فقه المحبة (٢)
وعلامة صحة محبة الله:
الذل للمؤمنين.. الشدة على الكافرين.. الجهاد في سبيل الله.. عدم الخوف إلا من الله.
قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (٥٤)} [المائدة: ٥٤].
والناس قبيل واحد تجمعهم الإنسانية، وهم إما أن يكونوا فضلاء أو نقصاء.
فالفضلاء تجب محبتهم لموضع فضلهم وحسن تقواهم، والنقصاء تجب رحمتهم لأجل نقصهم، فينبغي لمحب الكمال أن يكون رحيماً لجميع الناس، متحنناً عليهم، رؤوفاً لهم، متودداً إليهم، خاصة الملك والراعي، فإن الملك لا يكون ملكاً ما لم يكن محباً لرعيته رؤوفاً بهم؛ لأنه بمنزلة رب الدار.
والمحبة والعدل من أسباب نظام الناس، ولو تحاب الناس وتعاملوا بالمحبة؛ لأستغنوا بها عن العدل، فالعدل خليفة المحبة، يستعمل حيث لا توجد المحبة، ولهذا عظَّم الله المنة بإيقاع المحبة بين المسلمين كما قال سبحانه: {وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (٦٢) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٦٣)} [الأنفال: ٦٢،٦٣].
ومحبة العبد لله يدعيها كل أحد، لكن ينبغي ألا يغتر الإنسان بتلبيس الشيطان وخداع النفس مهما ادعت محبة الله، ما لم يمتحنها بعلامات تدل عليها.
فالمحبة شجرة طيبة في القلب، أصلها ثابت وفرعها في السماء، وثمارها تظهر في القلب واللسان والجوارح، وتدل تلك الآثار عليها كدلالة الدخان على النار، ودلالة النور على الشمس.ومن علامات محبة العبد لله:
حب لقاء الله، فلا يتصور أن يحب القلب محبوباً إلا ويحب مشاهدته ولقاءه.
وأن يكون العبد مؤثراً ما يحبه الله على ما يحبه هو في ظاهره وباطنه، فلا يزال مواظباً على طاعة الله، ومتقرباً إليه بالنوافل، وطالباً عنده مزايا الدرجات كما يطلب المحب مزيد القرب في قلب محبوبه:
وأن يكون مولعاً بذكر الله تعالى، لا يفتر عنه لسانه، ولا يخلو عنه قلبه، فمن أحب شيئاً أكثر من ذكره.
فعلامة حب الله حب ذكره وحب كلامه، وحب رسله، وحب كل ما ينسب إليه، وكل ما يحبه.
ومنها أنسه بالخلوة ومناجاته لله تعالى، وتلاوة كتابه، والمواظبة على التهجد.
ومنها ألا يتأسف على ما يفوته مما سوى الله عزَّ وجلَّ، ويعظم تأسفه على فوت كل ساعة خلت عن ذكر الله تعالى وطاعته.
ومنها أن يتلذذ بطاعة الله تعالى ويتنعم بها، ولا يستثقلها؛ بل يفرح بها.
ومنها أن يكون مشفقاً على جميع عباد الله، رحيماً بهم، شديداً على جميع أعداء الله، وعلى كل من يفارق شيئاً مما يكرهه الله كما وصف الله ورسوله والمؤمنين بقوله: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} [الفتح: ٢٩].
ومنها أن يكون في حبه خائفاً متضائلاً تحت الهيبة والتعظيم.
والمحبة نوعان:
محبة نافعة.. ومحبة ضارة.
فالمحبة النافعة ثلاثة أنواع:
محبة الله.. ومحبة في الله.. ومحبة ما يعين على طاعة الله، واجتناب معصيته.
والمحبة الضارة ثلاثة أنواع:
المحبة مع الله.. ومحبة ما يبغضه الله.. ومحبة ما تقطع محبته عن محبة الله أو تنقصها.فهذه ستة أنواع عليها مدار محاب الخلق:
فمحبة الله تعالى أصل المحاب المحمودة، وأصل الإيمان والتوحيد، والنوعان الآخران تبع لها.
والمحبة مع الله أصل الشرك والمحاب المذمومة، والنوعان الآخران تبع لها، ولا عيب على الإنسان في محبة زوجته وعشقه لها، إلا إذا شغله ذلك عن محبة ما هو أنفع له، من محبة الله ورسوله، وزاحم حبه حب الله ورسوله.
فكل محبة زاحمت حب الله ورسوله بحيث تضعفها وتنقصها فهي مذمومة.
وإن أعانت على محبة الله ورسوله وطاعته، وكانت من أسباب قوتها فهي محمودة كالطعام الطيب، والشراب الحلو البارد، والحلواء والعسل، ونحو ذلك، فهذه المحبة لا تزاحم محبة الله، بل قد تجمع الهم والقلب على التفرغ لمحبة الله، فهذه محبة طبيعية تتبع نية صاحبها وقصده بفعل ما يحبه.
فإن نوى الإنسان به القوة على أمر الله تعالى، والاستعانة به على طاعته، كان ذلك قربة إلى الله.
وإن فعل ذلك بحكم الطبع والميل المجرد لم يثب، ولم يعاقب.
فالمحبة النافعة: هي التي تجلب لصاحبها ما ينفعه من السعادة والنعيم.
والمحبة الضارة: هي التي تجلب لصاحبها ما يضره من الشقاء والعذاب.
وكل حي فله إرادة وعمل بحسبه، وكل متحرك فله غاية يتحرك إليها، ولا صلاح له إلا أن تكون غاية حركته، ونهاية مطلبه هو الله وحده.
والحركة الطبيعية سببها ما في المتحرك من الميل، والطلب لكماله وانتهائه، كحركة النار للعلو، وحركة النبات للنمو.
والحركات الإرادية كلها تابعة للإرادة والمحبة التي تحرك المريد إلى فعل ما يفعله.
مختارات