" كن حديثًا طيبًا "
" كن حديثًا طيبًا "
أخي المهاجر:
وإنَّما المرء حديث بعده فكن حديثًا طيبًا لمن وعى
كان لابد أن أبدأ بهذا البيت من الشعر.. لما يتميز به من صدق العبارة.. وصدق الدلالة.. وعمق الشعور.
«وإنما المرء حديث بعده».. يبقى ذكريات ماتعة.. أو ذكريات منغصة.. تهد الحيل.. وتهرم الشعور.. يبقى صفحة بيضاء نقية.. أو سوداء قاتمة.. تأتي بالدوار.. وتصيب بالغثيان.
«فكن حديثًا طيبًا».. كن حديثًا. ولكن أي حديث؟ حديثًا طيبًا.. طيبًا في القول.. طيبًا في الخلق.. طيبًا في السمت.. طيبًا في البدن.. طيبًا في القلب.. طيبًا في المعاملة.
«لمن وعى».. لأنه قد يكون لك أعداء.. فينكرون طيبتك.. ويحولون تقواك إلى عجز.. وكسل.. وتهاون.. ولأنه لابد للإنسان من أعداء.. فأول هؤلاء الأعداء نفسك.. ومن صان نفسه عزّ.. فاجعل الدين والعقل حكمًا عليها.. وبذلك تصون نفسك.. وتحفظ فعلك.. وتحرس مروءتك.
فتَّشت في القراطيس.. ونقبت في قواميس الكلم.. لعلي أصل إليك.. وأصل إلى فؤادك.. والناس إنما يرزقون الأفئدة النبيلة.. والمشاعر المرهفة.. عندما يكون أحدهما للآخر: قلبًا واحدًا.. ونبضًا مشتركًا.. يسري فيهم الهم جميعًا.. ولأنني لا أبحث في السراب.. ولا أحرث الوهم.. ولا أنقش على صفحة الماء. فإني أقول لك ـ وعسى أن أوفق ـ:
إن حملة الأقلام.. وشداة الحروف.. ورسل البيان يخاطبونك يا من اختار دروب العلم.. وتكبد عناء الغربة.. يخاطبونك وقد تسربلوا بوشاح المعرفة وائتزروا بالأدب.. ثم حملوا القلم.. وخاضوا بحور الكلمة ليقولوا لك: إن التسارع الحضاري.. عملًا.. وإنجازًا.. وإبداعًا.. يريد عقيدة.
وهل هناك خير في غير عقيدتنا؟
إنها الفعل والغاية.. الكنز والرمز معًا.. فاحرص على التمسك بها.
في هذه الحضارة.. ليس هناك مكان للكسل.. والخلود إلى الراحة، أو الاتكال والعبور السالب للعالم.. دون تغيير أو إعمار.
أنت ـ إذن ـ مطالب بأن تكون داعية.. داعية بالحق.. وداعية إلى الحق.. تحمل القرآن.. فهو نور في القلب.. ونور في البدن.. لأنه ليس من صفة الإنسان أن يمر سابحًا في العوالم.. بل ليس من صفة المسلم أن يعيش.. دون إحداث تغيير.. أو إحلال قيم جديدة.. تربط السماء بالأرض...ولا تكن كميت الأحياء.. الذي لا يعرف معروفًا.. ولا يُنكر منكرًا..ولابد لك من إرادة فذَّة.. تشدُّ بين رؤية العقل.. وقوة البيان.
ولا يغب عن بالك أن ثقافتنا تشهد بواكير تقديرها.. وهي ارتسامات ماتعة.. وطلائع منجزاتها.. وهي نجوم زاهية.. ومواقع عطائها.. وهي رايات مشرعة.. فكن من حرَّاسها الأمناء.
أخي المهاجر:
اعلم ـ يا رعاك الله ـ أن الشعاع والوهج لا يحطم زجاج السيارة.. ولكنه يخرم عقول البشر.. ويغير الأفكار.. ويأسر القلوب.. كما يأسر الفراش نور السراج.. وأسر العقول أشد وأنكى.. لأن أسر العقل هو أسر للفكر.. وتحقير للثقافة.. وتفتيت للشعور.
فانظر إلى المادة بعقلك.. لا بنظرك.. لأنها تصغر بالعقل.. وتكبر بالصبر. وانظر إلى الكون ببصيرة.. تنظر أوسع مما ترى العين.. إنك إن قصرت الرؤيا على العين فقط كبرت الدنيا بطلاسمها في عينيك.. وإن رأيتها ببصيرة ثاقبة.. خلتها صغيرة واحتقرتها.. وجعلت الروح أغلى من المادة وأثمن.
أخي المهاجر:
سوف تذكرنا كثيرًا.. ولكن متى؟ إذا رجعت إلينا تقرأ التاريخ.. وتستلهم الذكريات.. وتتذكر يوم أن قلنا لك: إن الحضارة الغربية تسير نحو الهاوية.. اذكرنا عندما تسمع صوت الأذان.. يجوب الآفاق.. يشق الظلام.. في وقت ومكان. لا تسمع فيه إلا أصوات النواقيس.. وستذكرنا عندما تفرح بلقيا حبيب يخاطبك بلغة عربية.
أيها المهاجر:
حتى لا يكون الكلام سمجًا لا رائحة فيه.. ولا طعم له.. أقتطف من الكلام المصفى عبرة.. ومن كلام المصطفى صلى الله عليه وسلم عظة.
خطب ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال: «أيها الناس.. إن لكم معالم فانتهوا إلى معالمكم.. وإنَّ لكم نهاية فانتهوا إلى نهايتكم.. إنَّ المؤمن بين مخافتين.. بين أجل قد مضى لا يدري ما الله صانع به.. وبين أجل قد بقي لا يدري ما الله قاض فيه.. فليأخذ العبد من نفسه لنفسه.. ومن حياته لموته.. فوالله ما بعد الموت من مستعتب.. وما بعد الدنيا من دار.. إلا الجنة أو النار».
فلتطلب العلم رفعةً للإسلام.. وعزًا للمسلمين.. وإلا فلا خير في علم يجمع بين غربتين:
- غربة الدين.
- وغربة الدنيا.
ولتصنع من صحراء الغربة رياضًا.. ومن غربة الدين جنانًا.. وإلا تكن:
كالعيس في البيداء يقتلها الظمأ والماء فوق ظهورها محمول
مختارات