" خـاتمـة "
" خـاتمـة "
قد تقدم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «تفكروا في آلاء الله ولا تفكروا في الله» (صحيح الجامع) فالتفكر في ذاته سبحانه ممنوع منه، وذلك أن العقول تتحير في ذلك، فإنه أعظم من أن تمثله العقول التفكر، أو تتوهمه القلوب بالتصوير " كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ " [الشورى: 11].
فأما التفكر في مخلوقات الله تعالى، فقد ورد القرآن بالحث على ذلك كقوله تعالى: " إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ " [آل عمران: 190]، وقوله: " قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ " [يونس: 101].
ومن آيات الله تعالى الإنسان المخلوق من نطفة، فيتفكر الإنسان في نفسه، فإن في خلقه من العجائب الدالة على عظمة الله تعالى، ما تنقضي الأعمال في الوقوف على عشر عشره وهو غاف عن ذلك. وقد أمره الله تعالى بالتدبر في نفسه، فقال: " وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ " [الذاريات: 21]، وقد تقدم في كتاب الشكر الكلام على بعض خلق الإنسان فليطلب هناك.
ومن آياته الجواهر المودعة في الجبال، والمعادن من الذهب والفضة والفيروزج ونحوها، كذلك النفط والكبريت والقار وغيرها، ومن آياته البحار العظيمة العميقة المكتنفة لأقطار الأرض، التي هي قطع من البحر الأعظم، المحيط بجميع الأرض، ولو جمع المسكوف من ألأرض، من البراري، والجبال، لكان بالإضافة إلى الماء كجزيرة صغيرة في بحر عظيم، وفي البحر عجائب أضعاف ما نشاهده في البر.
وانظر كيف خلق اللؤلؤ، ودوره في صدفه تحت الماء، وانظر كيف أنبت المرجان في صم الصخور تحت الماء، وكذلك ما عداه من العبر وأصناف ما يقذفه البحر وانظر إلى عجائب السفن كيف أمسكها الله تعالى على وجه الماء، وسيرها في البحار تسوقها الرياح، وأعجب من ذلك الماء فإنه حيلاة كل ما على الأرض من حيوان ونبات، فلو احتاج العبد إلى شربة ماء، ومنه منها لبذل جميع خزائن الدنيا في تحصيلها لو ملك ذلك، ثم إذا شربها ومنع خروجها، لبذل جميع خزائن الأرض في إخراجها، فلا يغفل العبد عن هذه النعمة.
ومن آياته الهواء وهو جسم لطيف لا يرى بالعين، ثم انظروا إلى شدته وقوته، وانظر إلى عجائب الجو، وما يظهر فيه من الغيوم، والرعد والبرق والمطر والثلج والشهب والصواعق، وغير ذلك من العجائب.
وانظر إلى الطير تسبح بأجنحتها بالهواء كما يسبح حيوان البحر في الماء، ثم انظر إلى السماء وعظمها وكواكبها وشمسها وقمرها، وما فيها كوكب إلا لله تعالى فيه حكمة في لونه وشكله وموضعه، وانظر إلى إيلاج الليل في النهار، والنهار في الليل، وانظر مسير الشمس، كيف اختلف في الصيف والشتاء والربيع والخريف.
وقد قيل: إن الشمس مثل الأرض مائة ونيفًا وستين مرة، وإن أصغر كوكب في السماء مثل الأرض ثمان مرات، فإذا كان هذا قدر كوكب واحد، فانظر إلى كثرة الكواكب، وإلى السماء التي فيها الكواكب، وإلى إحاطة عينك بذلك مع صغرها والعجب منك أنك تدخل بيت غني مزخرف مموه بالذهب، فلا ينقطع تعجبك منه ولا تزال تذكره، وأنت تنظر إلى هذا البيت العظيم، ولا تتفكر في بناء خالقك، فلقد نسيت نفسك وربك، واشتغلت ببطنك وفرجك، فتلقى مثلك في غفلتك إلا كمثل نملة تخرج من بيتها الذي حفرته في حائط قصر الملك، فتلقى أختها فتتحدث معها في حديث بيتها، وكيف بنته وما جمعت فيه، ولا تذكر قصر الملك ولا من فيه، فهكذا أنت في غفلتك، فما تعرف من السماء إلا ما تعرفه النملة من سقف بيتك.
فهذا بيان معاقد الجمل التي يجول فيها فكر المتفكرين، والأعمار تقصر، والعلوم تقل عن الإحاطة بعض المخلوقات، إلا أنك كلما استكثرت من معرفة عجائب المصنوعات، كانت معرفتك بجلال الصانع أتم.
فتفكر فيما أشرنا إليه ههنا مع ما قدمناه من الإشارة في كتاب الشكر.
فمن نظر في هذه الأشياء من حيث إنها فعل الله وصنعه، استفاد المعرفة بجلال الله تعالى وعظمته، ومن قصر النظر عليها من حيث تأثير بعضها في بعض، لا من حيث ارتباطها بمسبب الأسباب، شقي.
نعوذ بالله من مزلة أقدام الجهال، ومن الركون إلى أسباب الضلال، ولا وجه للتفكر فيما لا نراه من الملائكة والجن، فلذلك عدلنا عنه إلى ما نراه والله أعلم.
مختارات