" أمثلة على ما يترتب من إهانة العلماء والانتصار لهم "
" أمثلة على ما يترتب من إهانة العلماء والانتصار لهم "
دخل أنس بن مالك على الحجاج بن يوسف فلما وقف بين يديه قال له إيه إيه يا أنيس، يوم لك مع علي، ويوم لك مع ابن الزبير، ويوم لك مع ابن الأشعث، والله لأستأصلنك كما تستأصل الشاة ولأدمغنك كما تدمغ الصمغة، فقال أنس: إياي يعني الأمير أصلحه الله، قال: إياك أعني صك الله سمعك، قال أنس: إنا لله وإنا إليه راجعون، والله لولا الصبية الصغار ما باليت أي قتلة قتلت، ولا أي ميتة مت، ثم خرج من عند الحجاج فكتب إلى عبد الملك بن مروان يخبره بما قال له الحجاج، فلما قرأ عبد الملك كتاب أنس استشاط غضبًا، وشفق عجبًا، وتعاظم ذلك من الحجاج، وكان كتاب أنس إلى عبد الملك: بسم الله الرحمن الرحيم
إلى عبد الملك بن مروان أمير المؤمنين من أنس بن مالك أما بعد:
فإن الحجاج قال لي هُجرًا، وأسمعني نكرًا، ولم أكن لذلك أهلاً، فخُذ لي على يديه، فإني أمتُّ بخدمتي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصحبتي إياه، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته.
فبعث عبد الملك إسماعيل بن عبيد الله بن أبي المهاجر – وكان مصادقًا للحجاج – فقال له: دونك كتابيّ هذين فخذهما واركب البريد إلى العراق، وابدأ بأنس بن مالك صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأرفع كتابي إليه وأبلغه مني السلام، وقل له: يا أبا حمزة قد كتبت إلى الحجاج الملعون كتابًا إذا قرأه كان أطوع لك من أمتك، وكان كتاب عبد الملك إلى أنس بن مالك: بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد الملك بن مروان إلى أنس بن مالك خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم أما بعد:
فقد قرأت كتابك، وفهمت ما ذكرت من شكايتك الحجاج، وما سلطته عليك، ولا أمرته بالإساءة إليك، فإن عاد لمثلها أكتب إلي بذلك أنزل به عقوبتي، وتحسن لك معونتي، والسلام.
فلما قرأ أنس كتاب أمير المؤمنين وأخبر برسالته قال: جزى الله أمير المؤمنين عني خيرًا، وعافاه وكافأه بالجنة، فهذا كان ظني به والرجاء منه، فقال إسماعيل بن عبيد الله لأنس: يا أبا حمزة إن الحجاج عامل أمير المؤمنين، وليس بك عنه غنى، ولا بأهل بيتك، ولو جعل لك في جامعة ثم دفع إليك، فقاربه ودارِه تعش معه بخير وسلام، فقال أنس: أفعل إن شاء الله، ثم خرج إسماعيل من عند أنس فدخل على الحجاج، فقال الحجاج: مرحبًا برجل أحبه وكنت أحب لقاءه، فقال إسماعيل: أنا والله كنت أحب لقاءك في غير ما أتيتك به، فتغير لون الحجاج وخاف وقال: ما أتيتني به؟ قال: فارقت أمير المؤمنين وهو أشد الناس غضبًا عليك، ومنك بعدًا، قال: فاستوى الحجاج جالسًا مرعوبًا، فرمى إليه إسماعيل بالطومار، فجعل الحجاج ينظر فيه مرة ويعرق، وينظر إلى إسماعيل أخرى، فلما فضّه قال: قم بنا إلى أبي حمزة نعتذر إليه ونترضاه، فقال له إسماعيل: لا تعجل فقال: كيف لا أعجل وقد أتيتيني بآبدة؟ وكان في الطومار:
بسم الله الرحمن الرحيم من أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان إلى الحجاج بن يوسف أما بعد، فإنك عبد طمت بك الأمور، فسموت فيها وعدوت طورك، وجاوزت قدرك، وركبت داهية إدًّا، وأردت أن تبدو لي فإن سوغتكها مضيت قدمًا، وإن لم أسوغها رجعت القهقري، فلعنك الله من عبد أخفش العينين، منفوص الجاعرتين. أنسيت مكاسب آبائك بالطائف، وحفرهم الآبار، ونقلهم الصخور على ظهورهم في المناهل، يا ابن المستفرية بعجم الزبيب، والله لأغمرنك غمر الليث الثعلب، والصقر الأرنب، وثبت على رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا، فلم تقبل له إحسانه، ولم تتجاوز له عن إساءته، جرأة منك على الرب عز وجل، واستخفافًا منك بالعهد، والله لو أن اليهود والنصارى رأت رجلاً خدم عزير بن عزرى، وعيسى بن مريم، لعظّمته وشرّفته وأكرمته وأحبته، بل لو رأوا من خدم حمار العزير، أو خدم حواري المسيح لعظموه وأكرموه، فكيف وهذا أنس بن مالك خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثماني سنين، يطلعه على سره، ويشاوره في أمره، ثم هو مع هذا بقية من بقايا أصحابه فإذا قرأت كتابي هذا فكن أطوع له من خفًة ونعله، وإلا أتاك مني سهم بكل حتف قاض، ولكل نبأ مستقر وسوف تعلمون (البداية والنهاية).
ومما يحسن ذكره في هذا المقام كلام لسماحة الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله تعالى قاله بعد ما أُعتدى على أحد أهل العلم.
جاء في معنى كلامه رحمه الله تعالى «إن الحادث الذي حصل هو في الحقيقة مصيبة علينا وعلى الدين، وإني في غاية التكدر، وإن كان هذا الأمر – كما ذكرتم – كرامة في حقكم ومنقبة، ولكن غيرة للموقف الديني العلمي أقلقني لك، وأضجرني، وأرقني فلا حول ولا قوة إلا بالله، وأنا من حين وصلني الخبر أبرقت لجلالة الملك ولولي العهد، وأسأل الله بأسمائه وصفاته أن ينشط ولاتنا في الحق، ويقمع بهم أهل الفساد والشر إنه على كل شيء قدير» (فتاوى الشيخ محمد بن إبراهيم).
وفي قضية أخرى خلاصتها أن إمام مسجد أمر رجلاً بالصلاة فاعتدى الرجل على الإمام بالضرب وبعد ذلك تنازل الإمام عن حقه، فلما بلغ الخبر سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم -رحمه الله تعالى- كتب كتابًا إلى الجهة المختصة جاء فيه: إن تنازل المدعي عن المدعى عليه والسماح له يسقط حق المدعي ولكنه لا يسقط حق الله وذلك فيما يتعلق بمشادّة الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، لذا فإننا نرى تعميد المدعي العام بمحاكمته وإحالة القضية إلى المحكمة المستعجلة للنظر في القضية وتقرير ما يلزم شرعًا والسلام. انتهى كلامه رحمه الله تعالى (فتاوى الشيخ محمد بن إبراهيم).
فانظر إلى بُعد نظر الشيخ محمد بن إبراهيم -رحمه الله تعالى- حيث لم يسقط حق الله تعالى رغم تنازل المدعي لأن حق المدعي خاص به فلا يلزم من تنازله سقوط حق الله تعالى، وهذا يدل على منزلة أهل هذه الشعيرة العظيمة – الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر – وأن مشادة أهلها ومضايقتهم معصية لله تعالى بل ويعاقب فاعلها لعظم خطيئته وجرمه.
مختارات