مصر في العصر الحديث
مصر في العصر الحديث:
قد كان لمصر في عصرنا الحديث فضائل جمة، وأعمال جليلة مهمة، ولأهلها أيادٍ بيضاء على المسلمين، وهذا بحر ضخم خضم لكني سآتي على بعض درره ولآلئه، فمن أدباء مصر الكبار:
مصطفى صادق الرافعي، وهو الأديب الذي سخر قلمه الرائع للدفاع عن ثوابت الإسلام والرد على خصومه، وعلى مثيري الشبهات الذين جعلوا القرآن غرضاً لهم، فألقمهم الحجر، ورد عليهم في كتابه الجليل " تحت راية القرآن " وغيره رداً مفحماً، ولقد كان وجوده بين أدباء عصره علامة فارقة؛ فإن معظم أدباء عصره كانوا بعيدين عن هذا المضمار، نائين بأنفسهم عن الدخول في هذه القضايا الإسلامية التي كان من يتبناها يُعرض نفسه لأشد أنواع الهجوم والبلاء الذي لا يطيقه كل أحد، هذا وقد كان ذلك الأديب الكبير أصم لكن لم يمنعه صممه من الوصول إلى أعلى الدرجات في الأدب.
ومنهم: الأستاذ سيد قطب الذي جمع بين الأدب الرفيع وتفسير القرآن على وجه لم يسبقه إليه غيره؛ إذ إني لا أعلم تفسيراً في الأرض نحا نحو تفسيره في ربط مدلولات الآيات القرآنية الكريمة بواقع الناس وأحوالهم وتصاريف زمانهم، فقد أفلح في ذلك وأجاد بل أقول إنه كان مُعاناً موفقاً، والله أعلم.
وقد كان من الأدباء القلائل جداً الذين خاضوا غمار الدعوة إلى الله، تعالى، وخُتم له بالشهادة إن شاء الله، وقد اتُّهم باتهامات عديدة صعبة خشنة من قِبَل خصومه وبعض أصحابه، وبعد دراسة أقواله والاطلاع على أحواله، وسؤال بعض أقرانه ومعاصريه فإني أدين الله تعالى بأنه بريء منها، وقد ركب متهموه مركباً صعباً عندما اتهموه بها، ولا أجد فصلاً بينه وبين مَن اتهمه بها أفضل من قول أبي العتاهية:
إلى دَيّان يوم الدين نمضي وعند الله تجتمع الخصوم
نعم هو أديب وقع على الإسلام وأشرقت روحه وحَيِيَ قلبه به فتكلم في بعض أصول وفروع الشريعة بكلام رائع جليل أصاب في أكثره، وفي بعضه ما في كلام البشر من الخطأ، وما يصيبهم من الزيغ والزلل، لكن لا يصل إلى حد ما اتهمه به من اتهمه، فلم التشنيع والتهويل وكثرة العويل وعدم حمل كلام الرجل على أحسن محامله، ورد متشابهه إلى محكمه ومجمله إلى مبينه؟
ومنهم الأستاذ الكبير الأديب العالم أبو فِهرْ محمود محمد شاكر الذي كان له مواقف جليلة صدع فيها بالحق، وفَنّد فيها الباطل بقوة، وله كتب عظيمة صارت هادية للأجيال وموجهة لها ومرشدة، ولو لاين خصومه وتفاهم معهم لاجتمعت حوله القلوب والتف عليه الناس، لكنه -رحمه الله تعالى- كان يشتد عليهم اشتداداً لا يفرق فيه غالباً بين داعية للإسلام وعدو له، وبين محب للاسلام وشانىء ومبغض له، وهو بعد هذا كله قمة سامقة لا يستطيعها الرويبضات التافهون، وله الكتاب المشهور الذي لا يستطاع الإتيان بمثله ولا بنصفه، على وجازته وصغر حجمه، وهو " رسالة في الطريق إلى ثقافتنا " أبدع فيه أيما إبداع، وله أعمال أخرى جليلة، وآثار مضيئة.
وأما شعراء مصر الذين كان لهم أثر عظيم في تجديد الشعر العربي بعد مدة انحطاط طويلة فعدد كبير منهم الضابط المشارك في الثورة العرابية محمود سامي البارودي -وهو أول الكبار- وأحمد شوقي الذي قيل فيه: لم يأت بعد أحمد المتنبي مثل أحمد شوقي، ومنهم حافظ إبراهيم شاعر النيل، وأحمد محرم شاعر العروبة والإسلام، ومحمود غنيم.
ومن دعاة مصر الكبار:
الأستاذ الإمام محمد عبده الذي كان أحد المؤثرين الكبار في تاريخ مصر بل في تاريخ الإسلام الحديث، والرجل عليه بعض المؤاخذات -غفر الله له- لكن أثره وعمله ما زال يتردد في جنبات مصر إلى يوم الناس هذا، وتوفي -رحمه الله تعالى- سنة 1322/1905.
ومنهم الأستاذ محمد رشيد رضا الشامي ثم المصري، منشئ مجلة المنار في مصر، وهي المجلة التي ظلت ملاذاً لأهل الإسلام أكثر من ثلاثين سنة، وللشيخ رشيد آثار في التجديد، والاجتهاد في الدعوة إليه مشهودة معلومة، وظل شوكة في حلق أعداء الإسلام وفي حلق أنصاره من الجامدين المعارضين حتى أتاه اليقين سنة 1353/1935، رحمه الله تعالى.
ومنهم الأستاذ الإمام الشهيد -بإذن الله تعالى- حسن البنا، الذي لم يأت مثله –عندي- في مجموع صفاته وأحواله منذ شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- وذلك أنه أتى والإسلام قد درست معالمه، وانطمست مزاياه ومحاسنه، وأكثر أهله عنه مدبرون، وفي جدواه متشككون، ومن اطّلع على أحوال عصره علم ما قلته، وعرف صدق ما ادعيته، فأعاد إلى الإسلام ما امتاز به من الشمول، بعد طول أُفول، وأظهر ما فيه من جلال وجمال بعدما أصابه على يد أهله بسبب سوء الأفعال والأقوال. والرجل ليس ككل الرجال، فحسبكم دليلاً على ذلك أنه عاش أربعاً وأربعين سنة تقريباً جاهد فيها إخوان القردة في فلسطين والصليبيين الإنجليز في مصر، وترك من الأعمال والآثار ما يعجز عنه جماعة كبيرة من الرجال الأبطال، فهذا يدل -والله تعالى أعلم- أن لله به عناية، وأما ما اتهمه به خصومه فهو شِنشنة نعرفها من أَخْزم، واتهامات لم يقيموا عليها بينات جليّات، ولا دلائل واضحات فذهبت أدراج الرياح وبقي للرجل سيرته الناصعة البيضاء، وهو على كل حال بشر ليس بمعصوم، وله أخطاء وزلات كما لسائر البشر -حاشا الأنبياء والمرسلين عليهم صلوات الله وسلامه أجمعين - لكن الظلم كل الظلم هو تضخيم الأخطاء القليلات غير المقصودات ونسيان المحاسن الكثيرات، والمزايا الواضحات، والأعمال العظيمات.
ومنهم الأستاذ الداعية المنتسب إلى الجمعية الشرعية محمود عبدالوهاب فايد الذي وقف في وجه الطاغية العبد الخاسر، وصدع بالحق في زمن قَلّ فيه الصادعون، ونكص أكثر الناس من الخواص والعلماء والمشايخ وطلبة العلم على أعقابهم، يوم كان أكثر أبطال مصر في السجون أو المنافي، وكان له مواقف في مصر هي خالدة في ذاكرة التاريخ، وأرجو أن ينال بها أعظم المكافأة في الآخرة، إن شاء الله تعالى، وقد كتبت في هذه المجلة في حلقة من حلقات " عظماء منسيون في التاريخ الحديث " تفاصيل سيرته فلا أعود لها هاهنا.
وقريب من هذا الداعية الإمام ومن كان في الصدع بالحق مشهوراً أيضاً الأستاذ محمد أبو زهرة الذي كان له مواقف جليلة صدع فيها الطاغية العبد الخاسر بالحق البين الواضح فلم يملك له إلا أن جرّده من مناصبه وعزله عن وظائفه، وللآخرة خير له من الأولى، إن شاء الله تعالى.
ومنهم الشيخ عبد الحميد كشك الخطيب المِصْقَع الذي لم يأت مثله -عندي- منذ قرون، وكان له أكبر الأثر في إذكاء الصحوة الإسلامية، وله طريقة في الخطابة لا تبارى ولا تجارى، وهو فصيح بليغ الى الحد الأعلى من الفصاحة والبلاغة، ومن استمع لخطبه أدرك ما أقول، أما جمعه بين هذا كله وبين الدعابة واللطف والاقتراب من الجمهور فهو شيء جديد في الخطابة أجزم -والله أعلم- أنه لم يقع من قبل، وحسبه شرفاً أنه توفي وهو ساجد، فلله ما أحسن ميتته، وما أشرف خاتمته.
وإن ينس التاريخ أحداً من الناس فانه لن ينسى أبداً إن - شاء الله تعالى – جملة من الدعاة العاملين أصحاب المؤلفات النافعة والمواقف الرائعة منهم المشايخ والأساتذة محمد الغزالي، والبهي الخولي، ومحمود خطاب السبكي منشىء الجمعية الشرعية، ومحمد الفقي من جماعة أنصار السنة، والمحدث أحمد محمد شاكر، والتونسي المصري شيخ الأزهر محمد الخضر حسين، وشيخا الأزهر الصادعان الرئيس السادات بالحق: عبد الحليم محمود وجاد الحق، وعمر التلمساني، ومصطفى مشهور، وغيرهم كثير، رحمهم الله تعالى.
وفي مصرَ اليوم ثلة من الدعاة كان لها أثر عظيم في تصحيح مسيرة شعب مصر وكثير من الشعوب العربية والإسلامية، ولهم أيادٍ بيضاء لا تنكر في مجالات كثيرة، ولولا أني اشترطت على نفسي ألا أمدح إلا من انتقل إلى الدار الآخرة -حميداً سعيداً إن شاء الله- لذكرت جملة كبيرة منهم.
وكم لمصرَ من الأيادي البيضاء على الدول العربية والإسلامية، فقد علّم أساتذتها ومدرسوها كثيراً جداً من العرب والمسلمين، وكان من المصريين وما زال لهم دعاة مبثوثون في قارات الدنيا الست، لا تخطئهم العين، ولا يغيبون عن المواقع المهمة.
ولا يُنسى فضل مصر في معركة العاشر من رمضان سنة 1393/6 أكتوبر 1973 وإيقاف زحف إخوان القردة، وقد تحدثت عنها في مكان آخر، وهي أجلّ معركة في العصر الحديث وقائع ونتائج، والله أعلم.
وعقب تلك المعركة ظهرت الصحوة الإسلامية الجليلة الرائعة، التي أتى بها الله بنيان الكافرين والعلمانيين والمنافقين من قواعده، وهدم جُلّ مخططاتهم بهذا النورِ الذي بزغ شيئاً فشيئاً، واتسع نطاقه بعد ذلك ليعم بلاد مصر، بل معظم بلاد العالم، وللصحوة حديث جليل وتفصيل رائع لا يصلح له هذا السياق العَجِل، لكني ذكرت ذلك لأبين ريادة مصر الإسلامية في هذا الأمر، وفضلها على سائر الأقطار.
ولمصر قرّاء للقران هم أساتذة الدنيا في الإقراء وجودة التلاوة وحسنها وعلى رأسهم الثلاثة الذين ليس لبلد في الأرض مثلهم: الشيخ محمود خليل الحصري، وعبدالباسط عبدالصمد، ومحمد صديق المنشاوي، وقد يضاف إليهم الأستاذ محمد رفعت، وإن لم يبلغ -عندي- إتقانَ أولئك الثلاثة، لكن لصوته جلال وجمال قَلّ مثيله.
وفي مصرَ اليوم ثلة من علماء الشريعة لهم أيادٍ بيضاء على شعب مصر والشعوب العربية والإسلامية.
مختارات