" أبناء يدفعون آبائهم إلى الإدمان "
" أبناء يدفعون آبائهم إلى الإدمان "
استقرت أسرة «حمد» في مدينة جدة بعد أن كان والده كثير التنقل من منطقة إلى أخرى بسبب عمله، وكان عمه تاجرًا معروفًا في نفس المدينة فعرض عليه رغبته في العمل معه... رحب به العمل كثيرًا فقد كان بحاجة إلى شريك يساعده في إدارة تجارته لا سيما وأنها أخذت تنمو تدريجيًا، كان حمد شابًا طموحًا عاقلاً ينظر للمستقبل بعين متفائلة وآمال كبيرة، وأحلام بعيدة، وما إن تسلم عمله مع عمه حتى مضى يعمل بإخلاص وتفان وجد... فلم تمض سنوات قلائل حتى كبرت تجارته مع عمه بعد أن أدخله شريكًا معه، وعلى إثر ذلك النجاح الكبير فضل أن يستقل بتجارته وحده، ففتح محلاً تجاريًا ولم تمض عليه عدة شهور حتى ألحقه بآخر، تزوج حمد، وكون أسرة، وكانت تجارته تزداد مع مرور السنوات... وقد رزقه الله ببنين وبنات، عمل على تربيتهم وتعليمهم ثم زوج الكبار منهم، كانت حياته الأسرية تسير هادئة مطمئنة حتى بدأت المشاكل تزحف إلى حياته شيئًا فشيئًا بسبب طلبات بناته وبنينه التي لا تنتهي مما زاد الضغوط عليه، فكلما خرج من مشكلة وقع في أخرى، ولم يكن أولاده يفكرون في صحته؛ بل كان همُّ كل واحد منهم أن تحل مشاكله المادية ويبلغ مراده، كان التفكير يرهقه طوال يومه، والتوتر لا يكاد يفارقه حتى يعود إليه، زوجه كانت الوحيدة التي تخاف عليه وتفكر في صحته، فقد كانت المشاكل التي تحل به أكبر من أن يمتصها وحده...حتى دفعته حالته إلى الهروب من مشاكله وقلقه وكآبته إلى تعاطي حبوب مهدئة... وهو على أبواب الستين حتى تعود عليها وأصبح مدمنًا لها، كانت زوجته تسأله بإلحاح عن حقيقة هذه الحبوب فيقول لها عندما يضيق بأسئلتها لا تخافي يا أم أحمد إن هذه الحبوب فيتامينات تساعدني على الراحة وتمدني بالنشاط والقوة.
وذات ليلة دعي في حفل خاص عند أحد الأصدقاء من زملاء المهنة، وفي الحفل قال له صديقه: أراك منذ فترة على غير طبيعتك...قال: إنها المشاكل التي لا ترحم يا صاحبي، ومن أين لك المشاكل؟ إنها مشاكل الأولاد وأولاد الأولاد التي لا تنتهي، لقد أصبحوا عبئًا ثقيلاً على كاهلي دون أن يدركوا معنى المسؤولية؟ لا عليك سأعطيك شيئًا سوف يريحك عندما تحاصرك هذه المشاكل... غاب ثوان ثم عاد وهو يحمل قطعة من الحشيش وناوله إياها وهو يقول لفها على السيجارة ودخنها، وجد حمد في هذه السيجارة الملفوفة باللذة المؤقتة راحة من عناء التعب، وسعادة زائفة يعيش في كنفها هربًا من جحيم العذاب الذي يتلبسه، سبع سنوات مضت في عمره وهو في كل يوم يزداد تمسكًا وحبًا لتلك السيجارة التي صار أسيرًا لها، كانت أمواله تتلاشى في سرعة مخيفة وصحته تزداد سوءًا، دون أن يدرك ذلك بوعي وكان أحيانًا يدخنها بعد أن يستنشقها عن طريق الشيشة، وكان أولاده يراقبون تدهور صحته وتغير طباعه دون أن يُبدوا أدنى اهتمام به وكأنهم كانوا يترقبون موته ليستولوا على البقية الباقية من ثروته.
حينما وجدوه منعزلاً، وبعيدًا عنهم بعض الشيء قرروا بينهم وبين أنفسهم وقد ماتت العاطفة في قلوبهم، وتلاشت الإنسانية من أنفسهم وتجمدت عقولهم عن التفكير، وتعفن ضميرهم، وضعف إيمانهم، قرروا أن يتقاسموا أمواله، ويفضوا تجارته؛ لأنه لم يعد قادرًا على تنمية هذه التجارة، كانت صدمة والدهم أقوى من أن يحتملها إنسان حي، حين علم بذلك أولاده الذي شقي من أجلهم يرثونه حيًا، ويحكمون عليه بالموت البطيء.
تخلى عن كل شيء، ترك تدخين الحشيش وشمه، كانت صدمته في أولاده بمثابة القوة الدافعة التي جعلته يتحدى الجميع، ويثبت لهم أنه لم يصل إلى السن التي يتحكمون فيه ويصبح عالة عليهم تدفعهم إلى التخلي عنه لعجزه بعد، اشترى سيارة بالتقسيط بعد أن أخذ ثمنها من صديق له، وبدأ يعمل على نقل بضائع عليها، فلم تمض فترة حتى تيسرت أموره من جديد وعاد إلى بيته بعد شهور من العمل الجاد، وفي تلك الفترة أصيبت زوجته بشلل فلم تجد أولادها بجانبها وكأنها لم تنجب وتربي وتشقى.
كانت أنانيتهم ومصلحتهم أكبر من عاطفتهم وحبهم لوالديهم، نقلت من قبل الجيران إلى المستشفى، كانت صدمة والدهم فيهم هذه المرة لا تقل عن صدمته الأولى.
فترة قصيرة مرت على دخولها المستشفى لم تلبث أن فارقت بعدها الحياة متأثرة من عقوق أبنائها، اسودت الدنيا في وجه حمد ووجد نفسه وكأنه عاش عمره دون زوجة أو ولد، الوحدة مرة والذكريات الحزينة نار ليس لها رماد، أصدقاء السوء عرضوا عليه الهيروين لينسى، كانت حالته سيئة فلم يعد يميز معها ما يعمل. شاب صغيرٌ كان يعمل سائق سيارة عرض عليه الهيروين ظانًا أنه مفيد لحالته حتى اعتاد عليه، حاول تركه في ما بعد، ولكنه لم يستطع، وقع في حفرة لا قرار لها بعد أن ضعفت ذاكرته وساءت حالته الصحية، حتى اضطر إلى عزل نفسه، أحس بالموت يزحف إليه متخفيًا نقله الجيران إلى المستشفى، وعندما فكر أولاده في زيارته بعد أن تذكروا أخيرًا أن لهم أبًا، كان يمر بحالة شديدة من المرض والإحباط والقهر وظلم الأبناء... وقد نسوا أن لهم أولادًا، وأن الله يمهل ولا يهمل وما قدموه حاضرًا لوالديهم سيجدونه عند أبنائهم مستقبلاً، ولكن بعد فوات الأوان (مأساة نور وآخرين).
مختارات