تابع " نهاية مسيلمة الكذَّاب "
تابع " نهاية مسيلمة الكذَّاب "
وقاتلت بنو حنيفة قتالاً لم يُعْهَدْ مثلُه، وجعلت الصحابة يتواصون بينهم ويقولون: يا أصحاب سورة البقرة، بطل السِّحرُ اليوم وحفر ثابت بن قيس لقدميه في الأرض إلى أنصاف ساقيه، وهو حامل لواء الأنصار بعدما تحنط وتكفن، فلم يزل ثابتا حتى قتل هناك، وقال المهاجرون لسالم مولى أبي حذيفة: أتخشى أن نؤتى من قبلك؟ فقال: بئس حامل القرآن أنا إذاً وقال زيد بن الخطَّاب: أيُّها الناس، عضُّوا على أضراسكم واضربوا في عدوِّكم وامضوا قدماً وقال: والله لا أتكلم حتى يهزمهم الله أو ألقى الله فأكلمه بحجتي فقتل شهيداً - رضي الله عنه.
وقال أبو حذيفة: يا أهل القرآن، زَيِّنوا القرآن بالفعال وحمل فيهم حتى أبعدهم وأصيب - رضي الله عنه، وحمل خالد بن الوليد حتى جاوزهم، وسار لجبال مسيلمة وجعل يترقَّب أن يصل إليه فيقتله، ثم رجع، ثم وقف بين الصَّفَّيْن ودعا البراز، وقال: أنا ابن الوليد العود، أنا ابن عامر وزيد، ثم نادى بشعار المسلمين– وكان شعارهم يومئذ " يا محمداه- وجعل لا يبرز لهم أحد إلا قتله، ولا يدنو منه شيء إلا أكله، ودارت رحى المسلمين، ثم اقترب من مسيلمة فعرض عليه النِّصف والرجوع إلى الحق، فجعل شيطان مسيلمة يلوي عنقَه، لا يقبل منه شيئا، وكلما أراد مسيلمة يقارب من الأمر صرفه عنه شيطانه، فانصرف عنه خالد، وقد مَيَّزَ خالد المهاجرين من الأنصار من الأعراب، وكل بني أب على رايتهم يقاتلون تحتها؛ حتى يعرف الناس من أين يؤتون، وصبرت الصَّحابة في هذا الموطن صبراً لم يُعْهَدْ مثله، ولم يزالوا يتقدَّمون إلى نحور عدوِّهم حتى فتح الله عليهم، وولَّى الكفارُ الأدبارَ، واتَّبعوهم يقتلون في أقفائهم، ويضعون السيوف في رقابهم حيث شاؤوا، حتى ألجؤوهم إلى حديقة الموت.
وقد أشار عليهم محكم اليمامة– وهو محكم بن الطفيل لعنه الله- بدخولها، فدخلوها وفيها عدوُّ الله مسيلمة- لعنه الله، وأدرك عبد الرحمن بن أبي بكر محكم بن الطفيل فرماه بسهم في عنقه وهو يخطب فقتله، وأغلقت بنو حنيفة الحديقةَ عليهم، وأحاط بهم الصحابة، وقال البراء بن مالك: يا معشر المسلمين، ألقوني عليهم في الحديقة. فاحتملوه فوق الجحف ورفعوها بالرِّماح حتى ألقوه عليهم من فوق سورها، فلم يزل يقاتلهم دون بابها حتى فتحه، ودخل المسلمون الحديقة من حيطانها وأبوابها يقتلون من فيها من المرتدة من أهل اليمامة، حتى خلصوا إلى مسيلمة - لعنه الله، وإذا هو واقف في ثلمة جدار كأنَّه جمل أورق، وهو يريد يتساند، لا يعقل من الغيظ، وكان إذا اعتراه شيطانه أزبد حتى يخرج الزبد من شدقيه، فتقدَّم إليه وحشيّ بن حرب مولى جبير بن مطعم– قاتل حمزة- فرماه بحربته فأصابه وخرجت من الجنب الآخر، وسارع إليه أبو دجانة سماك بن خرشة، فضربه بالسَّيف فسقط، فنادت امرأة من القصر: وأمير الوضاءة قتله العبد الأسود. فكان جملة من قتلوا في الحديقة وفي المعركة قريبا من عشرة آلاف مقاتل، وقيل: واحد وعشرون ألفا، وقتل من المسلمين ستمائة، وقيل: خمسمائة. فالله أعلم.
وفيهم من سادات الصحابة، وعيان الناس من يذكر بعد، وخرج خالد وتبعه مجاعة بن مرارة يرسف في قيوده، فجعل يريه القتلى ليعرفه بمسيلمة، فلما مروا بالرجال بن عنفوة قال له خالد: أهذا هو؟ قال: لا، والله هذا خير منه، هذا الرجال بن عنفوة.
قال سيف بن عمر: ثم مروا برجل أصفر أخنس، فقال: هذا صاحبكم، فقال خالد: قبحكم الله على اتباعكم هذا، ثم بعث خالد الخيول حول اليمامة يلتقطون ما حول حصونها من مال وسبي، ثم عزم على غزو الحصون ولم يكن بقي فيها إلا النساء والصبيان والشيوخ الكبار، فخدعه مجاعة فقال: إنها ملأى رجالا ومقاتلة فهلم فصالحني عنها. فصالحه خالد لما رأى بالمسلمين من الجهد وقد كلوا من كثرة الحروب والقتال، فقال: دعني حتى أذهب إليهم ليوافقوني على الصلح، فقال: اذهب فسار إليهم مجاعة فأمر النساء أن يلبسن الحديد ويبرزن على رؤوس الحصون، فنظر الصلح، ودعاهم خالد إلى الإسلام فأسلموا عن آخرهم ورجعوا إلى الحق ورد عليهم خالد بعض ما كان أخذ من السبي، وساق الباقين إلى الصديق، وقد تسرى علي بن أبي طالب بجارية منهم، وهي أم ابنه محمد الذي يقال له: محمد بن الحنفية– رضي الله عنه، وقد قال خليفة بن خياط، ومحمد بن جرير، وخلق من السلف: كانت وقعة اليمامة في سنة إحدى عشرة، وقال ابن قانع: في آخرها، وقال الواقدي وآخرون: كانت في سنة عشرة، والجمع بينها أن ابتداءها في سنة إحدى عشرة، والفراغ منها في سنة ثنتي عشرة والله أعلم.
ولما قدمت وفودُ بني حنيفة على الصِّدِّيق قال لهم: أسمعونا شيئاً من قرآن مسيلمة. فقالوا: أوتعفينا يا خليفة رسول الله؟ فقال: لابد من ذلك. فقالوا: كان يقول: يا ضفدع بنت الضفدعين نقي لكم نقين، لا الماء تكدرين ولا الشارب تمنعين، رأسك في الماء، وذنبك في الطين وكان يقول: والمبذرات زرعا، والحاصدات حصدا، والذاريات قمحا، والطاحنات طحنا، والخابزات خبزا، والثاردات ثردا، واللاقمات لقما، إهالة وسمنا، لقد فضلتم على أهل الوبر، وما سبقكم أهل المدر، رفيقكم فامنعوه، والمعتر فآووه، والناعي فواسوه وذكروا أشياء من هذه الخرافات التي يأنف من قولها الصبيان وهم يلعبون، فيقال: إن الصدِّيق قال لهم: ويحكم، أين كان يذهب بعقولكم؟! إن هذا الكلام لم يخرج من أل وكان يقول: والفيل، وما أدراك ما الفيل، له زلوم طويل. وكان يقول: والليل الدامس، والذئب الهامس، ما قطعت أسد من رطب ولا يابس.وكان يقول: لقد أنعم الله على الحبلى، أخرج منها نسمة تسعى، من بين صفاق وحشي وأشياء من هذا الكلام السَّخيف الركيك البارد السميج.
وقد أورد أبو بكر ابن الباقلاني– رحمه الله- في كتابه إعجاز القرآن أشياء من كلام الجهلة المتنبئين كمسيلمة وطليحة والأسود وغيرهم؛ مما يدلُّ على ضعف عقولهم وعقول من اتَّبَعهم على ضلالهم ومحالهم، فقال له مسيلمة: ماذا أنزل على صاحبكم في هذا الحين؟ فقال له عمرو: أنزل عليه سورة وجيزة بليغة فقال: وما هي؟ قال: أنزل عليه: " وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ " قال: ففكَّر مسيلمة ساعة ثم رفع رأسه فقال: ولقد أنزل عليَّ مثلُها. فقال له عمرو: وما هي؟ فقال مسيلمة: يا وبر يا وبر، إنما أنت إيراد وصدر، وسائرك حفر نقر. ثم قال: كيف ترى يا عمرو؟ فقال له عمرو: والله إنك لتعلم أني أعلم أنك تكذب.
وذكر علماء التاريخ أنه كان يتشبَّه بالنبيِّ r؛ بلغه أن رسول الله ﷺ بصق في بئر فغزر ماؤه، فبصق في بئر فغاض ماؤه بالكلية. وفي أخرى فصار ماؤه أجاجا، وتوضأ يمسح رؤوسهم؛ فمنهم من قرع رأسه، ومنهم من لثغ لسانه، ويقال: إنه دعا لرجل أصابه وجع في عينيه فمسحها فعمي.
وقال سيف بن عمر عن خليد بن زفر النمري، عن عمير بن طلحة عن أبيه أنه جاء إلى اليمامة فقال: أين مسيلمة؟ فقال: مه رسول الله فقال: لا، حتى أراه فلما جاء قال: أنت مسيلمة؟ فقال: نعم قال: مَنْ يأتيك؟ قال: رجس، قال: أفي نور أم في ظلمة؟ فقال: في ظلمة فقال: أشهد أنك كذاب وأن محمداً صادق؛ ولكن كذاب ربيعة أحبُّ إلينا من صادق مضر واتَّبَعَه هذا الأعرابيُّ الجلف- لعنه الله- حتى قتل معه يوم عقربا.
مختارات