" إمكان التوبة من جميع الذنوب "
" إمكان التوبة من جميع الذنوب "
من عرف حقيقة النفس وما طبعت عليه علم عِلْمَ اليقين أن فيها داعيين؛ داع للخير وداع للشر؛ فإن أخذ بداعي الخير نجا وسعد في الدنيا والآخرة، وإن أخذ بداعي الشر كانت هذه النفس منبعًا لكل شر ومأوى لكل سوء، تورد العبد موارد الهلكة وتلج به في مزالق الشر والخسران.
ومن سُنن الله الثابتة في خلقه أن من سلك طريقه واتبع دينه فقد فاز ونجا وساد وقاد... ومن ترك هداية الله واستدبر طريقه وجانب شرعه وسلك طريق الشيطان فقد حبط عمله وهلك وضل ضلالاً بعيدًا، ومن ثم كان الشرك بالله من أعظم الذنوب وأقبحها، وحَسْبُ من اتصف به أنه مطرود مُبْعَد من رحمة الله؛ الجنة عليه حرام، والنار مأواه ومهواه؛ قال تعالى: " قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ " [الأنفال: 38].
فباب التوبة مفتوح دائمًا، يدخل منه كل من استيقظ ضميره، وثاب إلى حمى الله، ولاذ به بعد الشرود والمتاهة وأراد العودة والمآب.
والذنوب التي دون الشرك قسمان:
القسم الأول: ذنوب تتعلق بحق الله – تعالى.
القسم الثاني: ذنوب تتعلق بحقوق الآدميين.
والقسم الأول نوعان:
النوع الأول: أن يكون الذنب بترك واجب يمكن استدراكه كالصلوات، والصيام، والحج، فلا بد في هذه الحقوق من التوبة مع القضاء، حيث قدر على ذلك وأمكنه، وفي بعض الذنوب التوبة مع الكفارة؛ كالحنث في الأيمان، والظهار وغير ذلك.
النوع الثاني: أن تكون بسبب جهل وعدم معرفة الله كما ينبغي، وتحليل ما أحله، وتحريم ما حرمه، ونحو ذلك، فهذا النوع تجزيء فيه التوبة فقط، ثم إن كان الذنب مما يوجب الكفر فلا بد من الإتيان بالشهادتين، وإثبات ما أنكر، وإنكار ما كان قد اعتقد مما يوجب الكفر.
وإن كان بسبب جهل أو إعراض فلا بد فيه أن يطلب العلم ويتعلم من أمر دينه ما يعصمه ويحصنه من الوقوع في الذنب مرة أخرى.
القسم الثاني:
أن تكون الذنوب بسبب حق يتعلق بآدمي.
وهي نوعان أيضًا:
النوع الأول: أن ينجبر الحق بمثله من الأموال والجراحات، وقيم المتلفات والسرقات والغصوبات... إلخ.
فلا بد في هذا النوع من رد كل مظلمة لأهلها، ورد كل حق لمستحقه من مال ونحوه – إن كان موجودًا – أو رد مثله إن كان معدومًا أو مستهلكًا؛ لأنه محض حق فيجب أداؤه إلى صاحبه، فإن لم يوجد أهلها تصدق بها عنهم، وتمكين ذي القصاص منه على الوجه المشروع، فإن لم يفعل بردَّ المظالم إلى أهلها، واقتصر على التوبة فقط وندم وأقلع وعزم ألا يعود، فقد تصح توبته فيما بينه وبين الله، وتبقى في ذمته مظلمة الآدمي، ومطالبته على حالها، ومن لم يجد السبيل لإخراج ما عليه لإعسار فعفو الله مأمول، وفضله مبذول، فكم ضمن من التبعات، وبدَّل من السيئات !!
النوع الثاني: أن لا ينجبر الحق بمثله؛ بل جزاؤه من غير جنسه، كالقذف فحدُّه الجلد، والزنا – إذا ثبت – فحده الرجم أو الجلد.
وأما الغيبة والنميمة ففاعلهما مذنب ومستحق للعذاب إن لم يستحل من اغتابه (المشروع للتائب من الغيبة والنميمة أن يستحلَّ ممن اغتابه أو نمَّ عليه، فإذا لم يمكنه ذلك أو ترتب عليه مفسدة، فإنه يستغفر ويدعو له، ويذكره بالخير في المواضع التي اغتابه، أو نمَّ عليه فيها)، واقتراف مثل هذه الذنوب ما دامت مستورة بين العبد وبين ربه لم يطلع عليها أحد تكون توبته بالندم عليها والإقلاع عن فعلها وكثرة الاستغفار للمغتاب ونحوه، وإكذاب نفسه مما قذف به، وكثرة الإحسان لمن أفسد عليه زوجته وزنى بها، فيدعو الله لصاحب الحق ويستغفر له، ويذكر المغتاب والمقذوف في مواضع غيبته وقذفه بضد ما ذكره به من الغيبة؛ فيبدل غيبته بمدحه والثناء عليه، وذكر محاسنه، ويبدل قذفه بذكر عفته وإحصانه، ويستغفر له بقدر ما اغتاب به. والله أعلم.
مختارات