" الإصلاح بين الأمة "
" الإصلاح بين الأمة "
يقول تعالى: " وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ " [الحجرات: (9، 10)].
قال أبو جعفر الطبري شيخ المفسرين: «يقول تعالى ذكْره: وإن طائفتان من أهل الإيمان اقتتلوا، فأصلحوا – أيها المؤمنون – بينهما بالدعاء إلى حكم كتاب الله، والرضا بما فيه لهما وعليهما، وذلك هو الإصلاح بينهما بالعدل، " فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى " ؛ يقول: فإن أبت إحدى هاتين الطائفتين الإجابة إلى حكم كتاب الله له وعليه، وتعدت ما جعل الله عدلاً بين خلقه، وأجابت الأخرى منهما " فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي " يقول: فقاتلوا التي تعتدي، وتأبى الإجابة إلى حكم الله، " حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ " يقول: حتى ترجع إلى حكم الله الذي حكم في كتابه بين خلقه؛ " فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ " ؛ يقول: فإن رجعت الباغية بعد قتالكم إياهم إلى الرضا بحكم الله في كتابه، فأصلحوا بينهما وبين الطائفة الأخرى التي قاتلتها بالعدل؛ يعني بالإنصاف بينهما، وذلك حكم الله في كتابه الذي جعله عدلاً بين خلقه». اهـ.
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية: (35/81) بعد أن ذكر الآية الكريمة: فهذا حكم الله بين المقتتلين من المؤمنين: أخبر أنهم إخوة، وأمر أولاً بالإصلاح بينهم إذا اقتتلوا " فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى "، ولم يقبلوا الإصلاح " فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ " ؛ فأمر بالإصلاح بينهم بالعدل بعد أن " تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ " ؛ أي ترجع إلى أمر الله؛ فمن رجع إلى أمر الله وجب أن يعدل بينه وبين خصمه، ويقسط بينهما؛ فقبل أن نقاتل الطائفة الباغية وبعد اقتتالهما أمرنا بالإصلاح بينهما مطلقًا؛ لأنه لم تقهر إحدى الطائفتين بقتال، وإذا كان كذلك فالواجب أن يسعى بين هاتين الطائفتين بالصلح الذي أمر الله به ورسوله، ويقال لهذه: ما تنقم من هذه؟ ولهذه: ما تنقم من هذه؟ فإن ثبت على إحدى الطائفتين أنها اعتدت على الأخرى: بإتلاف شيء من الأنفس والأموال كان عليها ضمان ما أتلفته، وإن كان هؤلاء أتلفوا لهؤلاء، وهؤلاء أتلفوا لهؤلاء تقاصوا بينهم كما قال تعالى: " كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ " ؛ والعفو أفضل، فإذا فضل لواحدة من الطائفتين شيء على الأخرى، " فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ " والذي عليه الحق يؤديه بإحسان ومن كان من الطائفتين يظن أنه مظلوم مبغي عليه فإذا صبر وعفى أعزه الله ونصره.. ومن كان من إحدى الطائفتين باغيًا ظالما فليتق الله وليتب.. وهذه الفتن سببها الذنوب والخطايا، فعلى كل من الطائفتين أن يستغفر الله ويتوب إليه، فإن ذلك يرفع العذاب وينزل الرحمة. اهـ.
قال العلماء: لا تخلو الفئتان من المسلمين في اقتتالهما؛ إما أن يقتتلا على سبيل البغي منهما جميعًا أو لا: فإن كان الأول فالواجب في ذلك أن يُمشى بينهما بما يصلح ذات البين ويثمر المكافة والموادعة، فإن لم يتحاجزا ولم يصطلحا، وأقامتا على البغي، صير إلى مقاتلتهما.
وأما إن كان الثاني؛ وهو أن تكون إحداهما باغية على الأخرى، فالواجب أن تقاتل فئة البغي إلى أن تكف وتتوب، فإن فعلت أصلح بينهما وبين المبغي عليها بالقسط والعدل، فإن التحم القتال بينهما لشبهة دخلت عليهما، وكلتاهما عند أنفسهما محقة، فالواجب إزالة الشبهة بالحجة النيرة والبراهين القاطعة على مراشد الحق، فإن ركبتا متن اللجاج ولم تعملا على شاكلة ما هديتا إليه ونصحتا به من اتباع الحق بعد وضوحه لهما فقد لحقتا بالفئتين الباغيتين (الجامع لأحكام القرآن للقرطبي).
وإذا خرجت على الإمام العدل خارجة باغية ولا حجة لها قاتلهم الإمام بالمسلمين كافة أو بمن فيه كفاية، ويدعوهم قبل ذلك إلى الطاعة والدخول في الجماعة، فإن أبوا من الرجوع والصلح قوتلوا، ولا يُقتل أسيرهم ولا يتبع مدبرهم، ولا يذفف (تذفيف الجريح: الاجهاز عليه) على جريحهم، ولا تسبيى ذراريهم ولا أموالهم (الجامع لأحكام القرآن).
وعن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تقوم الساعة حتى تقتل فئتان عظيمتان، وتكون بينهما مقتلة عظيمة، ودعواهما واحدة» [رواه البخاري (7121)، مسلم: (157)].
المراد بالفئتين علي ومن معه، ومعاوية ومن معه، ويؤخذ من تسميتهم مسلمين – في رواية أخرى – ومن قوله: " دعوتهما واحدة " - الرد على الخوارج ومن تبعهم في تكفيرهم كل من معه، ودلَّ حديث «تقتل عمارًا الفئة الباغية» على أن عليًا كان المصيب في تلك الحروب لأن أصحاب معاوية قتلوه.
وقد ذكر يحيى بن سليمان الجعفي أحد شيوخ البخاري في «كتاب صفين» في تأليفه بسند جيد، عن أبي مسلم الخولاني، أنه قال لمعاوية: أنت تنازع عليًا في الخلافة أو أنت مثله؟ قال: لا، وإني لأعلم أنه أفضل مني وأحق بالأمر، ولكن ألستم تعلمون أن عثمان قُتل مظلومًا، وأنا ابن عمه ووليه أطلب بدمه؟ فأتوا عليًا، فقولوا له: يدفع لنا قتلة عثمان، فأتوه فكلَّموه، فقال: يدخل في البيعة ويحاكمهم إليَّ، فامتنع معاوية فسار علي في الجيوش من العراق حتى نزل بصفين، وسار معاوية حتى نزل هناك، وذلك في ذي الحجة سنة ست وثلاثين، فتراسلوا، فلم يتم لهم أمر، فوقع القتال إلى أن قتل من الفريقين فيما ذكر ابن أبي خيثمة في تاريخه نحو سبعين ألفًا، وقيل: كانوا أكثر من ذلك، ويقال كان بينهم أكثر من سبعين زحفًا.
وقد أخرج ابن عساكر في ترجمة معاوية أن رجلاً جاء إلى أبي زرعة، فقال له: إني أبغض معاوية، قال له: لِمَ؟ قال: لأنه قاتل عليًا بغير حق، فقال له أبو زرعة: ربُّ معاوية ربٌّ رحيم، وخصم معاوية خصم كريم، فما دخولك بينهما؟!(فتح الباري).
قال لسان الأمة: إن حكمة الله في قتال الصحابة التعرف منهم لأحكام قتال أهل التأويل؛ إذ كانت أحكام قتال التنزيل قد عرفت على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم وفعله (أحكام القرآن لابن العربي).
وعن الحسن البصري قال: «استقبل والله الحسنُ بن علي بكتائب أمثال الجبال فقال عمرو بن العاص: إني لأرى كتائب لا تولي حتى تقتل أقرانها، فقال له معاوية – وكان والله خير الرجلين: أيْ عمرو، إن قتل هؤلاء هؤلاء، وهؤلاء هؤلاء، منْ لي بأمور الناس، من لي بنسائهم، من لي بضيعتهم؟ فبعث إليه رجلين من قريش من بني عبد شمس – عبد الرحمن بن سمرة وعبد الله بن عامر بن كريز – فقال: اذهبا إلى هذا الرجل فاعرضا عليه، وقولا له، واطلبا إليه. فأتياه، فدخلا عليه فتكلما، وقالا له، وطلبا إليه، وقال لهما الحسن بن علي: إنَّا بنو عبد المطلب قد أصبنا من هذا المال، وإن هذه الأمة قد عاثت في دمائها، قالا: فإنه يعرض عليك كذا وكذا، ويطلب إليك ويسألك قال: فمن لي بهذا؟ قالا: نحن لك به فما سألهما شيئًا إلا قالا: نحن لك به فصالحه، فقال الحسن (يعني البصري): ولقد سمعتُ أبا بكرة يقول: رأيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر، والحسن بن علي إلى جنبه، وهو يقبل على الناس مرة، وعليه أخرى، ويقول: «إن ابني هذا سيِّد، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين» [رواه البخاري (2704)].
قال ابن حجر: في هذا الحديث فضيلة الإصلاح بين الناس؛ ولاسيما في حقن دماء المسلمين، ودلالة على رأفة معاوية بالرعية، وشفقته على المسلمين، وقوة نظره في تدبير الملك، ونظره في العواقب، وفيه ولاية المفضول الخلافة مع وجود الأفضل؛ لأن الحسن ومعاوية ولي كلٌّ منهما الخلافة وسعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد في الحياة، وهما بدريان (فتح الباري).
وقال شيخ الإسلام: وأثنى النبي صلى الله عليه وسلم على الحسن بهذا الصلح الذي كان على يديه، وسماه سيدًا بذلك، لأجل أن ما فعله الحسن يحبه الله ورسوله، ويرضاه الله ورسوله، ولو كان الاقتتال الذي حصل بين المسلمين هو الذي أمر الله به ورسوله لم يكن الأمر كذلك، بل يكون الحسن قد ترك الواجب أو الأحب إلى الله، وهذا النص الصريح يبين أن ما فعله الحسن محمود، مرضي لله ورسوله (الفتاوى).
مختارات