هل لديك مشروع في الحياة؟!
*مقالة قديمة ترددت في نشرها حين كتبتها قبل سنوات
لكن لا مانع منها الآن والصدر واسع لرفضها أو نقدها*
مشروع.
.
.
أم مشروعات
هل لديك مشروع في الحياة؟!
هل تعيش بدون مشروع؟
هل تبحث عن شغفك ومجال تركيزك؟!
ما مشروع عمرك؟
هل مرت بك هذه الأسئلة المحرجة والموبخّة يوما؟
هل طلب منك شرح مشروعك في مجلس أو حوار.
.
فتغيّر لونك وفركت أصابعك وشعرت بارتفاع حرارة الغرفة وتحشرج صوتك وشعرت بالضآلة، وبدأت في التفكير للتو في تصميم شيء يسمى مشروعًا.
هل تعاني من تشويش سكينتك بهذا السؤال!
إنسان بمشروع أو إنسان بلا جدوى.
واحدة من ثنائياتنا المعتادة التي تفهم من مدخل التناقض والتضاد.
والمشروع في حقيقته العرفية المتداولة اليوم هو أن يكون لك إسهام خاص وقيمة مضافة (بلغة الاقتصاد) في حقل خاص في العمل الدعوي أو التربوي أو العلمي مع التركيز الشديد فيه ووقف العمر عليه، وبذل وقتك وجهدك وعملك فيه، وبهذا المفهوم الضيق يحاول البعض فرز المجتمع إلى فريقين، وينهالون بمطارق التوبيخ على فريق اللامشروعيين، والفوضويين، وفاقدي التركيز.
والمقال لا يقدح أو يذم أو يهون من أهمية المشاريع في حياة فئة من المسلمين، وتعينها عليهم أحيانا، لكنه يحاول تفكيك فكرة سلب الجدوى ممن ليس لديهم أي مشروع بهذا المفهوم الخاص.
ولتقرير هذه الفكرة نحتاج إلى بيان العديد من القضايا:
1- مشروع الحياة الأعظم لا يرسمه المؤمن لنفسه، ولا يحدد اتجاهه بهواه واختياره، مشروع حياة المؤمن معروف الهدف والغاية ومحدد الوسيلة والطريقة، فالغاية هو تحقيق العبودية لله ومحبته والخضوع له، والوصول إلى ذلك على طريق النبي صلى الله عليه وسلم ووفق منهجة وسنته، ومع ان مصطلح مشروع العمر لم يتحرر، وبعض الفضلاء يقول إنهم يقصدون به المشروع الشخصي بعد الواجبات والفرائض، ومع ذلك فلا بد من التذكير بالغاية الكبرى ووظيفة الإنسان في الحياة، حتى لا تقام مشاريع العمر على أنقاض الغاية الكبرى أو تزاحمها، أو تعرقل المسير إليها.
هناك فرق أكبر من أن يحتاج إلى بيان بين غاية الإنسان في الحياة ومغزى وجوده وبين فكرة وجود مشروع خاص حياته، ومن القفزات الطائشة أن يوصف فاقد المشروع الخاص بفقدان الغاية الكلية للحياة وأنه يعيش هملا وعبثا، وأنهم يشربون الماء ويلوثون الهواء ويسببون الزحام فحسب، وأنهم زائدون على هذه الحياة،
المشاريع الخاصة ليست هي الأصل فعموم المسلمين يعيشون لغايتهم الكبرى وهي تحقيق العبودية لله والفوز بجنته والنجاة من عذابه ويسلكون في سبيل ذلك القيام قدر طاقتهم بالأوامر ويجتنبون النواهي ويشاركون على تفاوتهم في النوافل ويتوبون ويستغفرون من المحرمات، وهذا مشروع يستهلك حياتهم ويعيشون له، وهو أهم مشاريع الحياة وعليه افتراق الناس في الدنيا والآخرة.
2- إذا قلنا إن مشروع العمر مصطلح له معنى خاص، يقصد به اختيار المناسب للإنسان من العبادات اللازمة أو المتعدية فإن اختيار المناسب لمشاريع أعمارنا اختيار شرعي أيضا، ما دمنا نريد بهذا المشروع القربة إلى الله فينبغي أن يكون الاختيار وفق هدايات الوحي فتفضيل العبادات على بعضها حكم شرعي يحتكم فيه إلى الكتاب والسنة.
قال ابن تيمية رحمه الله الفتاوى (7/651):
وأما قوله: فالأسباب التي يقوى بها الإيمان إلى أن يكمل على ترتيبها؟ هل يبدأ بالزهد؟ أو بالعلم؟ أو بالعبادة؟ أم يجمع بين ذلك على حسب طاقته؟ فيقال: له لا بد من الإيمان الواجب والعبادة الواجبة والزهد الواجب ثم الناس يتفاضلون في الإيمان؛ كتفاضلهم في شعبه وكل إنسان يطلب ما يمكنه طلبه ويقدم ما يقدر على تقديمه من الفاضل.
والناس يتفاضلون في هذا الباب: فمنهم من يكون العلم أيسر عليه من الزهد ومنهم من يكون الزهد أيسر عليه ومنهم من تكون العبادة أيسر عليه منهما فالمشروع لكل إنسان أن يفعل ما يقدر عليه من الخير كما قال تعالى: فاتقوا الله ما استطعتم } وإذا ازدحمت شعب الإيمان قدم ما كان أرضى لله وهو عليه أقدر فقد يكون على المفضول أقدر منه على الفاضل ويحصل له أفضل مما يحصل من الفاضل فالأفضل لهذا أن يطلب ما هو أنفع له وهو في حقه أفضل ولا يطلب ما هو أفضل مطلقا إذا كان متعذرا في حقه أو متعسرا يفوته ما هو أفضل له وأنفع ؛ كمن يقرأ القرآن بالليل فيتدبره وينتفع بتلاوته والصلاة تثقل عليه ولا ينتفع منها بعمل أو ينتفع بالذكر أعظم مما ينتفع بالقراءة فأي عمل كان له أنفع ولله أطوع أفضل في حقه من تكلف عمل لا يأتي به على وجهه بل على وجه ناقص ويفوته به ما هو أنفع له.
اهـ
وتحصل من كلام ابن تيمية رحمه الله: أنه بعد الواجبات وعند ازدحام الفضائل فإن معايير اختيار الأفضل يتم وفق معيارين:
الأول: ما كان من العمل أرضى لله سبحانه وتعالى، وهذا معرفته بطريق الوحي.
الثاني: قدرته عليه ورغبته فيه.
تقع المشاريع الخاصة غالبا في دائرة النوافل، والحديث عنها بهذا الإلزام يضيف عليها الوجوب الذي يستحق اللوم والعقاب تاركه، وهذا مخالف لشرع الله، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال للإعرابي الذي أعلن التزامه بالفرائض: أفلح إن صدق.
المشاريع الخاصة غالبا تتطلب قدرات ومواهب خاصة، وإلزام عامة المسلمين بتكلف مشروع خاص، يناقض التفاوت في قدراتهم والفروق في استعداداتهم العقلية والنفسية والمالية والاجتماعية أيضا، بل تحمل بعض فاقدي هذه المواهب إلى إقحام نفسه في مشروع يستهلك عمره ويشغله ربما عن كثير من واجباته وهو لن يضيف أي شيء للبحر الذي ألقي بنفسه فيه بلا قارب ولا مجداف، كما أن تضخيم حتمية المشروع الشخصي لكل أحد حتى من طلبة العلم والدعاة والمربين يؤدي إلى تفتيت المشاريع الكبرى، وتعزيز الفردانية في التفكير والنجاحات، وضعف الميول التعاونية.
3- الفرائض والواجبات ليست محلا للاختيار، ولو أنها خارج التعريف الاصطلاحي لمشروع العمر، فينبغي استحضار الفرائض والواجبات عند رسم مشروع العمر، والوعي الكامل بها، حتى لا تتمدد مشاريع العمر على حسابها، وأن ندرك أن لمشاريع العمر وفق هذه المصطلح الفضلة من العمر بعد الفرائض والواجبات.
4- الحذر من التهميش للواجبات والفرائض في الحس والوعي، وأن تتحول إلى مجرد محطات هامشية لمشروع العمر المختار، وأن لا تؤثر المشاريع على مطالب تلك الواجبات وكمالاتها.
5- اختيار المشروع والمضي فيه قد يحمل صاحبه على التعصب له ورفعه فوق منزلته وتأخر ما قدمه الله في قلبه عنه قال ابن تيمية رحمه الله (24/199):
فإن في الناس من إذا اعتقد استحباب فعل ورجحانه يحافظ عليه ما لا يحافظ على الواجبات حتى يخرج به الأمر إلى الهوى والتعصب والحمية الجاهلية كما تجده فيمن يختار بعض هذه الأمور فيراها شعارا لمذهبه.
ومنهم من إذا رأى ترك ذلك هو الأفضل يحافظ أيضا على هذا الترك أعظم من محافظته على ترك المحرمات حتى يخرج به الأمر إلى اتباع الهوى والحمية الجاهلية كما تجده فيمن يرى الترك شعارا لمذهبه وأمثال ذلك وهذا كله خطأ.
والواجب أن يعطي كل ذي حق حقه ويوسع ما وسعه الله ورسوله ويؤلف ما ألف الله بينه ورسوله ويراعي في ذلك ما يحبه الله ورسوله من المصالح الشرعية والمقاصد الشرعية ويعلم أن خير الكلام كلام الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وأن الله بعثه رحمة للعالمين بعثه بسعادة الدنيا والآخرة في كل أمر من الأمور وأن يكون مع الإنسان من التفصيل ما يحفظ به هذا الإجمال وإلا فكثير من الناس يعتقد هذا مجملا ويدعه عند التفصيل: إما جهلا وإما ظلما وإما اتباعا للهوى.
6- ينبغي ربط المشروع ابتداء وانتهاء واستدامة بأعمال القلوب الواجبة وتحقيق العبودية لله سبحانه وتعالى ومحبته عز وجل، فإن بعض تلك المشاريع لطبيعتها وبيئتها الخاصة قد تحمل الإنسان على قسوة القلب وضعف العبودية وإقفاره من الأعمال التي لا يقوم لها مشروع عمره كله، بل قد يورث النجاح الظاهر فيها الكبر والعجب والغفلة والقسوة والتنافس والحسد والرياء ومع أن هذه عوارض لكل الأعمال والعبادات ولكنها تتفاوت من مشروع لآخر فعلى صاحب المشروع حراسة قلبه ومحبته لربه، والاستعداد لتضحيته بمشروعه عند شعوره بالخطر رأس مال حياته ومغزى وجوده.
7- الحذر من تسرب المفاهيم الغربية المادية وانتقال أفكارها إلى مشروع عمر المؤمن، ونهوض معاييرها في مشروعه، وتوهج مقاييسها المادية، التي ترتكز على الأرقام والحضور والتأثير والبصمة والشهرة والتاريخ والثناءات
نعم هذه من بشريات المؤمنين حصول القبول الواسع والذكر الحسن ولكنها ليست شرطا للفلاح الأخروي فالذي يتقلب في أنهار الجنة لغصن شوك أزاحه لا نعرف اسمه
انتشار الذكر الحسن واحدة من أمارات التوفيق
وانتفاع الخلائق والملايين بأحدهم كذلك
لكن ليست شرطا للفلاح الأخروي بل أبواب الجنة ثمانية ودروب الخير بلا حصر.
8- المشاريع الشخصية تتطلب نفسيات بإمكانات استثنائية تقاوم رغبات التنقل والتنويع والمشاركة، وتتطلب حياة خالية من الضغوط الاجتماعية والمالية أيضا وهو ما يفتقده أكثر الناس، كما أن هذا الفرز يطيح أو يهون من تشجيع مشاركة الناس والشعور بالتقدير لذواتهم عند المشاركة في الاعمال الخيرية والتطوعية فصدقتك ليست مشروعا، ونصيحتك مرة واحدة لجارك ليست مشروعا، وبرك بأمك ليس مشروعا، ودرس واحد في العلم ليس مشروعا وهكذا،
ولو تأملت في حياة الصحابة والسلف والأخيار يدل على هذا والتركيز على قضية واحدة لم يكن أكثر من الاسثتناء.
صحيح أننا قد نقول إن مشروع أبي هريرة رضي الله عنه حفظ الحديث، ومشروع ابن عباس رضي الله عنه تأويل القرآن، مثلا، لكننا ستواجه ألف سؤال تحتار معهم مثلا ما هو مشروع أبي بكر الخاص.
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: (مَن أصبح منكم اليوم صائمًا؟)، قال أبو بكر: أنا، قال: (فمَن تَبِعَ منكم اليوم جنازة؟)، قال أبو بكر: أنا، قال: (فمَن أطعم منكم اليوم مسكينًا؟)، قال أبو بكر: أنا، قال: (فمَن عاد منكم اليوم مريضًا؟)، قال أبو بكر: أنا، فقال صلى الله عليه وسلم: (ما اجتمعْنَ في امرئ إلا دخل الجنَّة).
بل حتى العلماء من التابعين فمن بعدهم مع اشتغالهم بالعلم كانت دائرة مفهوم المشروع أوسع بكثير من الاصطلاح المعاصر، فكثير منهم علماء وفقهاء ومحدثون ودعاة وعباد وصابرون ومنفقون.
.
.
فالذي تدل عليه نصوص الشريعة هي تشجيع الناس على كل عمل صالح يطيقونه وأنه عند الله بمكان مهما تنوع وتغير وتجدد بحسب الطاقة والإمكان، يصلي ويصوم ويتصدق ويحسن خلقه، ويدعو إلى الخير، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وكل ما وجد من نفسه إقبال على خير سار إليه، وكلما تيسر له معروف عمله به، دون أن يطوق نفسه بسياج المشروع ويخنقه فيه.
هذا المقال لا يعالج التفاضل بين العبادات والنوافل ولكن فكرته المركزية هي التخفيف من إلزام الخواص والعوام والشباب والفتيات بما يسمى المشاريع الشخصية والترحيب والاحتفاء بكل عمل خيري صالح لازم أو متعدي.
وجود مواهب خاصة وثغر ظاهر علمي أو تربوي أو غيره يحتاجه المسلمون، ووجد أحد من المسلمين في نفسه القدرة على القيام بفرض الكفاية فيه، فهؤلاء يشجعون ويعانون في تحقيق تلك الإضافة العلمية.
وفقكم الله لكل خير.
مختارات

