضي بين يديه أنى اتجه، وكثيرا ما أردفه (١٥) رسول الله ﷺ وراءه، حتى دعي "برديف رسول الله"، وربما نزل له النبي الكريم ﷺ عن بغلته ليكون هو الذي يركب، والنبي هو الذي يمشي.
حدث عقبة قال:
كنت آخذ بزمام بغلة رسول الله ﷺ في بعض غاب (١٦) المدينة، فقال: لي: (يا عقبة، ألا تركب؟!) فهممت أن أقول: لا، لكني أشفقت أن يكون في ذلك معصية لرسول الله، فقلت: نعم يا نبي الله، فنزل الرسول ﷺ عن بغلته وركبت أنا امتثالا لأمره … وجعل هو يمشي.
ثم ما لبثت أن نزلت عنها، وركب النبي، ثم قال لي: (يا عقبة ألا أعلمك سورتين لم ير مثلهن قط؟) فقلت: بلى يا رسول الله، فأقرأني: ﴿قل أعوذ برب الفلق﴾ ﴿قل أعوذ برب الناس﴾، ثم أقيمت الصلاة فتقدم وصلى بهما، وقال: (اقرأهما كلما نمت وكلما قمت).
قال عقبة: فما زلت أقرؤهما ما امتدت بي الحياة.
* * *
ولقد جعل عقبة بن عامر الجهني همه (١٧) في أمرين اثنين: العلم والجهاد، وانصرف إليهما بروحه وجسده، وبذل لهما من ذاته أسخى البذل، وأكرمه.
أما في مجال العلم فقد جعل يعب من مناهل رسول الله ﷺ الثرة (١٨)
العذبة حتى غدا مقرئا، محدثا، فقيها، فرضيا (١٩)، أديبا، فصيحا، شاعرا.
وكان من أحسن الناس صوتا بالقرآن، وكان إذا ما سجا (٢٠) الليل وهدأ الكون انصرف إلى كتاب الله يقرأ من آياته البينات، فتصغي لترتيله أفئدة الصحابة الكرام، وتخشع له قلوبهم وتفيض عيونهم بالدمع من خشية الله.
وقد دعاه عمر بن الخطاب يوما فقال: اعرض علي شيئا من كتاب الله يا عقبة، فقال: سمعا يا أمير المؤمنين، ثم جعل يقرأ له ما تيسر من آي الذكر الحكيم، وعمر يبكي حتى بللت دموعه لحيته.
وقد ترك عقبة مصحفا مكتوبا بخط يده، وبقي مصحفه هذا إلى عهد غير بعيد موجودا في "مصر" في الجامع المعروف بجامع عقبة بن عامر، وقد جاء في آخره: "كتبه عقبة بن عامر الجهني".
ومصحف عقبة هذا من أقدم المصاحف التي وجدت على ظهر الأرض لكنه فقد في جملة ما فقد من تراثنا الثمين، ونحن عنه غافلون.
* * *
وأما في مجال الجهاد؛ فحسبنا أن نعلم أن عقبة بن عامر الجهني شهد مع رسول الله ﷺ "أحدا" وما بعدها من المغازي، وأنه كان أحد الكماة الأشاوس المغاوير، الذين أبلوا يوم فتح "دمشق" أعز البلاء وأعظمه، فكافأه أبو عبيدة بن الجراح (٢١) على حسن بلائه بأن بعثه بشيرا إلى عمر بن الخطاب في المدينة ليبشره بالفتح، فظل ثمانية أيام بلياليها من الجمعة إلى الجمعة يغذ السير دون انقطاع، حتى بشر الفاروق بالفتح العظيم.
ثم إنه كان أحد قادة جيوش المسلمين التي فتحت "مصر"، فكافأه أمير
المؤمنين معاوية بن أبي سفيان (٢٢) بأن جعله واليا عليها ثلاث سنين، ثم وجهه لغزو جزيرة "رودس" في البحر الأبيض المتوسط.
وقد بلغ من ولع عقبة بن عامر الجهني بالجهاد، أنه وعى أحاديث الجهاد في صدره، واختص بروايتها للمسلمين، وأنه دأب على حذق الرماية حتى إنه إذا أراد أن يتلهى تلهى بالرمي.
* * *
ولما مرض عقبة بن عامر الجهني مرض الموت - وهو في "مصر" - جمع بنيه فأوصاهم فقال: يا بني أنهاكم عن ثلاث فاحتفظوا بهن:
لا تقبلوا الحديث عن رسول الله ﷺ إلا من ثقة، ولا تستدينوا ولو لبستم العباء (٢٣)، ولا تكتبوا شعرا فتشغلوا به قلوبكم عن القرآن.
ولما أدركته الوفاة، دفنوه في سفح "المقطم" ثم انقلبوا إلى تركته يفتشونها، فإذا هو قد خلف بضعا وسبعين قوسا؛ مع كل قوس قرن ونبال، وقد أوصى بهن أن يجعلن في سبيل الله.
نضر الله وجه القارئ العالم الغازي عقبة بن عامر الجهني، وجزاه عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء (*).
_________
(١) مشارف يثرب: الأماكن المطلة على المدينة المنورة.
(٢) مهللين: قائلين: لا إله إلا الله.
(٣) المخدرات: المستقرات في خدورهن أي بيوتهن.
(٤) الترائي: الرؤية من بعد.
(٥) يتهادى: يمشي بتؤدة.
(٦) السغب: الجوع.
(٧) حطام الدنيا: مالها الفاني.
(٨) تناهى إلي: بلغني.
(٩) لا ألوي على شيء: لا أقف عند شيء ولا أنتظر.
(١٠) شديد الإشفاق: شديد الخوف والمحاذرة.
(١١) يغدو: يذهب في الغداة، والغداة الصباح.
(١٢) باب توما: أحد أبواب دمشق القديمة.
(١٣) المقطم: جبل مطل على القاهرة من جهة الجنوب قليل الارتفاع.
(١٤) مستكنة: محتجبة مختبئة.
(١٥) أردفه: أركبه خلفه.
(١٦) غاب المدينة: أجماتها ذوات الأشجار الكثيفة الملتفة.
(١٧) همه: اهتمامه وعنايته.
(١٨) الثرة: الغزيرة.
(١٩) فرضيا: عالما بالفرائض، والمقصود بها هنا علم المواريث والتركات.
(٢٠) سجا الليل: هدأ وسكن.
(٢١) أبو عبيدة بن الجراح: انظره ص ٨٩.
(٢٢) معاوية بن أبي سفيان: صخر بن حرب القرشي الأموي، أسلم عام الفتح وكان من كتبة الوحي، أسس الدولة الأموية بالشام، كانت وفاته سنة ٦٠ هـ.
(٢٣) العباء: كساء مفتوح من الأمام.
مختارات