فقه الحياة العالية - الجزء الرابع
متى نصل نحن إلى هذه المرتبة العالية؟
إن التعلق بالحور العين وما في الجنة من نعيم بالنسبة للموثق بالسفليات درجة رفيعة، وإذا كانت الفتنة بالحور العين قاطعة عن المراد المحبوب لذاته وهو الله، فكيف تكون حالنا وقد قَدَّمنا محبوبات الدنيا على أوامر الله عزَّ وجلَّ؟.
وقد سأل موسى - صلى الله عليه وسلم - ربه عن أعلى أهل الجنة منزلة فقال: «أولَئِكَ الَّذِينَ أرَدْتُ غَرَسْتُ كَرَامَتَهُمْ بِيَدِي، وَخَتَمْتُ عَلَيْهَا، فَلَمْ تَرَ عَيْنٌ وَلَمْ تَسْمَعْ أذُنٌ وَلَمْ يَخْطُرْ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ» قال: وَمِصْدَاقُهُ فِي كِتَابِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17)} [السجدة:17]» أخرجه مسلم (1).
وهل تليق هذه المنزلة العظيمة إلا بمن قَدَّم حب الله تعالى والشوق إليه على حب ما سواه، علماً بأن مَنْ نال مِنَ الله تعالى هذه المنزلة نال لا شك أعلى النعيم المخلوق من الحور والقصور وغيرها مما في الجنة.
فهذا العبد قد جرَّد المحبة لله وإن كان يريد من ربه خير الدنيا والآخرة، فهذه إرادة خالصة جذبت قلبه إلى ربه جملة كما قال سبحانه: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا (28)} [الكهف: 28].
فهذه حقيقة التوحيد والإخلاص: انجذاب القلب إلى الله تعالى بالكلية.
وهذا العبد لا يزال ربه يرقيه طبقاً بعد طبق، ومنزلاً بعد منزل إلى أن يوصله إليه، ويمكن له بين يديه، أو يموت في الطريق فيقع أجره على الله.
فالسعيد كل السعادة من أقبل على ربه، ولم يلتفت إلى ما سواه، فالأنس به سبحانه أعلى من كل ما يرجوه العابد من نعيم الجنة، والعبد يُّحجب عن الله بقدر إرادته لغيره، وليس معنى هذا أن الإنسان لا يريد من الله، أو يحتقر ما عظمه الله من نعيم الجنة كالحور، والمآكل والمساكن وغيرها، وإنما المقصود أن لا يحتجب العبد عن إرادة ربه لذاته، ولو لم يكن هناك جنة ولا نار.
ولو لم يوجب محبة الله عزَّ وجلَّ إلا أنه خالق العبد ومالكه وسيده، فضلاً عن عظمة أسمائه وصفاته وجماله وجلاله.
والقلوب مفطورة على حب الصور الجميلة، لكن المسلم مأمور ومتعبد بغض بصره؛ لئلا تنتقش الصور في قلبه فيعكف عليها محبة تصرف قلبه عما خُلق له من النظر في الآخرة إلى خالق الجمال سبحانه.
فكل محبة لما سوى الله صرف لما هو حقه لغيره، وهي ألم في القلب يُعذَّب به؛ لانصرافه عن فطرته التي فُطر عليها من محبة إلهه الحق.
فأعلى نعيم الجنة رؤية الرب عزَّ وجلَّ ومحبته وحلول رضوانه، ولهذا يكون اشتغال أهل الجنة بذلك أعظم من كل شيء كما قال - صلى الله عليه وسلم -: «يُلْهَمُونَ التَّسْبِيحَ وَالتَّحْمِيدَ، كَمَا تُلْهَمُونَ النَّفَسَ» أخرجه مسلم (1).
فهذا نعيم لا يشغل أهل الجنة عنه ولا يلهيهم ما بين أيديهم من النعيم المخلوق؛ لأن لذته أعظم مما هم فيه من النعيم.
وربهم من فوقهم يسلم عليهم، فينظر إليهم وينظرون إليه، وهو مستوٍ على عرشه الذي هو سقف الفردوس، فلا يلتفتون إلى شيء من النعيم ما داموا ينظرون إليه، حتى يحتجب عنهم، ويبقى نوره وبركته عليهم.
فالنفوس الزكية العلية تعبد الله لأنه أهل أن يُعبد ويُجل، ويُّحَب ويُعظَّم، ويُّحمد ويوقر، فهو لذاته مستحق للعبادة.
ولا ينبغي للعبد أن يكون كأجير السوء إن أعطي أجرةً عَمِل، وإن لم يعط لم يعمل، فهذا عبد الأجرة لا عبد المحبة والإرادة.
فالعارفون عملهم على المنزلة والدرجة، والعمال عملهم على الثواب والأجرة، وشتان ما بينهما.
وليس المراد عيب سؤال الله الجنة، فالعبد محتاج لذلك، وإنما العيب أن يكون مبلغ العلم ومنتهي الإرادة والطلب هو الجنة المخلوقة، والغفلة والغَيْبَة عن حقيقة التعبد والتأله للملك الحق.
وحتى لا يكون التعبد فقط لإحسان الله إلى عبده سواء في الدنيا أو الآخرة، بل يكون لذات المعبود سبحانه.
والله سبحانه يطلع على قلوب العباد، فأي قلب رأى فيه غيره سلط عليه إبليس كما قال سبحانه: {أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (83)} [مريم: 83].
وكل من عرف الله تعالى طابت له الحياة، وصفا له العيش، وهابه كل شيء، وذهب عنه خوف كل مخلوق، وأنس بالله، وقرَّت عينه بالله، وقرَّت به كل عين، وقرت عينه بالموت.
ومن عرف الله لم يبق له رغبة فيما سواه، وأحبه على قدر معرفته به وخافه ورجاه ولهج بذكره، واشتاق إليه، واستحيا منه، وأجلَّه وعظمه على قدر معرفته به.
ومن أحب الدنيا حتى صارت أكبر همه فليوطن نفسه على تحمل المصائب.
ومحب الدنيا لا ينفك من ثلاث:
هم لازم.. وتعب دائم.. وحسرة لا تنقطع..
ذلك أن محب الدنيا لا ينال منها شيئاً إلا طمحت نفسه إلى ما فوقه، فلو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى لهما ثالثاً.
ومحب الدنيا كشارب الخمر، كلما ازداد شرباً ازداد سكراً.
وأسعد الناس في الدنيا والآخرة هم أهل الإيمان والتقوى، والإحسان والإخلاص، الذين لا يفعلون شيئاً إلا ابتغاء وجه ربهم الأعلى، لا يريدون سواه كما قال سبحانه: {وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (17) الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى (18) وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى (19) إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى (20) وَلَسَوْفَ يَرْضَى (21)} [الليل: 17 - 21].
وهؤلاء هم الأنبياء ومن سار على هديهم.
وصاحب التقوى لا ينبغي له أن يتحمل من الخلق ونعمهم ومننهم، وإن حمل منهم شيئاً بادر إلى جزائهم عليه؛ لئلا يبقى لأحد من الخلق عليه نعمة تُجزى، ليكون عمله كله لله وحده، لا يفعل ما يفعله إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى وحده لا شريك له.
أما من تطوِّقه نِعَم المخلوقين ومننهم، فإنه مضطر إلى أن يفعل لأجلهم، ويترك لأجلهم.
وكل ذي نعمة يمكن جزاء نعمته إلا نعمة الإسلام، فإنها لا يمكن المنعم بها عليه أن يجزي بها من دعاه إليها.
فلهذا من كمال الإخلاص أن لا يجعل العبد عليه مِنَّة لأحد من الناس، لتكون معاملته كلها لله ابتغاءه وجهه، وطلب مرضاته وحده.
وهذا الذي وعده الله برضاه بقوله: {وَلَسَوْفَ يَرْضَى (21)} [الليل: 21].
وإنما يتم ذلك بطاعة الله ورسوله كما قال سبحانه: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (69) ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا (70)} [النساء: 69، 70].
مختارات