ضرب الباطل ببعضه!
من أقوى مسالك الجدل والحجاج في المناظرات هو ضرب أقوال الطوائف المنحرفة بعضها ببعض، فمن المعلوم أن أهل البدع والضلال يحصل بينهم قدر واسع من المعارضة والنقض بينهم في المسائل والدلائل سواء كانت هذه المعارضة داخلية بين أئمة المذهب، أو كانت خارجيةً مع المذاهب الأخرى، كما كان متقدمو الأشاعرة بلا ريب أعظمَ من جالَدَ المعتزلةَ لا سيما إمام الأشاعرة أبو الحسن رحمه الله حتى نقل ابن تيمية أن (الأشعريَّ حجرَ –المعتزلة- في قمع السمسمة) بما بيَّنَ من تناقُضِ أصولهم واضطراب استدلالهم وذلك لما له من تاريخ اعتزالي طويل ورَّثه خبرةً واسعة بتفاصيل أقوال القومِ حين قصد تفكيكها
فيأتي السنيُّ الحاذق ويأخذُ أقوى ما احتجّ به الأشاعرة على المعتزلة ويضربَ به باطل أولئك، ويأخذ ما احتج به المعتزلة على الأشاعرة فيضرب به باطل أولئك، وهكذا، فيَفعل هذا المسلك الجدلي الشريف مع كل من اشتطَّ بقولٍ أو بدعة، بل إنه ليُنتفع بهذا المسلك حتى في المسائل الفكرية الاجتهادية أو الفقهية الفرعية، فإن الإيرادات على الترجيحات والمؤاخذات على الاختيارات لا تؤخذ عادةً من الموافق في الأصول أو الفروع.
وشيخ الإسلام -رحمه الله- أعظمُ من احتفى بهذا المسلك الجدلي في مجالداته للفرق والمذاهب المنحرفة، فيضرب حجج الروافض بحجج النواصب، وحجج الخوارج بحجج المرجئة، حتى إن من أشهر الأسباب الباعثة على الغلط في نسبة الأقوال للشيخ هو حينما يسلك هذا المسلك الجدلي الدقيق، فيخفى على الناظر الذي اعتاد على النظر البسيط مرادَ الشيخ فينسبَ إليه أقوالا لم ينتحلها ابن تيمية، وإنما كان يسوقُها في طورِ ضرب الباطل ببعضه!
وكعادة ابن تيمية لم يكن يسلك أمثال هذه المسالك الدقيقة تطبيقا دون وعي تام أو دون تنظيرٍ واسعٍ لها، وإنما شرح ونظَّرَ لهذا المسلك الجدلي في كتبه مرارا، وبيَّن مراده منه، فقال -على سبيل المثال-:
(أعظم ما يستفاد من أقوال المختلفين الذين أقوالهم باطلة، فإنه يستفاد من قول كل طائفة بيان فساد قول الطائفة الأخرى، فيعرف الطالب فساد تلك الأقوال، ويكون ذلك داعياً له إلى طلب الحق)
وقال:
(يستفاد من كلامهم نقض بعضهم على بعض وبيان فساد قوله فإن المختلفين كل كلامهم فيه شيء من الباطل وكل طائفة تقصد بيان بطلان قول الأخرى فيبقى الإنسان عند دلائل كثيرة تدل على فساد قول كل طائفة من الطوائف المختلفين في الكتاب)
وقال:
(فالمسلم إذا ناظر النصراني لا يمكنه أن يقول في عيسى إلا الحق، لكن إذا أردت أن تعرف جهل النصراني وأنه لا حجة له، فقدر المناظرة بينه وبين اليهودي، فإن النصراني لا يمكنه أن يجيب عن شبهة اليهودي إلا بما يجيب به المسلم، فإن لم يدخل في دين الإسلام وإلا كان منقطعاً مع اليهودي)
ولهذا المسلك الجدلي لمن يتأهل له شروطٌ ليس هذا موضع إيرادها، إنما المراد الإشارة العابرة لشرف هذا المسلك في النقض والاستدلال.
مختارات