" السيل الهائج "
" السيل الهائج "
مع إقبال الربيع وجوه البديع يحلو لنا الذهاب إلى قريتنا الجميلة حيث الهواء العليل والمناظر الطبيعية الخلابة..والجبال الشاهقة التي تدل على عظمة الله تعالى وبديع صنعه...خرجت بأطفالي الثلاثة متجهة إلى القرية، يقودنا والد زوجي في جو تزينه زخات المطر التي تعانق الأرض فتهتز طربًا كأنها تسبّح الخالق وتشكره على هذه الرحمة التي بها يحيى الأرض، ويسقي العباد وينعش البلاد..وزاد من جمال ذلك الجو البديع تلك الغيوم التي غطت السماء فأكسبتها لونا ساحرا..وفي منتصف الطريق توقفنا لأداء الظهر، ثم أكملنا طريقنا الذي يستغرق أكثر من ساعتين وأقبلنا على واد من أجمل الوديان في قريتنا، وكان هذا الوادي الذي لابد من تجاوزه قد غُطي قليلا بمياه السيل من آثار هذه الأمطار، وكان منظر الوادي والماء يجري فيه والجبال من حوله مع زخات المطر المنعشة والهواء العليل، يبهج النفوس، ويسر العيون..ترددنا في البداية من قطع هذا الوادي لكننا توكلنا على الله وعزمنا على أن نقطعه؛ لنكمل طريقنا إلى القرية قبل أن يحل علينا الظلام فيصعب علنيا قطعه..وعندما اقتربنا من نهاية الوادي، ولم يبق لنا سوى بضع أمتار لنخرج منه.. ونحن في سعادة وفرح بهذا المنظر الذي لم ندرك خطورته.. فإذا بنا نقع في منخفض لم ننتبه له فقد كانت الأرض مغطاة بالمياه..حاولنا أن نخرج منه لكن المياه دخلت إلى السيارة وأوقفتها.. حاولنا تشغيلها مرارا وفشلنا في ذلك، فالمياه محيطة بها من جميع الجهات.. وهي تصل إلى أكثر من منتصفها حاولنا أن نخرج منها لكن لا سبيل للخروج منها، فالسيل جارف والمطر أصبح يهطل بغزارة.. التفتنا يمينا وشمالا فلم نر أحدا..وأخذ الأطفال يصرخون من الخوف وكنت أُطمئنهم وأُخبرهم أن الله معنا.. وبعد قليل لاح لنا رجل من بعيد ناداه عمي، وأخذ يلوح له بيديه حتى انتبه له الرجل ونظر إلينا.. لكنه ذهب وتركنا فماذا يفعل رجل واحد لهذه الأسرة، وبقينا في السيارة تتأرجح بنا وسط هذا السيل الجارف الذي يزداد بزيادة هطول الأمطار.. وأصبحت المياه تدخل علينا من فتحات المكيف في السيارة.. فأسقط في أيدينا.. فلا أحد حولنا، ولا أحد يدري بنا سوى الله تعالى.. فلجأنا بالدعاء إليه أن ينقذنا مما نحن فيه، لكن المطر كان يزداد.. وكذلك السيل حتى تسبب في انقلاب السيارة على جنبها، وأصبحت السيارة تهتز وتتأرجح، والمياه تدخل علينا من كل مكان، وقد وصلت إلى منتصفنا ونحن في داخل السيارة، أما خارج السيارة فتكاد المياه أن تغطيها..وبعد نصف ساعة تقريبا ونحن على هذا الحال ننتظر الموت في كل لحظة.. أقبل مجموعة من الرجال كان قد أخبرهم ذلك الرجل الذي استنجد به عمي وأحضروا معهم بعض الحبال ورموها علينا، فربطها عمي في مقود السيارة وربطوها هم في جذع شجرة.. فرحت لما رأيتهم وحمدت الله وتوقعت أن يقوموا بإخراجنا؛ لكنهم لم يجرؤوا على الاقتراب منا.. خصوصا وأن المطر أصبح يهطل بغزارة مما تسبب في ارتفاع مستوى السيل أكثر وأكثر.. واضطرهم إلى الفرار إلى رؤوس الجبال.. وكنت أنظر إليهم وهم يولوننا أدبارهم وأقول لهم.. أرجوكم أنقذوا الأطفال.. فقد كنت أخشى أن أراهم وهم يموتون أمامي، فقال لي عمي بعد أن رآهم هاربين وقد كان قوي الإيمان: بمن تستعينين؟ وعلى من تتوكلين؟ على بشر مثلك !! لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا !! كلي أمرك لله.. وفوضي شأنك له تعالى فهو القادر على كل شيء الذي إذا أراد شيئا فإنما يقول له كن فيكون، أما هؤلاء البشر فهم مثلك لا حول لهم ولا قوة ألحي بالدعاء واستبشري.. فالفرج قريب إن شاء الله..فقلت: لكنهم ذهبوا ولن يساعدوننا لقد خافوا على أنفسهم فقال: إن كانوا هم قد ذهبوا فربهم وربنا موجود ولن يضيعنا، فقلت: ولكنني أخشى على الصغير الذي في يدي أن يسقط في الماء والطين الذي كان يغطينا إلى المنتصف، ونحن في داخل السيارة نرتجف من شدة البرد والأمطار من فوقنا ما زالت تهطل بغزارة أخشى أن لا أقوى على حمله فيسقط من يدي وأراه يموت أمامي فقال: استعيني بالله وتوكلي عليه واصبري فإن الفرج قريب إن شاء الله وادعي بدعاء الكرب وأكثري من الاستغفار.
كانت كلمات عمي كالبلسم الشافي طمأن قلبي وجعلني أقطع كل أمل بالمخلوقين وأعلق أملي ورجائي بالله رب العالمين، فهو القادر على كل شيء السميع القريب المجيب فأخذنا ندعوا ونتضرع إلى الله تعالى.. ونقول: يا أرحم الراحمين يا رب العالمين خذلنا الناس وفرّوا عنا هاربين وأنت رب الناس وخالقهم والركن المتين، فكن معنا يا سميع يا مجيب وأنقذنا من الكرب العظيم.. وكنا نتوسل لله تعالى بأسمائه وصفاته وبصالح أعمالنا حتى أحسننا برقة في قلوبنا.. واطمئنان في نفوسنا.. وزال منا الخوف على أنفسنا وأطفالنا.. لكننا ما زلنا نرجو رحمة الله تعالى بإنقاذنا، فقد كان البرد يشتد فالماء والطين يغطي أرجلنا والمطر يزداد من فوقنا.. والسيارة تتأرجح في داخلها المياه التي تكاد أن تغطيها، وكأنها في صراع معها.. ونحن في داخلها لا حول لنا ولا قوة حتى ظننا أنه الموت فأسلمنا أمرنا لله وأيقنا أن الموت حق.. لكننا لم نيأس من رحمة الله ولطفه بنا.. ولقد كنا عندما ندعو نرى السيارة تندفع من مكانها رويدا رويدا.. وكأن أحدا يدفعها، فقد كانت تندفع برفق مع سرعة السيل الجارفة التي كان يمكن لها أن تقلبها بكل سهولة!! وكذلك الحبال التي كانت تربط السيارة بالشجرة لم تكن قوية!! وأيضا الشجرة صغيرة وضعيفة لا يمكن أن تتحمل هذا الثقل العظيم.. وكم اقتلع السيل من هي أكبر منها.. أما هي فقد بقيت متماسكة صامدة.. وقد كنا ننظر إلى السيل فنراه يدحرج الأشجار التي اقتلعها والصخور وكل من يقف أمامه كالمجرم العاتي الذي يدمّر كل شيء يقف في وجهه من أجل نفسه..لقد كان المنظر مفزعا!! لكننا تحلينا بالصبر وفوضنا أمرنا لله تعالى وتوكلنا عليه؛ لذلك لم نفزع من هذا المنظر على شدته فنحن نرى الناس من بعيد وقد علو رؤوس الجبال!!.. خوفا من هذا السيل العرمرم الذي غطى الوادي وهدم أسوار المزارع وأغرقها..ونحن في طرف الوادي ليس بيننا وبين نهاية الوادي سوى بضعة أمتار.. لكن لا أحد يجرؤ على الاقتراب منا فمكاننا خطير والسيل جارف ومرتفع وفي ازدياد، بقينا على هذا الحال ساعتين تقريبا حتى ظننا إننا إن لم نهلك من الانجراف في السيل فسوف نهلك من شدة البرد..لقد سلمنا أمرنا لله.. فها نحن بين يدي الله لا نملك من أمرنا شيئا سوى الدعاء وانتظار الفرج، والناس حولنا يبكون علينا رجال ونساء وأطفال لا حول لهم ولا قوة.. يتمنون إنقاذنا فلا يستطيعون.. ولا يملكون سوى الدعاء والتقرب في أن يقل مستوى ارتفاع السيل.. حتى يتمكنوا من الدخول فيه لإنقاذنا، ويتمنوا أن لا تكون نهايتنا مأساوية..وبعد الساعتين التي أمضيناها على هذا الحال خف مستوى السيل وقدم رجال من القرية المجاورة كانوا يمتازون بالقوة والضخامة، وكانوا قد سمعوا بنا فأقبلوا مسرعين.. وتماسكوا كالشريط متمسكين بالحبال المربوطة بالسيارة حتى وصلوا إلينا في داخل السيارة وكان أول من أخرجوا طفلي الذي لم يتجاوز الثلاثة أشهر والذي كدت أن أسقطه في الماء من شدة الإعياء والتعب، فكانوا كمن حمل جبل من على يديّ، ثم أخرجوا بقية الأطفال وخرج عمي، ثم شددت عليّ عباءتي وغطيت وجهي بغطائي الذي امتلأ بالماء والطين وقفزت من السيارة ولم أرضَ بمساعدة أحد من الرجال وتمسكت بالحبال.. ثم نزلت إلى السيل وتمنين أن لا أحتاج إلى مساعدتهم، لكن عند نزولي للماء (السيل) وكنت قد تمسكت بالحبل جيدا فإذا بالسيل يجرفني كأنني قطعة من القماش فساعدني الرجال وأنا ممسكة بالحبل أحاول أن أمشي بنفسي حتى خرجت فحملونا بسيارة أخرى إلى منازلهم وأكرمونا.. وسخنوا لنا الماء للاستحمام وأعطونا من ملابسهم وبقينا إلى الغد عندهم..ثم أوصلونا بسيارتهم إلى قريتنا.. فحمدنا الله الذي نجانا من هذا الكرب وخصوصا عندما رأينا السيارة التي انعدمت تماما بفعل السيل الجارف والصخور المدمرة، وعلمنا أن الله مع عبده يمده بعونه ويسبغ عليه رحمته إذا لجأ إليه وتوكل عليه.
مختارات